#شوكت خزندار#
أقدم هذه الدراسة إلى قادة جنوب كوردستان لعلها تحرك شيء من شعورهم القومي الانساني ..!
الأمّة الأكثر هزيمة في التاريخ ليست هي التي احتل الغرباء أرضها، واستعمروا شعبها، وغيّبوا تراثها وتاريخها، وإنما هي الأمّة التي هُزمت روحياً، فرضيت بثقافة صاغها المحتلون، وبذاكرة كوّنها المحتلون، وبمرجعية فرضها المحتلون. وليس عجيباً أن تسقط الأمم في قبضة الاحتلال، لكن العجيب ألا تنهض، والضامن الوحيد لنهوضها هو إعادة بناء شخصيتها القومية، وإعادة تكوين ذاكرتها القومية، وإعادة صياغة وعيها القومي، وإعادة تأسيس مرجعيتها القومية، فماذا عن أمّتنا نحن الكُرد؟
الكُرد والحالة الأَهْريمانية:
أول ما ينبغي الإقرار به هو أننا أمّة تعيش حالة هزيمة مستمرة منذ 25 قرناً، وصحيح أننا ما عَدِمنا في كل مرحلة وجودَ نُخب أصيلة وشجاعة وغيورة، اغتسلت ضمائرهم بأشعة شمس أهورامزدا، وشمخت إراداتهم كقمم جبال كردستان، فثاروا، وقاتلوا، وسقطوا في ميادين المعارك بشرف، ووقفوا تحت أعواد المشانق بكبرياء، لكن روح الهزيمة المهيمنة على غالبية شعبنا كانت تفتك بهم- عبر التجاهل والتخاذل والعمالة والخيانة- قبل أن يفتك بهم المحتلون.
أجل، نحن نعيش حالة أهريمانية؛ وإلا فما معنى أن يكون جيراننا الفُرس أتباعاً لنا، ثم يؤسّسوا إمبراطورية، وهم الآن يحتلون رُبع بلادنا؟ وما معنى أن يؤسّس جيراننا العرب إمبراطورية، ويرث منهم المستعربون الآن احتلال رُبع بلادنا؟ وما معنى أن يأتي التُرك البُداة من وسط آسيا قبل ألف عام فقط، ويؤسّسوا إمبراطورية، ويحتلوا الآن نصف بلادنا؟ وما معنى أن يكون جيراننا الأرمن- مع قلّة عددهم- أصحاب دولة تحفظ كرامتهم، ونبقى نحن- مع كثرتنا- كالأيتام على مآدب اللئام؛ هذا يُحقّرنا ويهدّدنا، وذاك يجردّنا من الجنسية، وآخر يَطمرنا أحياء في الرمال ويُبيدنا بالكيماوي كالحشرات؟ أيّة هزيمة أخطر من هذه الهزيمة؟ وأيّة حالة أهريمانية أكبر كارثية من هذه الحالة؟
إن أكثر ما يهمّ المحتلين هو أن يظل وطننا مُلكاً لهم، كي يستكملوا صهْرنا، ويوظّفوا مواردنا لخدمة أنظمتهم، لقد اعتادوا أن نمسح أحذيتهم، ونكنس شوارعهم، ونعمل في مطاعمهم وفنادقهم، ونقف حجّاباً على أبوابهم، ونكون موظّفين في مؤسساتهم ومقاتلين في جيوشهم، وأحياناً يكبحون جماح شوفينيتهم، ويسمحون بأن يكون بعضنا مدراء ووزراء ورؤساء للوزراء وهياكل رؤساء جمهورية، إنهم يقدّمون لنا هذه (الرُّشى)، ليخدّروا وعينا القومي، ويصرفونا عن قضيتنا الأساسية، وقد أفلحوا في ذلك.
إن ما يهمّ المحتلين هو أن نتخلّى عن (القومية الكُردية) وعن (كُردستان)، إنهم ضدّ وجودنا كأمّة على ترابنا القومي/الوطني، لأنهم يدركون- بقرون الاستشعار الغَزَوية- أن نشأة (دولة كُردستان) يعني ضمناً أن دولهم التي أنتجتها مؤامرة سايكس- پيكو ستتحوّل إلى أقزام، ويصبح مستقبلها في مهبّ الريح، ويدركون أيضاً- بقرون الاستشعار الشوفينية- أن دولتنا ستمتلك جميع مقوّمات الازدهار والقوة (عقول، ثروة زراعية، ثروة حيوانية، مياه، معادن، نفط، موقع استراتيجي)، سنكون منافسين لهم ثقافياًً واقتصادياً وعسكرياً وحضارياً، وستعرفنا شعوب العالم على حقيقتنا، وليس كما صوّرونا (همج، قُطّاع طرق، متعصبون دينياً)، وستقيم علاقات إستراتيجية معنا.
تلك هي مشكلتنا الأساسية مع الشوفينيين فرساً وتركاً ومستعربين، إنهم ضد وجودنا القومي كأمّة، وضد وجود (دولة كُردستان)، وفي هذه الدائرة بالذات تدور معركتنا معهم، وكان من المفترَض أن ينتقل ساستنا برؤيتهم وبرامجهم السياسية إلى هذه الدائرة، وأن ينتقلوا بشعبنا وعياً وأخلاقاً وسياسةً وإعلاماً واقتصاداً إلى هذه الدائرة، ودعونا نستعرْ من الفلسفة الأمريكية الپراغماتية مقولة العقلُ هو ما يُؤدَّى- أي المعيار هو الإنجاز- ونحوّلها إلى صيغة السياسة هي ما تُؤدَّى، ونتساءل: ما هي إنجازاتنا الكردستانية؟
إنجازات كردستانية هزيلة:
المؤسف أن الإنجازات محدودة، وفي بعض المجالات هزيلة، ولا ترتقي إلى الدائرة التي تدور فيها معركتنا الأساسية ضد أنظمة الاحتلال، إن معظم أحزابنا بدأت كفاحها برفع شعار (تحرير كردستان)، ثم تراجعت إلى (الحكم الذاتي)، ثم تنازل بعضها عن كلمة (حكم) المتضمِّنة دلالة (سلطة)، وأحلّت محلّها عبارة (إدارة) الحيادية اللطيفة، أي أننا نترك (الحكم/السلطة) للمحتل، ونكتفي بإدارة شعبنا تحت سلطته، والمؤسف أكثر أن هذا يتمّ في أكبر أجزاء كردستان مساحة وسكاناً، وكان المنطق القومي يقتضي أن يكون هذا الجزء قد حرّر نفسه، وشرع في مساعدة الأجزاء الأخرى على التحرر.
في الجنوب فزنا بالفيدرالية على هامش الصراع السُنّّي/الشيعي، لكن سرعان ما اكتشفنا أننا نقف على خط زلزالي عائم فوق (كورديا الشمالية) و(كورديا الجنوبية)، قياساً على (كوريا الشمالية/كوريا الجنوبية). وفي الغرب، ما إن تنفّسنا الصُّعَداء- على هامش الصراع السُنّي/العلوي- حتى اكتشفنا أننا نقف على خط زلزالي عائم فوق احتمالات انقسام شعبنا بين أكثر من (إمارة)، في حين أسرع فريق ثالث إلى وضع بيض الكرد في سلّة (المعارضة السورية) حبيبة (العثمانية الجديدة) وربيبتها.
أما في الشمال والشرق فالأمور أكثر تعقيداً: في الشمال يوجد الخط الزلزالي العائم على تناقضات (سُنّي/علوي) وتباينات (كُرمانج/زازا)، وبسببه دفعنا الثمن غالياً في ثورات النصف الأول من القرن العشرين. وفي الشرق هناك الخطّ الزلزالي العائم على تناقضات (سُنّي/شيعي) وتباينات (كُرمانج/گُوران/لُر)، والأخطر من هذا وذاك أن شعبنا يُساق الآن رويداً رويداً- بسبب الاشتباك بين المشاريع الإقليمية، وتشرذم صفوفنا- نحو خطّ زلزالي عائم على تناقضات (الصفوية الجديدة) و(العثمانية الجديدة)، وهذا الخطر كفيل في حدّ ذاته بأن يُخرجنا من القرن الواحد والعشرين أيضاً بدون دولة.
وعدا هذا، هل من الصواب- بحسب المنطق القومي- أن يحمل كل مرة قلّةٌ من شعبنا- لا يتجاوز عددهم واحداً من عشرة آلاف- السلاحَ، ويعتصموا بالجبال، ويقارعوا العدوّ المحتل، ويفقدوا زهرة شبابهم، ويستمر هذا الاستنزاف البشري جيلاً بعد جيل، وتبقى الغالبية الساحقة من شعبنا خارج معركة التحرير إلا بالكلام غير المُجدي، وأخجل من أن أسمّيه (ثرثرة)؟ كم هي نسبة توظيف مثقّفينا وثقافتنا في معركة التحرير بمعناها الحقيقي على مستوى كردستان؟ كم هي نسبة توظيف اقتصادنا في معركة التحرير؟ كم هي نسبة توظيف إعلامنا في معركة التحرير؟ إنها لا تتجاوز واحداً من مئة، فكيف يمكننا تحرير وطن بأكمله من قبضة شوفينيين شرسين وماكرين بهذه الجهود القليلة الهزيلة؟
ثم هناك أمر آخر مخيف ومثير للغضب حقاً، انظروا، ها هي ذي شعوب شرق أوسطية تثور كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، أُمّيين ومثقّفين، على حكّامها، وتبذل الأموال والدموع والدماء، وهي تفعل ذلك ليس لأنها مستعمَرة، ولا لأن أرضها محتلّة، وإنما لمجرد أنها أدركت أن حكّامها- وهم منها- احتكروا السلطة والثروة، فمن كان أولى بالثورة الشاملة؟ شعبُنا المستعمَر، المحتلَّة أرضُه، المنتهَكة كرامتُه، أم تلك الشعوب؟ لماذا تمتلك تلك الشعوب إرادة الثورة الشاملة والتضحية التي لا حدود لها، ونكتفي نحن كل مرة بدفع بعض شبابنا وشاباتنا إلى حمل السلاح وممارسة (الثورة المعزولة) في الجبال؟ أليست هذه الظاهرة في حدّ ذاتها مَدعاة إلى الحزن العميق؟ أليست دليلاً على أننا نعيش حالة أهريمانية كارثية؟
(*) الوصايا العشر لساسة الكرد الجزء (1) دراسة بقلم المؤرخ المبدع ميرزا الدكتور أحمد الخليل سابقاً.[1]