$يوم في رحاب عازف الكمان (محمدي دومان)$
حسين حج (ممو سيدا)
( لقد مات بطل فيلمك)
حسين حج
زرته على مشارف خريف عام 2016 في بلدة “كولو” التابعة لولاية قونيا التركية حيث كان يقيم عند نجله البكر “خليل”. آلمني تأخّر فرصة اللقاء به و الحديث معه إذ جاءت في وقت تكاد السنوات الثماني و الثمانون أن تجهز على ما تبقى من ذاكرته. شعرت بالأسف لأني خبرت قصة حياته التي لا يعرفها إلا القلة, في خريفها. ذلك الرجل الرشيق الذي اعتدت رؤيته و أنا صغير عند ذهابي إلى السوق في كوباني يجاهد الآن في النهوض و الجلوس, بل يتعذّرعليه القيام دون الإتكاء على العكازة أو جدار أو كتف ابنه “خليل” و ابن أخيه “محمد”. أذنه اليمنى لا تسمع بتاتاً, و اليسرى تسمع العالية من الأصوات. تلك الأذنين الموسيقيتين اللتين طالما كانتا بوصلة أصابع يده اليسرى بتغيير مواضعها على الكمان كلما كان يغير المغني الدنكبيج “باقي خدو” من درجة صوته في الغناء. كلتا يديه اللتين كانتا تمسكان القوس و الكمان لقرابة ستين سنة أمسيتا لا تقويان على حمل أخف الأغراض لارتجافهما . طوال الأربع و العشرين ساعة من مكوثي في بيتهم لم يتخل عن السيجارة غير المشتغلة بين سبابة و وسطى يده اليسرى. قال بأن الأطباء قد منعوه من التدخين منذ حوالي العشر سنوات لذلك فهو يبقي على السيجارة كتعويض للتعويد. بجانب مخدته إلى اليمين يبقي على حقيبة صغيرة فضية اللون يحفظ فيها أدويته و مشطاً صغيراً و مرآة و ملقطاً صغيراً للحواجب. كان في كل مرة يسحب الحقيبة, يفتحها, يخرج المرآة و يمسكها بيده اليمنى و ينظر فيها إلى البقعتين المجعدتين تحت عينيه, يحاول جاهداً أن يلمسهما بسبابة يده اليمنى و لكن هيهات ليد البشر أن تلمس ما جعدته يد الأزمنة والأقدار . بعد فترة وجيزة من الانشغال بالتجاعيد ينزل المرآة إلى مستوى شاربيه الحليقين فيمرر أصابع يده التي تمسك بالسيجارة على طرفي شفته العليا موضع الشاربين, كما لو أنه كان معتاداً فترة مما مضى على شحذ شاربيه. يعيد المرآة إلى بيتها و يجلس مستغرقاً في التفكير. يستغفر و ينطق الشهادتين و من ثم يتمتم ببعض الآيات. أو يتحدث مع نفسه باللهجات الكردية المختلفة؛ الكرمانجية و السورانية و الزازية. و فجاةً , ربما من دون عمد, يرفع صوته عند قول بعض العبارات أو الحكم أو أبيات من الشعر بالتركية أو العربية أو الكردية. و في النهاية يردد بينه و بين نفسه ” أَ جه زامه” أي ” لست أدري “. يقول المثل التركي “كل لسان إنسان” أي أن كل لغة نتعلمها تكسبنا شخصية أخرى. تشعر و كأن هؤلاء الأشخاص المشكلين لسانه و ذاكرته, بمختلف لهجاتهم و لغاتهم, يتعاركون مع ما مضى من العمر.
على العكس من صوتي, و من حسن الحظ, فإن “خليل” يتمتع بصوت جهوري مسموع يمكن لوالده سماعه, فكان هو الناقل لأسئلتي و فضولي. عندما عرف هويتي أجهش بالبكاء . بعدها صمت قليلاً ثم قال: “ظننتك صحفياً غريباً. قبل سنوات عندما كنت أقيم عند ولدي في القامشلي جاءني صحفيان, تحدثت إليهما قليلاً وعزفت لهما على الكمان ثم مضيا. أما أنت, فمن أهل الدار, أنت من عائلة ’بافى كال’ (الأب الشيخ)”. بعد ذلك بدقائق غمر الجو شعور عام من الارتياح و الألفة فبدأ بسرد أحداث و مواقف مختلفة من حياته الغامرة والخارج عن المألوف.هنا ، سألخص ما قاله محمد خليل غازي (حمدى دومان) في نقاط متفرقة بفقرة جامعة في تعريفه بنفسه و عائلته:
“أنا محمد بن خليل بن محمد بن فهيم بن أمين بن إمام بن أحمه تمه (في حديث سابق له يقول بأنه حمه فامه). نحن من الكرد السوران و إلى الآن نتكلم اللهجة السورانية في البيت مع العائلة و لكن للأسف أولادي لا يتكلمونها. الجد السابع كان يمتلك أراضٍ زراعية و طاحونة ماء. بعد مشاجرة على محاصصة الأراضي مع أبناء عمومته غادر الجد السابع مع أخوين له نواحي كركوك و استقر قريباً من بيره جيك نواحي أورفا/الرها, فأنشأ قرية في “سميساط” بالنقود الذهبية التي كانت بحوزته . أقرباء أجدادي كانوا متوزعين على كركوك و هولير (أربيل) و السليمانية. كلمة “غازي” ليست لها علاقة لا بالكنية و اللقب و لا بكونه من المحاربين القدامى. والدي “خليل” كان وسيماً جداً, الشي الذي دفع جدتي بأن تلصق قطعة معدنية نسميها “غازي” بجبهته كي لا يصاب بالعين . والدي أحب “عينه”, فتاة من التركمان البراق من نيزيب (عن ولاية عنتاب), فتزوجها و غادر الطرف التركي من الحدود إلى الطرف السوري و استقر بقرية “شيران” التابعة لمدينة كوباني. ولدت بعدها بسنة أو سنتين في الثامن من شهر آذار/مارس من سنة 1929 في قرية شيران. كنت أذهب إلى الكتّاب ولكن بسبب بعض المشاكل مع الأطفال الآخرين منعني والديّ من الذهاب. حينها كان المفتي ملا مسلم رحمه الله جارنا و صديقاً لوالدي فقال لوالدي ’خليل غازي, سنذهب للاستقرار في مركز المدينة (كوباني الحالية). أنتم أيضاً تعالوا معنا’. كنت في الخامسة من العمر، تقريباً، عندما ذهبنا للإقامة في المدينة. وغادرت كوباني إلى مدينة بيره جك وانا في الثاني عشر من عمري تقريباً للإقامة مع عائلة عمي. أعمامي كانوا موزعين ما بين “سويرك” و “بيره جيك”, و إلى الآن الكثير من أقربائنا يقيمون في “عنتاب” و “إزمير” و “إسطنبول” أيضاً. على سبيل المثال, آلة الكمان خاصتي و التي بقيت فترة طويلة معي كان ” الخوارزى ” “فخر الدين” قد اشتراها و أرسلها إلي بحوالي مائة ليرة سورية, و هو مقيم في مدينة إسطنبول إلى الآن. المسكين توفي ولده الذي كان عازف قانون مشهور في حادث سير قبل فترة. و اسمه أيضاً “خليل”, على اسم والدي. (الخوارزى في الكردية يعني ولد أو بنت الأخت, و لا أعتقد بأن المراد هنا ابن الأخت المباشر. إلا اللهم إذا كان خليل غازي قد تزوج من إمرأة أخرى قبل الزواج من والدة “محمد”.
“خليل”, الإبن, قال بأن جده كان متزوجاً قبل زواجه من جدته و كان قد ذهب إلى الإقامة في مصر قبل أن يتزوج مرة أخرى و يستقر في كوباني. للأسف لم أستطع التثبت من صحة هذه المعلومة, خصوصاً و أن “محمد خليل غازي” بنفسه لم يتطرق إليها. أما بالنسبة ل “فخر الدين”, فموضوعه شغلني و حاولت البحث في علاقته العائلية ب “محمد خليل غازي” و الجانب الموسيقي في حياتهم. فوجئت عندما علمت بأنني, من دون أن أعرف, كنت قد عملت مع ابنٍ ل “فخر الدين” و هو عازف قانون أيضاً في نشاطٍ موسيقي قبل بضعة أشهر من أيلول 2016. باختصار, “فخر الدين” و أبناؤه من الموسيقيين المعروفين في تركيا, و لكن عندما سألت ابنه عن علاقتهم العائلية مع عائلة “محمد خليل غازي” قال بأن والدته كانت تحكي لهم عنه عندما كانوا صغاراً و لكنه لا يعرف الكثير, و بأن الوحيد الذي يعرف هو والده, “فخر الدين” و لكنه مريض ولا يتذكر شيئاّ. ثم قال لي بأنهم من أصول تركمانية و ليست كردية, لذلك توقفت عند هذا القدر من البحث مخافة طرق أبواب لا يحمد فتحها). فنكمل حديث “محمد خليل غازي” عن نفسه في الإجابة على سؤال علاقته بالموسيقى و آلة الكمان:
“عند إقامتي في “بيره جيك” عند عمي كانت هناك مدرسة أطفال. كان يشد انتباهي صوت الكمان القادم من إحدى صفوف المدرسة. عندما لمحني المعلم و أنا استمع إليه و هو يعزف الكمان سألني: “هل أعجبك صوت الكمان؟ هل تحب الموسيقى؟ هل تريد تعلم الكمان؟” بدأ المعلم “مكتبلي” بتعليمي أساسيات الكمان ثم أكملت العزف و التعلم لوحدي. عندما بلغت التاسعة عشرة طلبوني لخدمة العلم. بينما كنت أخدم في الجيش التركي في ولاية “أرزروم” (1948-1951) بدؤوا بجمع العساكر للذهاب إلى الحرب في كوريا. اخذوا جميع من كانوا معي باستثنائي و أربعة أصدقاء آخرين كانوا ملتحقين مثلي بالجيش بمهنة “سائق”. بعدها بفترة تم فرزنا إلى قطعة عسكرية في بلدة “جانقري” حيث حدث زلزال مدمر بعد التحاقنا بالقطعة بفترة. أصبت في الزلزال و خضعت مرتين لعمليات جراحية. بعد إنهاء الخدمة ذهبت إلى كوباني حيث تزوجت و استقريت.”
محمدي دومان
في الفترة ما بين المغرب و العشاء اخبرني ابنه “خليل” بأن ضيوفاً, ابن عمه و ابن عمته, سيأتيان لزيارتهم. عند الاستفسار عن المكان الذي سيأتيان منه قال بأنهم يسكنون مع عوائلهم في نفس البلدة. سررت عند معرفة ذلك لأنني كنت وقتها تحت وطأة عبارات “أبو خليل” المحزنة: “جميع أصدقائي و أحبائي ماتوا. رفيقي [استخدم الكلمة السورانية ’هاورى’] “باقي خدو” و أصدقائي و زوجتي و ابني الصغير “أمين” الذي بموته انقطع رزقي. بقيت لوحدي. وحده ’خواى كه وره’ (الله الكبير) عالم بميعاد أخذ أمانته”. عندما جاء الضيفان و بدأ ابن أخيه بمشاكسته ببعض الأسئلة عن فترة شبابه عادت الألفة و النبرة البهيجة إلى تسلم دفة الحديث فسرد لنا بعضاً من ذكريات أيام الخدمة العسكرية في تركيا. ذكريات العسكرية من العلامات البارزة في حياة الرجال عندنا, بإمكان أحدهم الجلوس و سردها لساعات. ما شد انتباهي أيضاً هو جوابه عن نوع الأحلام التي تأتيه. في العام التالي من حديثي معه علمت بأنه انتقل للعيش في مدينة “إزمير”, حالما سمعت بهذا الخبر طلبت من أحد أصدقائي المقيمين هناك بأن يذهب إليه يرسل لي أخباره صوتاً و صورةً. في أحد المشاهد كان صديقي يسأله عن أحلامه كان جواب “أبو خليل” بأنه يحلم بأهله و أقربائه و هو في فترة الشباب, و في كل مرة يكون مسلحاً بمسدس في خصره. لا أعلم لماذا كان هذا الحلم يطارده, هل هو بفعل الأحداث التي عاشتها العائلة منذ ما يقرب القرنين من الزمن أم من الأحداث الأخيرة التي شهدتها و ما تزال تشهدها مناطقنا أم بداعي الفترة الطويلة التي قضاها في الخدمة العسكرية مع السلاح في كل من تركيا و سوريا. لأنه ما عدا الخدمة الإلزامية في تركيا, خدم العسكرية في سوريا أيضاً, حيث قال في موضع آخر :
“بعيد جلاء الفرنسيين عن كوباني جاءت قطع عسكرية إنكليزية من العراق و كان برفقتهم بعض الضباط العراقيين. استلم أحدهم, و اسمه “محمود نقشبندي”, رئاسة تجنيد كوباني. ذهب إليه قريبي “قدري” بزيارة لأنه كان من أصل كردي و يتكلم مثلنا باللهجة السورانية لكي يستفسر عن طريقة لمنح عائلتنا الجنسية السورية لأننا حينها كنّا مسجلين ك “مهاجرين”. فأعطاه حلاً بأن يخدم أحدنا أفي الجيش السوري لكي تستطيع كامل العائلة الحصول على الجنسية السورية. فذهبت أنا إلى الجيش و خدمت في الجيش السوري أيضاً سنة 1952. حينها حصل جميع أفراد العائلة على الجنسية السورية.”
في رده على أسئلة ابن أخيه عن الماضي كان يتهرب من مسؤولية تأليفه لبعض الأغاني مستغفراً الله و تائباً إليه. كان يلصقها تارة بقريبه “مصطفى” الذي كان يرافقه على الطبلة في بعض الأعراس و السهرات قائلاً: “أنا كنت فقط أعزف الكمان. كان ’مصطفى’ يؤلف و يغني”, وتارة أخرى يقول في أغنية معينة بأنها من فلكلورعفرين. من جانبي البحثي و التوثيقي لم أكن راضياً عن تلك الأجوبة, كنت أود أن أعرف مؤلف جميع الأغاني التي غناها. حصلت على إجابة لإحداها في اليوم التالي عندما قال: ” في سنوات شبابنا لم يكن في “بيره جيك” غير مقهى واحد على المرفأ الصغير كمكان للترفيه عن النفس. كان عندي صديقان أتردد معهم إلى ذلك المقهى مصاحباً معي الكمان. أحدهم و يدعى “حسى علي هيتى” قال لي ذات مرة: ’ألّف أغنية عني’ فأّلفت له أغنية ’حسو’.”
قبل الذهاب إلى النوم, جلس مستغرقاً في التفكير لحوالي ساعة من الزمن يتمتم و يهز رأسه. و في النهاية نظر إلينا نظرة عابرة و قال: “ثمان و ثمانون”. قبل أن يتفوه بتلك العبارة لم أكن قد فكرت بجدية بعمل فيلم وثائقي عن حياته و فنه. إلى جانب رغبتي في أرشفة و جمع بعض المعلومات السمعية و البصرية عنه و فضولي البالغ عقدين من العمر عنه و عن فنه, كان هدفي الرئيس هو اقتناء بعض المعلومات التي ربما تكون بمثابة رأس الخيط أوعوناً لي في رسالة الماجستير التي كنت على وشك أن أطلقها. في تلك اللحظة نويت التفكير بموضوع الفيلم الوثائقي بجدية على الرغم من جهلي بصناعة السينما بدائية المعدات التي بحوزتي مردداً على نفسي: “ما يهم هو المضمون و ليس الشكل”. و قلت لنفسي بأن عنوان الفيلم سيكون “ثمانية و ثمانون”.
تذكرت حينها قصة “عدّ الخراف” كوسيلة للنوم عند الأطفال, فقلت في قرارة نفسي “الأطفال يعدّون الخراف ليناموا و المسنون يعدّون سنوات أعمارهم ليبقوا على قيد الحياة”. على عتبة النوم, طلب وضع طاسة الماء بجانب رأسه, و بعدها قرأ بعض الآيات و استغفر و قرأ الشهادتين و نفخ حوله و خلد إلى النوم, و خلدنا.
في صباح اليوم التالي استيقظت قبل الجميع. وقفت في باحة الدار تحت شجرة المشمش مع هرة الدار الصغيرة. هي تنتظر الطعام بعد أن يئست من البحث عن شيء يؤكل في الحوش, و أنا أنظر إلى المصطبة حيث ينام “أبو خليل” وحيداً. كنت أراقبه و هو نائم. أنتظر بطل فيلمي ليستيقظ فأستمع إلى المزيد من القصص والأحداث في سيرته . وعندما توفي , و على خلاف العادة, اتصل بي نجله معزياً: “البقية في حياتك, لقد مات بطل فيلمك”. نعم, لأكثر من ثلاث سنوات و بشكل شبه يومي, عايشته كتابةً و قراءةً و استماعاً و مشاهدةً. كان بطل فيلمي بالمعنيين الحرفي و المجازي.
,قبل سنوات ذهبت إلى لبنان عند صالح كيلو نعسان حيث شاركت بآلة الكمان في حفلٍ كان من ضمن المشاركين فنانون كرد قدموا من العراق أيضاً [حسب الأستاذ صالح التاريخ هو 1972 و لكن عند الرجوع إلى بعض المصادر كان 1973 و كان من ضمن المشاركين أسماء كردية عريقة مثل محمد عارف جزراوي و عيسى برواري و كل بهار]. بعد انتهاء الحفل قالت لي كل بهار: “تعال معنا إلى العراق للعمل في القسم الكردي في إذاعة بغداد” قلت لها لا أريد أن أترك عائلتي. و كان هناك شخصٌ آخر مشهور نسيت اسمه, طلب مني المجيء أيضاً [محمد عارف جزراوي, على حسب قول الأستاذ صالح]”. في هذا السياق اتضح لي أمران, أولهما بأنه لم يكن في نيته امتهان الموسيقى, ربما كردة فعل على نظرة المجتمع الدونية للموسيقى و المشتغلين بها آنذاك. أما بالنسبة للأمر الثاني, تبين لي طوال حديثه لي بأنه شخص متزن و قنوع؛ تهمه سمعته و سمعة عائلته فلا يسمح للجانب الموسيقي بأن يطغى على الجانب الإجتماعي. طوال حياته عمل على كسب رزقه من عرق جبينه كسائق لمختلف الآليات؛ سائقاً للحصادات في مواسمها, لآليات نقل الخضار و في عامي 1970 و 1971 عمل كسائق لنقل المهندسين و التقنيين الأجانب الذين كانوا يعملون في بناء سد الثورة في مدينة الطبقة السورية. في الجانب الآخر كان يعزف على الكمان و يغني كوسيلة للترفيه عن النفس بين الأصدقاء في سهراتهم و أعراسهم. علاوة على ذلك, على الرغم من إطلاعه الواسع موسيقياً, مقارنةً بجيله, إلا أنه اكتفى بأن يكون عازفاً لبعض المغنّين, أو أن يغني لوناً شعبياً واحداً و هو ما كان يطلبه الجمهور. من إحدى التسجيلات المنزلية الأقدم بين ما سجل له يقوم شخص بتعريفه. بعد تعريفه يقول : ” الآن سيعزف لكم محمد خليل غازي ’مارش الخديوي’.” تبدأ أصوات جانبية بالمطالبة بأغنية “أمينة, أمينة”. هذا الثواني من هذا التسجيل تختصر الذائقة الجماهيرية الشرقية عموماً و الكردية خصوصاً في تفضيل الغناء على الموسيقى الصرفة. لذلك, و بناءاً على ما أخبرني به الأستاذان رشيد صوفي و محسن سه يدا, كانت شخصيته الموسيقية متنوعة, و تلك الشخصية المهتمة بالقوالب الموسيقية و المقامية الصرفة كان مقالها مقام أشخاص مثل الموسيقي رشيد صوفي. عندما ذكر لي الموسيقي “أحمد جه ب” اسم جاري “عبد الرحيم عيسى”, رحمه الله, من أوائل الاشخاص الذين يعزفون الطمبور في مدينة كوباني هاتفته, لعلّ في جعبته شيء عن “محمد خليل غازي”. قال لي: “أواسط الثمانينات من القرن الماضي كنت قد أقتنيت آلة “جمبش” و لم يكن بمقدوري أن أ آلف الأوتار. بالصدفة كان “محمد خليل غازي” في عرس أحد الجيران. أخذت “الجمبش” و قصدته آملاً أن يعينني عليها. عندما سلمته الآلة أخذها و آلف بين أوتارها و بدأ بالعزف عليها كما لو كان عازفها. و بعدها شرح لي كيفية تأليفها و عزف المقامات عليها”.
كان حديث “أبو خليل” في اليوم التالي يدور حول “مشو بكابور برازي” و “خدو هنداوي” و “باقي خدو” و “جميل هورو” و “علي تجو” و “قدري دومان” و “مصطفى دومان”. بالإضافة إلى الحديث عن كوباني القديمة و عائلاتها الأرمنية و المتنفذين في أمور المدينة من سلطات سياسية و عسكرية في ظل الانتداب الفرنسي و من بعده الحكم العربي, و السلطات الإجتماعية و أطرافها.
توفي “محمد خليل غازي” أو كما كان أهل كوباني يسمونه “حمدي دومان” في الساعة الثامنة من مساء يوم الأربعاء في الخامس من آب/أغسطس عن عمر 91 و 5 أشهر. و كانت وصيته لي, و التي نشرتها بمكانها لدى مغادرتي بيته, بأن يدفن في كوباني لأن “ترابها حلو” حيث تحتضن زوجته و ابنه و أقرباءه و أصدقاءه و رفيق دربه. و سعدت اليوم لدى سماعي بالمساعي التي تبذل لتنفيذ وصيته.
– يعتبر “محمد خليل غازي” من أوائل من ألف الأغنية الإيقاعية في منطقة كوباني, بعد مشو بكبور برازي. و من أهم الجسور التي نقلت الأغاني القديمة إلى الأجيال الشابة.
– من الملاحظات التي استخلصتها من مخزونه من الأغاني قدرته على التغيير المستمر في الألحان و مقاماتها و إيقاعاتها. و بنفس القدر, عدم قدرته على تغيير الكلمات. و باعتقادي ان هذا أمر مفصلي في الحيلولة دون جعله دنكبيجاً, لأن الدنكبيجية تعتمد أساساً على القدرة على حفظ الحكايا و نسجها و سردها, بالإضافة إلى قوة الصوت و سلامة النَفَس.
– من أوائل من غنوا من أغانيه, المرحوم “باران كه نده ش”
– ما عدا مرافقته لبعض المغنين في العزف على الكمان, أول تسجيل خاص له تم من قبل صبحي كامل فون في مدينة حلب (حسب السيد محمود محمد علي أبو ريزان)
– أقدم تسجيل له حصلت عليه مؤرخ ب 1971
– في نهاية تسعينيات القرن الماضي قام بعض الفنانين الشباب من كوباني (المرحومان باران كه ند ه ش و سيامه ند أوسكولّي و كذلك صبحي دمر و أحمد و أسعد كرعو) بتسجيل شريط كاسيت له باسم “كونسه را كوباني” .
– لقاؤه الوحيد المتلفز عرض ضمن برنامج “ريا دجوار” من إعداد نديم آدو و خالد خليفة على فضائية كرد سات في العام 2006
– في عام 2014 و قبيل هجوم داعش على كوباني ببضعة أشهر قام السيدان صالح مسلم و مصطفى عبدي بعمل ريبورتاج سمعي و بصري معه, و عرض جزء منه في راديو آرتا إف إم.
– قدم في حفلة رسمية وحيدة في بيروت/لبنان عام 1973. و سمعت من بعض المصادر بأنه قدم حفلة أو أكثر في سوق الإنتاج في حلب, لكن لم أتمكن من توثيق المعلومة.[1]