رفعة عبد الرزاق محمد
في عام 1985 عرفني المرحوم عبد القادر البرّاك ، فقيد الصحافة والادب ، على احد الصحفيين العراقيين البارزين في الجيل الماضي ، وهو الاستاذ منير رزوق ، المتوفى عام 1989 . فأجريت معه بعض الاحاديث التي لها صلة بتاريخه الصحفي والادبي ،
فذكر العديد من ذكرياته ومروياته الطريفة . ومما حدثني به انه اجرى حديثا مع الاستاذ العلامة #توفيق وهبي# (1889-1984) مع مجموعة من وجوه المجتمع العراقي في الخمسينات من القرن الماضي ممن تسنموا مراكز سياسية وعلمية مختلفة . وقد تفضل الاستاذ رزوق وقدم لي ماسجله من حديث مع توفيق وهبي ، وما تضمنه من ذكريات وانطباعات وتداعيات شائقة . ومن هذه الذكريات ما اجاب به السائل عن حادثة عجيبة صادفته في حياته ، وكان لها الوقع العميق في نفسه .
ذكر الاستاذ توفيق وهبي انه في سنة 1911 ، أنتُدب مع عدد من الضباط في الجيش العثماني ، لتقديم اسلحة للثوار في ليبيا لمساعدتهم في حربهم ضد الايطاليين ... وبينما كانت البعثة تسير في صحراء ليبيا ، اذا بتوفيق وهبي يفقد اصدقاءه وسط الصحراء القاحلة ، وعبثا فتش عنهم وبحث وكأن الارض قد انشقت وابتلعتهم . فتاه في الصحراء ، ولم يكن معه من زاد سوى رغيف خبز وقليل من ( الحلاوة ) . وكانت معه ايضا بوصلة صغيرة راى فيها الامل الوحيد في النجاة . ومضى يسير على هديها الساعات الطوال فوق الرمال الجافة ، وكان اشد ما يخيفه ان تهاجمه الذئاب على حين غرّة ، ولم يجد عنده من سلاح سوى سكين صغيرة ، كما كان اشد ما يحيره انه ما كاد يسير قليلا حتى يجد نفسه في المكان نفسه الذي بدأ منه ، ومضى على هذه الحالة نهارا كاملا وليلة ، فأيقن انه كتب عليه ان يموت فوق رمال الصحراء ، بعيدا عن وطنه وأهله .
ولكن .. قبيل انبثاق الفجر ، وبينما كانت افكار الموت تراوده ، اذ به يسمح نباح كلاب ، فكان لهذا النباح رنينا خاصا في أذنيه بعث الى نفسه الامل في الحياة من جديد ، فأخذ يعدو بكل قوته نحو مصدر النباح وهو يكاد يطير من الفرح ، وبعد قليل شاهد الكلاب فأخذ يصيح عليها ويدعوها اليه ، فحسبت الكلاب انه يتحداها فهاجمته ، ولكنه لم يلق بالا لهجومها ، بل حاول احتضانها . وبعد ذلك عثرت عليه جماعة من البدو فأكرموه ثم دلوه الى حيث رفاقه ... ورغم مرور عشرات على تلك الحادثة ، فقد بقي حتى الان (اجري الحديث سنة 1957 ) ، ما يكاد يسمع نباح الكلاب ، حتى يتذكر الحادثة .
ويروي الاستاذ توفيق وهبي انه بعد تلك الحادثة بسنوات ، اضطر الى الهرب من السليمانية اثر اضطرابات وقعت فيها ، وقد تاه في الجبال كما تاه من قبل في الصحراء ، ولم يكن معه سوى مرافقه ، وهو جندي صغير اخذ يبكي عندما وجد بأنهما قد تاها بين الجبال ، فأخذ توفيق وهبي يهدىء من روعه ، وروى له حادثة الصحراء في ليبيا لتقوية معنوياته . يذكر وهبي : ان ما اثار عجبه وأستغرابه انه ما كاد يصل في رواية الحادثة الى خاتمتها ، حتى سمع نباح الكلاب رددت صداه الجبال ، فصاح بمرافقه الشاب : ابشر فقد نجونا !!
ولد الاستاذ توفيق وهبي بن محمود في اسرة كردية معروفة باسم خضر بيك ، عام 1889 في مدينة السليمانية .وتخرج في المدرسة العسكرية في اسطنبول برتبة ملازم ثم دخل مدرسة الاركان وشارك في معارك الحرب العالمية الاولى . وبعد انتهاء الحرب عاد الى بلدته عام 1919 وانخرط في صفوف قيادة الشيخ محمود الحفيد مرافقا للحفيد في المرحلة الاولى من الحركة الكردية في العراق . وفي المرحلة الثانية من تلك الحركة 1922 – 1925 كان توفيق وهبي احد قادة الحركة ... تولى امرية الكلية العسكرية عام 1929 قبل ان ينتقل الى الخدمة المدنية متصرفا للواء السليمانية في السنة نفسها ، ثم تدرج في المناصب الحكومية حتى اصبح وزيرا للاقتصاد في وزارة حمدي الباججي الثانية عام 1944.
عشق توفيق وهبي البحث في تاريخ الكرد وادابهم ولغتهم ، وكان من القلائل الذين يعرفون اللغات الشرقية القديمة ، وكتب في ذلك العديد من البحوث التاريخية القيمة . وهو ايضا من اوائل اعضاء المجمع العلمي العراقي منذ تاسيسه عام 1948 ، كما كان له مجلس حافل ببغداد ، تختلف اليه طبقات مختلفة من رجال الدولة والوزراء والادباء والعلماء .
اوصى توفيق وهبي ان يدفن عند جبل ( بيرة مكرون ) المطل على مدينة السليمانية ، وقد اصيب في اواخر حياته بالفالج ، وبقي طريح الفراش بعد وفاة زوجه السيدة اسيا الريزلي ، احدى اعلام النهضة النسوية في العراق ، حتى ادركه الموت في الخامس من كانون الثاني 1948 . وقد صدرت مجموعة بحوثه ومقالاته في مجلدين عن مؤسسة (زين) في السليمانية اخيرا .[1]