محسن سيدا
المدرسة الحمراء في جزيرة بوطان (جزيرة ابن عمر) شيدها الأمير شرفخان بن مير أبدال
في كتابه “أكراد سوريا، التاريخ، الديموغرافية، السياسة” يسعى الكاتب السوري مهند الكاطع جاهداً إلى نفي الوجود التاريخي للكرد في الجزيرة، مُجيّراً المصادر التاريخية الإسلامية لتصوّراته المُسبقة عن التاريخ الكردي بشكل عام والوجود الكردي في الجزيرة بشكل خاص.
يظهر للقارئ بجلاء ووضوح الانتقائية والاقصاء الممنهجين في تعاطي الكاتب مع المصادر التاريخية لبناء سردية تاريخية هشّة لا تصمد أمام النقد التاريخي. من المعروف بداهة أن أيّ باحث حين يقدم على كتابة بحث تاريخي فإنه يحمل تصوّراً مسبقاً عن بحثه، ولكن الأمانة العلمية تلزمه التخلّي عن تصوّره هذا عندما تواجهه نصوصٌ ووثائق تاريخيّة لا تعزّز هذا التصور أو منافية له. لكن يبدو أن الكاتب مهند الكاطع لا يعبأ بهذا ولا تهمه الأمانة العلميّة؛ لذلك فإنّه علاوة على الانتقائية الممنهجة التي سار عليها، لا يتوانى عن تحريف النصوص واجتزائها بما تنسجم مع طروحاته المنحازة إلى الأيديولوجية على حساب المعرفة التاريخية والموضوعية.
يقول المؤلف، صراحة، في مقدمة كتابه أن “التوثيق المكثف” (ص9) إنما هو لدحض بعض الأكاذيب، حسب زعمه، التي يرّوج لها الكرد من قبيل (الشعب الكردي في سوريا) و(المناطق الكردية في سورية) و(اضطهاد الأكراد في سورية). إذاً، ينطلق المؤلف من تصور مسبق هو نفي وجود الشعب الكردي في سورية واعتباره أكذوبة! غير أن القارئ الحصيف سرعان ما يجد أن “التوثيق المكثف” الذي وعدنا به الكاتب مُكرّس لغاية ايديولوجيّة تهدف إلى ترسيخ هذا التصور وأن التوثيق المزعوم غالباً ما يتحول إلى جمل إنشائية تفتقر إلى أدلة تاريخية.
لكي لا أُتهم بأنني أُلقي الكلام جزافاً وأنني أكيلُ تهماً مجانية للمؤلف سأناقش بعض المسائل التاريخية التي أثارها المؤلف في الباب الأول من كتابه وهو الباب المعنون ب “الجذور التاريخية والجغرافية للأكراد”.
يتمحور الباب الأول حول الموطن الأصلي للكرد وتاريخ هجرتهم منه ودلالات كلمة الكرد في المصادر العربية في العصور الوسطى والبداوة الكردية. هذه هي المحاور الأساسية التي ركز عليها الكاتب والتي سأناقشها تباعاً.
يقول الكاتب أن الكرد خرجوا من مناطقهم التقليدية في إقليم الجبال ابتداء من القرن الثامن الميلادي، معتمداً على كتاب الباحث الأرمني أرشاك بولاديان المترجم للعربية بعنوان “الأكراد من القرن السابع الى القرن العاشر الميلادي” وأورد بولاديان هذه المعلومات في معرض حديثه عن مهن الكرد ولغاتهم وسبق أن أشار في فصول عدة من كتابه المذكور إلى المناطق التي يسكنها الكرد في الجبال والجزء الشمالي من ولاية الموصل وفي أقاليم إيرانية ( ص63) وحسب قراءة بولاديان فإن المصادر العربية تؤكد وجود الأكراد في الجبال والموصل وفارس وخوزستان وغيرها أثناء حديثها عن الفتوحات العربية ويضيف أن المصادر بدأت تتحدث منذ بداية القرن العاشر الميلادي عن وجود الكرد في أماكن أخرى عديدة (ص133) كما أفرد عنواناً فرعياً عن القبائل الكردية في الموصل والجزيرة (ص135) هذه الشواهد وغيرها لا تسترعي انتباه الكاتب مهند الكاطع ولا يتناولها سلباً أو إيجاباً بل يكتفي بإيراد نص يحاول من خلاله تمرير فكرته لكن بعد إخراجه عن سياقه وإخضاعه لعمليات الحذف والإضافة. لنقارن الآن بين نصي الكاطع وبولاديان.
يكتب بولاديان في معرض الحديث عن مهن الكرد ولغاتهم، كما نوهت سابقاً: “إن تنقلات القبائل الكردية كانت مرتبطة قبل كل شيء بالرعي وتربية المواشي، ولهذا السبب وغيره من الظروف العسكرية والسياسية بدأت القبائل الكردية، واعتباراً من القرن الثامن تقريباً، بالهجرة إلى مناطق أخرى في أنحاء دولة الخلافة” (ص153)
أما الكاطع فيكتب “بدأت القبائل الكردية ابتداء من القرن الثامن للميلاد بالهجرة خارج مناطقهم التقليدية في إقليم الجبال إلى مناطق جديدة في أنحاء دولة الخلافة لأسباب تتعلق بطبيعة حياة القبائل الكردية التي تتنقل، لارتباطها بالرعي من جهة ولأسباب أخرى عسكرية وسياسية” (ص36) ويحيل الكاطع القارئ إلى كتاب بولاديان ولكن كما هو واضح أعلاه، فإن بولاديان لم يذكر عبارة “إقليم الجبال” فهي إضافة منه ليعزز وجهة نظره في اعتبار أن إقليم الجبال هو الموطن الكردي الحصري ومنه انتشر الكرد إلى بقية المناطق ويتعمد إغفال كل ما أورده بولاديان من شواهد وأدلة عن إقامة الكرد (في الجبال والجزء الشمالي من ولاية الموصل وفي اقاليم ايرانية) (63) وغيرها من المناطق.
كما يتعامل الكاطع بالانتقائية ذاتها عند استشهاده بكتاب (صورة الأرض) لابن حوقل إذ يتجاهل ما ذكره ابن حوقل عن وجود الكرد في إقليم الجزيرة وضمنه الموصل، وينقل الكاطع عن ابن حوقل بطريقة تخلّ بسياق النص ويطوّعه بما يخدم رؤيته. فيكتب: “أما ابن حوقل في كتابه الشهير (صورة الأرض) فإنه يحدد مصايف ومشاتي الأكراد في “اقليم الجبال” مذكراً بأن الجبال مسكونة بالقبائل الكردية مثل الحميدية واللرية والهدبانية فضلاً عن أكراد شهرزور وسهروارد” (ص 35). من خلال عرض النص الأصلي سيتبيّن للمتلقي الانتقائية الممنهجة للكاتب، إذ يقول ابن حوقل:
“….والذي يحيط بالجبال الصعبة من حد شهرزور إلى آمد فيما بين حدود أذربيجان والجزيرة ونواحي الموصل……………. فلا يرى فيها مرحلة واحدة في سهل وهذه الجبال مسكونة مأهولة بالأكراد الحميدية واللارية والهذبانية، وغيرهم من أكراد شهرزور وسهرورد….” (صورة الأرض، القسم الثاني، ص315). صحيح، أن ما ذكره ابن حوقل أعلاه جاء في فصل إقليم الجبال إلا أن حديثه هنا لا يشمل إقليم الجبال بالمعنى الإداري، فكلمة الاقليم إضافة من الكاتب، وقد تعمد عدم ذكر الكرد في الفصل المخصص للجزيرة في كتاب ابن حوقل الذي تحدث عن انتشار القبائل الكردية، المذكورة آنفاً، فيها. يقول ابن حوقل في سياق حديثه عن الموصل: “….. وهي فرضة لأذربيجان وأرمينية والعراق والشآم، ولها بواد وأحياء كثيرة تصًيف في مصائفها وتشتو في مشاتيها من أحياء العرب وقبائل ربيعة ومضر واليمن، وأحياء الأكراد كالهذبانية والحميدية واللارية…. ” (صورة الأرض، القسم الأول، ص195). لقد ذكر الجغرافي ابن الفقيه (توفي بعد سنة 903م) في معرض تعريفه لحدود الجزيرة، أن القائد عتبة بن فرقد السلمي نجح عام 20 للهجرة في “فتح المرج وقراه وأرض بانهدرا وداسن وجميع معاقل الأكراد” (كتاب البلدان ص177 وذكر المؤرخ الجزري ابن الأثير (1160 – 1234م) رواية ابن الفقيه في حوادث سنة 16 للهجرة، فتحدث عن سير العمليات العسكرية التي قادها فرقد السلمي قائلاً: “وعبر دجلة، فصالحه أهل الحصن الغربي وهو الموصل على الجزية، ثم فتح المرج، وبانهدرا، وباعذرا، وداسن وجميع معاقل الأكراد. وقردي وبازبدي، وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين “(ابن الأثير، الجزء الثاني، ص349). كما تحدث المؤرخ والجغرافي المسعودي (896- 957م) بإسهاب عن التوزع الجغرافي للقبائل الكردية وأشار إلى وجود قبيلتين كرديتين نصرانيتين وهما قبيلتا الجورقان (الجوزقان) واليعقوبية وذكر أن “ديارهم مما يلي بلاد الموصل وجبل الجودي” (مروج الذهب، ج2، ص 97).
وقد أطلق المؤرخ الموسوعي فضل الله العمري (1301 – 1349م) في القران الرابع عشر الميلادي اسم “جبل الأكراد” على جبل الجودي (التعريف بالمصطلح الشريف ص202). لقد أورد الكاتب مهند الكاطع في ثبت مصادره ومراجعه كتاب “تاريخ ابن شداد” والمقصود به كتاب “الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة” لكن كمألوف عادته في تجاهل الشواهد التاريخية المؤصِّلة للوجود الكردي في الجزيرة يتجاهل ما أورده ابن شداد عن الكرد في الجزيرة. ففي سياق حديث ابن شداد عن جزيرة ابن عمر وهو ينقل عن أحد جغرافيي القرن العاشر الميلادي وهو ابن الواضح، يقول: “.….وعدَ ابن واضح في كور ديار ربيعة جزيرة الأكراد، واظنها هذه الجزيرة، وأنها كانت تعرف بذلك قبل أن يختطها ابن عمر التي نسبت إليه” (القسم الأول، الجزء الثالث، ص 213)، هذا ليس الشاهد الوحيد الذي تجاهله الكاتب وهو يحثً (الكرد) هكذا بصيغة الاطلاق، وليس كتاب الكرد، في كتابه على ضرورة اتباع منهجية “بعيداً عن الاسقاطات الايديولوجية المسبقة” (ص45) أليست التحيزات الايديولوجية هي التي دفعته إلى إقصاء نصوص أنتجتها الحضارة الإسلامية لمؤرّخين عرب من القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين وعلى سبيل المثال ابن شداد الحلبي وابن فضل الله العمري الدمشقي؟ أليست هذه من المفارقات التي تسترعي الانتباه والتأمل؟
لقد أورد الكاتب بعض الشواهد التي تتحدث عن وجود الكرد في الجزيرة وخارج إقليم الجبال لكنه حاول جاهداً إخراجها عن سياقاتها وذلك بالتحريف والتزييف تارةً أو التأويل حسب ميوله تارةً أخرى. تحت عنوان فرعي وهو “التداخلات الانتروبولوجية والأحلاف القبلية” ومن خلال عرض نصه يتبين تدخَله لزحزحة النص عن سياقه وذلك لإبعاد الكرد عن الجزيرة، فيقول: “…ويتحدث ابن فضل الله العمري عن المناطق التي يسودها بنو شيبان من جبال طور عابدين حتى أذربيجان ويذكر أنه لا يخالطهم هناك – أي: في أذربيجان إلا الأكراد” (ص26). بدايةً، ليس لفضل الله العمري علاقة بهذا النص لا من بعيد ولا من قريب، فإيراد اسمه هنا خطأ فادح من المؤلف، فالنص، للهمداني كما هو مثبت في إحالة الكاتب إلى الهوامش ولن أتوقف هنا عند بعض الأخطاء التي اقترفها الكاتب في إيراد هذا الشاهد وعلى سبيل المثال تنسيب النص الى فضل الله العمري في المتن والخطأ في رقم الصفحة، فالنص في الصفحة 133 وليس 132 كما في إحالة المؤلف.
سيرى القارئ خلال عرض نص الهمداني هذه الأخطاء والهفوات، وهي كثيرة في كتابه، التي يمكن تجاوزها لأنها لا تساوي شيئاً لقاء اقتراف الكاتب هتك الأمانة العلمية في نقل النص. ولبيان ذلك أورد نص الهمداني كما هو، إذ يقول: “……. وإن أردت بعد أرض الموصل مررت بتكريت وكان الثرثار عن يمينك وأكثر أهل الموصل مدحج وهي ربعيَة، فإن تياسرت منها وقعت إلى الجبل المسمى بالجودي يسكنه ربيعة وخلفه الأكراد وخلف الأكراد الأرمن……. ثم يقع في جبل الطور البري وهو أوّل حدود دياربكر وهو لبني شيبان وذويها ولا يخالطهم إلى ناحية خراسان إلا الأكراد، وأمّا ما بين بغداد والبصرة مما يلي الشمال وخراسان فديار بني راسب الجرميّة….” (صفة جزيرة العرب، الجزء الأول، ص133) إن نص الهمداني العائد إلى القرن العاشر الميلادي دليل على انتشار الكرد من طور عابدين[1] باتجاه الجنوب في العراق وليس باتجاه أذربيجان، وهو في ذات الوقت مستند تاريخي على العيش المشترك بين الكرد والعرب في الجزيرة ولكن، هذا النص، قطعاً، لا يصلح كشاهد على احتكاك العرب الشيبانيين بالكرد في “أذربيجان” وكما هو واضح من سياق نص الهمداني أن المقصود بخراسان هو إيران؛ وهذا يتضح من خلال تعريف ياقوت الحموي لخراسان (معجم البلدان، المجلد الثاني، ص350) وفي بعض الأدبيات الإسلامية أصبحت خراسان الاسم الجامع لإيران وشرق العراق، وليس لأذربيجان علاقة بنَصّ الهمداني كما ذهب المؤلف الذي يتضح أن هدفه واضح وهو إبعاد الكرد باتجاه المناطق الشرقية لتدعيم فكرته. فتبديل خراسان بأذربيجان جاء في سياق “المنهجية” الخاصة المتبعة في الكتاب! إن المؤلف، كما مرّ معنا آنفاً، نسب نص الهمداني إلى المؤرخ الموسوعي فضل الله العمري الدمشقي، أي أنه قوّله ما لم يقله وغيّب ما قاله فضل الله العمري عن الوجود الكردي في الجزيرة وهذا بالضبط ابتعاد عن المنهجية ودخول فَجّ في دائرة تجيير النصوص لصالح ايديولوجيات معاصرة لا علاقة لها بمنهجية البحث التاريخي. يشير العمري في موسوعته “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” إلى جغرافية بلاد الكرد وانتشار قبائلهم وحياتهم الاجتماعية ومن خلال المقارنة بين مفهوم اقليم الجبال لدى جغرافيي القرن العاشر الميلادي مع مفهوم فضل الله العمري له، يستخلص المرء سعة “مملكة الجبال” في عهد الأخير إذ أنه ضم بعض المناطق الى مملكة الجبال وقد كانت من أقاليم أخرى في أزمنة سابقة وهذا يؤكد أن التقسيمات كانت لاعتبارات إدارية وعرضة للتبدل حسب الأزمنة والبلدانيين. ويستدل من معلوماته القيمة سعة بلاد الكرد وتداخلها بين السهول والجبال وغناها بالموارد الزراعية وهي معلومات أوردها جغرافيٌ عاين بلاد الكرد وقبائلهم عن قرب وهنا تكمن القيمة العلمية لها. لم يرم العمري في الفصل المخصص عن الكرد إلى تدوين القبائل والطوائف الكردية كافة لعدم معرفته بها أو لعدم أهميتها كما يصرّح بنفسه، فحديثه عن الكرد بالدرجة الأولى منصبٌّ على القبائل العريقة الحاكمة والتي كان على دراية بأحوالها ومواطن سكناها إذ يقول في هذا السياق: “… لم أذكر من عشائرهم إلا من كنت به خبيرا، ولم اسم فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة، تبدأ بجبال همذان وشهرزور وإربل وتنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار إلى الموصل، ونترك ما وراء نهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود، إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين وهم لكل من جاورهم من الأعداء الماردين، مع أن أماكنهم ليست منيعة ومساكنهم للعصيان غير مستطيعة…..” [مسالك الأبصار، السفر الثالث، ص 124 – 125] يتحدث العمري في هذا النص بشكل جلي عن أكراد السهل في الجزيرة وقرى ماردين، وفي القرن التاسع عشر أصبحت ماردين وضواحيها، ضمناً نصيبين، جزءا من إيالة كردستان العثمانية. (سالنامه الدولة العثمانية لعام 1274ﮪ ص113 رقمها في الارشيف 144، انظر الملحق رقم 1).
في القرن الرابع عشر الميلادي زار الرحالة ابن بطوطة، المعاصر لفضل الله العمري، مدينة سنجار في بلاد الجزيرة وكتب أن “أهل سنجار أكراد، ولهم شجاعة وكرم” (ابن بطوطة، الجزء الأول، ص246). وفي ظل التقسيمات الإدارية للدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي أُلحقت سنجار بولاية كردستان العثمانية (الدولة العثمانية في المجال العربي ص383، انظر الملحق رقم 2) وجدير ذكره هنا أن صلاح الدين الأيوبي تمكن من دخول سنجار.، بعد حصارها، بمساعدة بعض الأمراء الكرد من القبيلة الزرزارية الذين كانوا داخل المدينة. (ابن الأثير، الجزء التاسع، ص 466).
يستشهد المؤلف ببعض النصوص التاريخية التي تتحدث عن الكرد في الجزيرة والتي لا يمكن تفنيدها، لكنه يحاول توظيفها لمقولاته المنافية للحقيقة التاريخية والتي يسعى إلى تكريسها في ذهن قارئه لتصبح هي الحقيقة. كان حريّاًّ بالكاتب هنا اتباع “منهجيته” الخاصة في التجاهل والتي ينتهجها عند اللزوم وخاصة في مجال تجاهل وإقصاء النصوص بدلاً من استخدام لغة الإيماء والإيحاء ليبدو النص داعماً لفكرته. يستشهد الكاتب بالرحالة الأندلسي ابن جبير، الذي زار خلال رحلته بعض المدن الجزرية ومنها مدينة نصيبين، فيقول: “وبقيت الجبال مساكن الأكراد في المناطق التي تغلغلوا فيها في الجزيرة والموصل، ونجد ذلك التأكيد عند ابن جبير الأندلسي (توفي 614ﮪ) الذي يذكر في رحلته، نهاية القرن السادس الهجري (580ﮪ 1184م)، مساكن الأكراد في الجبال المنيعة القريبة من الموصل ونصيبين ودنيصر في زمانه، وكيف أنهم كانوا يشنون الغارات في تلك النواحي، حتى أنهم كانوا أحياناً يصلون إلى أبواب نصيبين”. (ص 37). لست أدري كيف استنتج الكاتب من نص ابن جبير تغلغل الأكراد في الموصل والجزيرة؟ ثم من أين أتى هؤلاء الكرد المتغلغلون؟ طبعاً الجواب هو: أنهم أتوا من الجبال، وأين تقع هذه الجبال، أليست في الجزيرة؟ أليس المقصود هنا هو جبل طور عابدين؟
لنعد إلى نص ابن جبير ونرى ماذا كتب خلال رحلته وهو يغادر مدينة نصيبين وأترك المقارنة لنباهة القارئ:
يقول ابن جبير: “.…….. فتمادى سيرنا إلى أول الظهر، ونحن على أهبة وحذر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل إلى نصيبين إلى دنيصر يقطعون السبيل ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يعن الله سلاطينها على قمعهم وكفَ عاديتهم، منهم ربما وصلوا في بعض الأحيان إلى باب نصيبين، ولا دافع لهم ولا مانع إلا الله، عزّ وجلَ” (رحلة ابن جبير، ص215) يتضح من نصّ ابن جبير تحصّن الكرد في جبال طور عابدين وقد سبقه كل من المسعودي والهمداني في القرن العاشر الميلادي في الإشارة إلى الكرد في منطقة طور عابدين الواقعة بين جزيرة ابن عمر ونصيبين وآمد. إن كتابات المؤرخين المسلمين لا تتحدث عن هجرة للقبائل الكردية إلى الجزيرة ومن الصعوبة بمكان، حتى الآن، معرفة الفترة الزمنية التي انحدر فيها الكرد من الجبال وعبروا نهر دجلة واستوطنوا الجزيرة إلى جانب شعوب أخرى. وقد ساهم اعتناق الكرد للإسلام في توسع جغرافية بلادهم على حساب جغرافية الأقوام المسيحية الأمر الذي حصل للعرب أنفسهم. والسؤال الذي يمكن طرحه الآن، هو: ما الذي حال بين الكرد ونزولهم من الجبال واستقرارهم في سهول الجزيرة في عهود كانت الجزيرة خاضعة للفرس الساسانيين والبيزنطيين؟ ألا يحتاج سكان الجبل إلى بيع منتجاتهم في أسواق السهول وشراء احتياجاتهم منها؟
يرى الكاتب أن العصر العباسي بشكل خاص شهد انتشاراً واسعاً للأكراد. إذ يقول: “وقد شهد العصر العباسي بشكل خاص انتشارا واسعاً للأكراد حتى وصلوا لأول مرة إلى نواحي ديار بكر في الجزيرة، قاطعين نهر دجلة باتجاه الغرب، واستمر وصول الأكراد على شكل غزوات غير مستقرة غالباً على أرياف بلدات الجزيرة، كالحوادث التي يذكرها ابن الأثير من هجمات الأكراد أيام الزنكيين على أعمال ماردين” (ص36)
ينطوي هذا الكلام على جملة من المغالطات وهو أقرب إلى الإنشاء منه إلى التوثيق التاريخي “المكثف” الذي وعدنا به الكاتب. لقد دام حكم العباسيين من سنة 750م – 1258م أي ما ينوف على خمسة قرون، فكلام المؤلف عن انتشار الكرد في العهد العباسي كلام فضفاض ولا يعوّل عليه. كان أولى به أن يحدد أو يقرب الفترة التاريخية التي شهدت انتشار الكرد في الجزيرة كما فعل الباحث أرشاك بولاديان الذي يعتمد عليه الكاتب كثيراً. إذ يرى بولاديان إن انتشار الأكراد في الجزيرة وفي جميع أنحاء ولاية الموصل بدأ منذ عهد الخلفاء العباسيين الأوائل (الأكراد من القرن السابع إلى العاشر، ص64)، وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحديث يجري عن انتشار الأكراد في التاريخ الذي ذكره بولاديان وليس عن الوجود الكردي في الجزيرة، إذ سبق لبولاديان أن عزاه الى أيام الفتوحات.
أما بخصوص عبور الكرد لنهر دجلة فما زال الغموض يكتنف تاريخ عبورهم لنهر دجلة، ويرى المستشرق أوبنهايم أنه من غير المعروف بعد زمن عبور الأكراد أعالي دجلة وتوجههم نحو الغرب ( البدو، الجزء الأول، ص 110) أما كيف استنتج الكاتب وصول الكرد أول مرة إلى نواحي دياربكر فهذا ما لا يفصح عنه الكاتب ولا يقدم سنداً تاريخيا عليه. ومن خلال استشهاد المؤلف بابن الاثير سنجد حجم المغالطة التاريخية التي أوقع نفسه فيها إذ يتجاهل المعلومات الواردة في الجزء السابع من كتاب ابن الأثير والتي تخص تاريخ الكرد وقبائلهم في اقليم دياربكر ويصرف النظر عن “ذكر ابتداء دولة بني مروان” الكردية في دياربكر وميافارقين والتي دام حكمها قرابة مئة عام ليقفز إلى الجزء الثامن من كتاب ابن الأثير والمخصص لابتداء الدولة السلجوقية والحروب الصليبية ويتجاهل كل المعلومات الواردة عن الكرد في هذا الجزء خاصة النصوص والشواهد المتعلقة بالقبيلتين الكرديتين البختية والبشنوية، والجدير بالذكر أن شرفخان البدلسي أورد رواية مفادها أن الأكراد في مجملهم ينحدرون من نسل بجن وبخت (شرفنامه ج1،ص 175) أي البشنوية والبختية وتشير المصادر التاريخية الإسلامية إلى أن جزيرة ابن عمر وقلعة فنك كانتا موطناً للقبيلتين السالفتين ويجدر ذكره أن مدينة جزيرة ابن عمر أو “جزيرا بوتان” باللغة الكردية قد أنجبت، في القرن السادس عشر الميلادي، شاعراً كردياً عظيماً هو ملا احمد الجزري، الذي شبَه نفسه في إحدى قصائده ب “سراج ليل كردستان” (ديوان الجزري، ج2، ص 817). فالشاعر يعبّر عن علاقة وجدانية بمسقط رأسه كردستان، بغض النظر عن المدلول الجغرافي لكردستان في العهد العثماني ومن الطبيعي أن تتبدل المفاهيم الجغرافية من عصر إلى آخر، فديار العرب في كتابات البلدانيين المسلمين هي غير الوطن العربي لدى القوميين العرب في الوقت الحالي، وإطلاق اسم كردستان لم يكن اعتباطيا كما اراد الكاتب إيهام القارئ، وكلامه عن أن اسم كردستان كان يطلق أحيانا ً حتى على قرية ما (ص46)، ليس له أساس من الصحة التاريخية ويتبخر هنا “التوثيق المكثف” ليلجأ الكاتب إلى الإنشاء.
والحال هذه مع “المنهجية” الخاصة للمؤلف فلا شيء سيدعو للاستغراب من تجاهل المؤلف للنصوص والشواهد الداعمة للوجود الكردي في الجزيرة في الجزء الثامن من كتاب ابن الأثير وتمسّكه بخبر ورد ضمن حوادث سنة 498ﮪ التي وردت فيها رواية تتحدث عن غزوات الكرد على أرياف بلدات الجزيرة أيام الزنكيين، علماً أن السلاجقة هم من قضوا على الدولة المروانية الكردية التي شمل حكمها بعضاً من المدن الجزرية كآمد وميافارقين ونصيبين والرها…الخ. مع الأخذ في الحسبان أن حدود الدول ليست بالضرورة تطابقها مع حدود الأقوام. ومن خلال عرض نص ابن الأثير سيرى القارئ أن الأكراد القاطنين بأرياف ماردين يطمعون بالسيطرة على قلعة ماردين ويأتي هذا ضمن سياق الصراع بين أمراء السلاجقة أنفسهم من جهة والصراع بين الكرد والسلاجقة من جهة أخرى. يقول ابن الأثير “وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغنّي، واغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات، فراسله ياقوتي يقول: قد صار بيننا مودة وصداقة، وأريد أن أعمّر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد…….” (الكامل في التاريخ، الجزء الثامن، ص 510)
لقد أورد ابن الأثير هذه الرواية في سياق حديثه عن محاولة سيطرة سقمان بن أرتق على ماردين التي أقطعها السلطان بركيارق لمغن كان عنده. وهذه الرواية أوردها ابن شداد وابن خلدون بصيغ تؤكد وجود الكرد واستقرارهم حول أطراف قلعة ماردين، أي في سهل ماردين الفسيح الذي يحتضن ضريح الشيخ موسى بن ماهين الكردي الزولي[2]، المعاصر للشيخ عبد القادر الكيلاني. وإذا كان لا بد من توظيف رواية ابن الأثير فيمكن تناولها من زاوية الصراع بين الأرياف والمدن أو محاولات الأكراد استعادة دورهم بعد سيطرة السلاجقة.. يقول ابن خلدون في معرض ذكره لاستيلاء سقمان بن أرتق على ماردين: “كان هذا الحصن في دياربكر أقطعه السلطان بركيارق لمغن كان عنده وكان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها واتفق أنّ كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لانجاده ولقيه كربوقا ومعه زنكي بن آقسنقر وأصحابه وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديداً فانهزم وأسر ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي مدة محبوساً وكثر خروج الأكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي إلى المغني يسأله أن يطلقه ويقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط” (ابن خلدون، الجزء الخامس، ص 42) ويورد ابن شداد هذه الرواية فيقول: “.….. وكان من بنواحي ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها فلا يزالون يشنون الغارات على أطرافها… “ (الأعلاق الخطيرة، الجزء الثالث، القسم الأول، ص147)
إن منطقة الجزيرة، بمفهومها الواسع، والتي تحدثت عنها نصوص ابن حوقل والهمداني وابن جبير وابن شداد وفضل الله العمري جرت فيها معركة قره غين دده أو معركة قوج حصار (جنوب ماردين، محاذية للحدود التركية- السورية الحالية) بين العثمانيين والصفويين عام 1516 م وحسب المؤرخ العثماني خوجه سعد الدين أفندي (1536 – 1599م) مؤلف كتاب تاج التواريخ فإن المعركة أسفرت عن هزيمة الصفويين وكان من نتائجها اعتبار “كل الأراضي الكردية (أي بعض أجزاء منطقة دياربكر وماردين) من البلاد العثمانية” (الدولة العثمانية في المجال العربي، ص250 -251) وفي سالنامات ولاية حلب عدَ عام 923 للهجرة عام “خضوع أمراء الكرد لآل عثمان” (سالنامه ولاية حلب، عام 1284ﮪ، ص25، انظر ملحق رقم 3)
في ضوء النصوص السابقة يحق لنا أن نسأل الكاتب أين هي غزوات الكرد “غير المستقرة”، وفق تعبير الكاتب، على أرياف بلدات الجزيرة؟ إن عمليات السلب والغزو وقطع الطريق هي جزء من النسق الثقافي لشعوب المنطقة وعلى وجه الخصوص الكرد والعرب والترك وليس من الموضوعية تناولها بمفاهيمنا العصرية.
لقد عرضت بعض النماذج من اقتباسات المؤلف ليكون القارئ على بينة من “منهجية” المؤلف وموضوعيته التي أراد أن يوهم القراء بأنه يلتزم بقواعد البحث العلمي وسأتناول لاحقاً بقية المسائل التي تطرق اليها كالبداوة الكردية والتي يصورها، من حيث لا يدري، ك “بداوة مستقرة” وحسب رأي الكاتب فالإنسان الكردي بدوي وفي نفس الوقت ينتمي إلى قبائل مرتبطة بالأرض لا بالنسب، كما سأتناول دلالات مصطلح “الكرد والأكراد” الذي لم يتخذ “في مختلف مصادر القرون الوسطى” أي مدلول عرقي حسب رأيه. بالإضافة إلى موضوعات أخرى كالوجود الكردي في المناطق الكردية السورية وعلى سبيل المثال لا الحصر منطقتي كوباني وعفرين.
يتبع …
===========
= المصادر والمراجع:
كاطع، مهند، أكراد سورية، التاريخ – الديمغرافية – السياسة. دار القناديل، العراق، بغداد. 2020م.
بولاديان، أرشاك، الأكراد من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي وفق المصادر العربية. نقله إلى العربية مجموعة من المترجمين/ الناشران: دار الفارابي، بيروت – لبنان. دار آراس – أربيل – اقليم كردستان / الطبعة الأولى: كانون الأولى 2013.
ابن حوقل، أبي القاسم بن حوقل النصيبي، صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت – لبنان. ط 1992م.
ابن الفقيه، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن اسحاق الهمذاني، كتاب البلدان، تحقيق، يوسف الهادي، منشورات عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى عام 1996م.
ابن الأثير، عزالدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد أبي عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، الكامل في التاريخ، حققه واعتنى به الدكتور عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان. ط 2012م.
المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، اعتنى به وراجعه كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت. الطبعة الأولى 2005م
فضل الله العمري، شهاب الدين أحمد، التعريف بالمصطلح الشريف، مطبعة العاصمة بمصر سنة 1312ﮪ على نفقة صاحبها محمد مسعود.
ابن شدّاد، عزالدين محمد بن علي بن إبراهيم، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، القسم الأول، الجزء الثالث، حققه يحيى عبارة، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق – سورية 1978م.
الهمداني، أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود الهمداني، صفة جزيرة العرب، طبع في مدينة ليدن المحروسة بمطبع بريل سنة 1883 المسيحية.
ياقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي، معجم البلدان، دار صادر – بيروت.
فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، السفر الثالث، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية 1988م، طبع بالتصوير عن مخطوطة 2797-2، أحمد الثالث طوب قابي سراي – اسطمبول. نشرها الباحث التركي فؤاد سزكين مع علاء الدين جوخشا ايكهارد نويباور.
ابن بطوطة، محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. قدّم له وحققه الشيخ محمد عبد المنعم العريان، راجعه وأعدّ فهارسه الأستاذ مصطفى القصّاص. منشورات دار إحياء العلوم. بيروت – لبنان. الطبعة الأولى: 1987م.
ابن جبير، أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، رحلة ابن جبير، منشورات دار صادر، بيروت – لبنان.
أوبنهايم، ماكس فون، البدو، تحقيق وتقديم ماجد شبر، ترجمة محمود كبيبو، دار الورّاق، لندن، عام 2007.
البدليسي، شرفخان، شرفنامه، الجزء الأول، ترجمه الى العربية محمد علي عوني، راجعه وقدم له يحيى الخشّاب، دار الزمان، دمشق – سوريا، الطبعة الثانية 2006م.
الجزري، ملا أحمد، ديوان الجزري (العقد الجوهري في شرح ديوان الشيخ الجزري)، شرح ملا أحمد الزفنكي، منشورات نوبهار، اسطمبول، 2013.
ابن خلدون، عبد الرحمن، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس الأستاذ خليل شحادة، مراجعة الدكتور سهيل زكار. دار الفكر – بيروت – لبنان. 2000م.
بيات، فاضل، الدولة العثمانية في المجال العربي، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2007م.
[1]