الدكتور نور الدين ظاظا والهجرة إلى الأزل
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 6791 - #18-01-2021# - 09:54
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تسليم الدكتور رئاسة أول حزب كوردي أو كوردستاني، تعتبر خطوة نوعية نادرة في تاريخ الحركة الحزبية الكوردية، والتي لم تتكرر. بها تمكن مؤسسو الحزب من خلق جدلية العلاقة بين المثقف أو لنقل الأكاديمي المثقف والسياسة، العملية تلك كانت بداية استباقية، وبالإمكان القول حضارية، لهدم الهوة بين المثقف والحزبي، ومحاولة لخلق السياسي المثقف بين المجتمع الكوردي، وهو ما كان لها صداها في العمل الميداني، وعلى أثرها أخذت الرؤية السياسية الخارجية للقضية الكوردية في مراحلها الأولى؛ مجالات أوسع من مجرد الصراع السياسي مع السلطات الشمولية. وبغض النظر عن الخلاف والاختلافات الداخلية في وجهات النظر فيما بعد، وتبعاتها، إلا أن الخطوة وضعت بصماتها على تاريخ الحراك الكوردي، رغم ما عاناه المثقف السياسي من الصعاب بعدها في الصراعات الحزبية وعلى مدى قرن وأكثر من الزمن.
وقد نستطيع القول اليوم أن التجربة المريرة تلك، أصبحت في الماضي؛ ليست عن منهجية أو عن حنكة حزبية، بل على خلفية انتقال المجتمع الكوردي إلى العالم الخارجي الديمقراطي الحضاري، إلى جانب عالم تكنولوجيا الإنترنت التي فتحت كل الأبواب للسياسي الكوردي أو الحزبي كغيره من الناس، لتجاوز معضلاتهم.
دفع الدكتور المرحوم نور الدين ظاظا ثمن المنصب، والعلاقة الحضارية بين المثقف والحزبي أكثر من جميع أصدقائه، وهنا لا نتحدث عن مسيرة النضال والتضحية من أجل الوطن، بل أبعد منها، كالعلاقة الحسية ما بين الروح والوطن، بين الإنسان ومجتمعه، وظل على تلك الحالة إلى أخر أيامه، وخاصة من البعد المعنوي، وهي كانت جزء من معاناة طويلة مستمرة، رافقته منذ طفولته ( أي مهجر أو مهاجر وعلى مسافات زمنية طويلة يشعر بما نقوله، ويستطيع أن يحكم) فهو الإنسان الذي ذاق مرارة الهجرة طفلا، ويافعا وشابا وكهلا، عاش آلامها، كمتلازمة لم تفارقه طوال حياته، هجرته عائلته من أحضانها ومن مجتمعه الطفولي، أدرجوه مرغمين ضمن الهجرة السياسية التي اجتاحت شمال كوردستان، وهو لا يزال في سنوات الطفولة عندما رافق أخوه الطبيب نافذ بك ظاظا والذي كان من بين عشرات الشخصيات الكوردية المطالبين من سلطة كمال أتاتورك، لحقتها تغيرات ثقافية وتنقلات سياسية وهجرات على أبعاد جغرافيات عدة، كوردستانية ودولية.
نقل نور الدين من مدينته معدني ومزرعة والده على أطرافها، إلى ديار بكر ومن ثم إلى دمشق وبعدها إلى قامشلو ومن ثم إلى حلب حيث المرحلة الدراسية الأولى، تلاحقت بعدها الأماكن، لتتخطى جغرافية كوردستان، ليس للزيارات السياحية أو الخاطفة بل لهدف العيش شهور أو لسنوات معروفة مسبقا، تكررت الأماكن ذاتها، دون أن يكون له فيهم استقرارا، ونحن هنا لا نتحدث عن المرات العديدة والأماكن المتعددة التي سجن فيها، ونتائجها، وعناده على المواجهة بعد كل مرة.
تتبين من قدره وكأن المدن والأماكن الكوردستانية كانت تلفظه، والمجتمعات تبعده، وعلاقة جدلية كيميائية متضاربة كانت تنمو بينه وبين الجغرافيات والشرائح السياسية التي كان جل هدفه خدمتها، إلى أن بلغ مرحلة تفضيل الهجرة والعيش في الغربة، رغم ما قدمت له العامة من الشعب الكوردي التقدير والحب، وبينتها يوم تم ترشيحه ممثلا عن الحزب مع الشيخ محمد عيسى، في عام 1961م لعضوية البرلمان السوري، ويقال أنه تم رفع سيارته من قبل الجماهير في مدينة عاموده تقديرا لممثلهم، قبل أن يتم إلغاء ترشيحه ومعه ممثلي الحزب من قبل السلطة العروبية في دمشق، وتنصيب شخصيات أخرى من الكورد كانوا أعضاء في حزب الكتلة الوطنية الذي كان يترأسه شكري القوتلي، ولربما تلك الخطوة تعتبر أحد أهم المنعطفات في صراع الحركة الكوردية، ويمكن القول أنها كانت بداية مرحلة المواجهة الحقيقية مع الأنظمة الشمولية المتتالية على سوريا، خاصة بعد سيطرة البعث على الحكم، ومسيرة أضعاف وإذلال الحزب، والانشقاقات الرئيسة، وغيرها من الإشكاليات التي لا تزال بعضها ترافق حراكنا الحزبي حتى اللحظة.
ورغم أهمية الحضور الثقافي السياسي في مسيرة النضال، وكان الدكتور يمثل طرفا مهما، لم يحصل رباط راسخ بين الراحل وشخصيات الحراك الكوردي، أي لم تنتج الخطوة النوعية تلك عن منهجية راسخة في مسيرة الحراك الحزبي، بل حصل شرخ وتوسع مع الأيام، رغم ما كانت عليه السوية الثقافية للدكتور، مقارنة بالأخرين في القيادة، وحاجة الحركة لأمثاله، ونحن هنا لا نتحدث عن العطاء القومي، ومع الأيام والسنوات وحيث صراعه كان على جهتين: معنويا وثقافيا مع الداخل الكوردي ضمن الحزب وشريحة من الأصدقاء الذين لم ينصفوه. وسياسيا مع النظام الذي كان على الأغلب ينظر إليه ببعد خاص حيث المكانة العلمية والخبرة المستقاة من الخارج الأوروبي، وهو ما أدى إلى النتيجة عندما أصبحت سويسرا الدولة الحاضنة، والمستقر الأخير، ليعيش الهجرة الدائمة، ويقاسي آلام الحنين إلى مدنه العديدة التي عاشها، وعائلته في معدني ومرابع الطفولة الأولى، والتي زارها بعد هجرته الأخيرة من سوريا وكوردستان الجنوبية الغربية، وبالتالي ليصبح من الرعيل الكوردي الأول الذين، رغم رفاهية العيش، عاشوا آلام الحنين والمعاناة النفسية في المهجر وقضوا نحبهم فيه.
هجرته الأولى، جرت ورائها الكثير إلى أن انتهت بهجرة عام 1967م إلى معدني-ديار بكر ثم إلى سويسرا، والتي أمثالها عادة تؤدي إلى التغيرات الثقافية والفكرية والسياسية في الإنسان، فكل مرحلة كانت لها تأثيراتها، لربما بقدر ما خلقت فيه الانتماء الكوردستاني، نمت لديه ذاتيه فكرية، ورؤية مختلفة في أساليب النضال، فهو الذي وجد نفسه وحيدا من اللحظة الأولى عندما أبتعد عنه الأخ الذي ناب عن والديه، مرغما، ليتلقى تعليمه في مدرسة داخلية خاصة في مدينة حلب على الطرف الأخر من مكان ولادته، وهو الذي كان قد أنتقل ما بين مدن عدة في السنوات الأولى من العمر، وقد يقال أن الإنسان بمثل هذه الحالات يتعود على آلام البعد عن الأهل وتغيير الأصدقاء، ومعرفة الوجوه الجديدة، لكن تأثيراتها تظل وتظهر أحيانا بشكل واضح، إن كانت سلبية أو إيجابية، ولربما جميعنا نعلم وقاسينا مرض البعد عن الأهل والوطن لأول مرة، وكيف يتعود الفرد عليها دون أن يتخلص منها.
هجر نورالدين ظاظا الحزب الجديد ورئاسته بعد سنوات من النضال، لكنه لم يهجر السياسة. هجر سوريا وتركيا، وتخلص من سجونها وصراعه مع السلطات الدكتاتورية العنصرية، لكنه احتفظ بالوطن في ذاته ولم يهجره. هجر المجتمع الكوردستاني، وخاصة الشريحة القيادية في الحزب، الذين خيب أمله فيهم، وبالمقابل خاب أملهم فيه، لكنه لم يهجر قوميته، فنشاطاته الثقافية الكوردية العديدة في المهجر تثبتها. هجرته القوى السياسية التي ناضل معهم سنوات، لكنه ظل يتذكرهم طوال حياته، إما كملام أو معاتب أو كمحاولة على توعيتهم أو تصحيح أخطائهم، ظل على وثاق روحي معهم، ومع كل الأماكن التي عاشها داخل الوطن، ولولا ذلك لما ذكرهم نقدا في مذكراته. حمل كوردستان بروحها وناسها في شعوره ولا شعوره إلى أن فارق الحياة، ولجرح لم يندمل طلب من عائلته أن تكون هجرته الأبدية مرافقة مع هجراته السابقة، ولتكن خاتمة لكل ما كان، طالبا منهم، كما يقال، أن لا يستقبل أحد على رفاته وألا يزار إلا من كان على صلة، وألا يكون بينه وبين علامات هجراته لقاء إلا ما تم، أحتفظ بحبه لقوميته ولأمته على طريقته؛ إلى أن فارق الحياة في مدينة لوزان عام 1988م. وجدلية الملامة من المقربين الذين حصل بينهم جفاء لسبب ما معروفة، فلولا القرب الكامن في اللا شعور لما كانوا حاضرين في ذهنه حتى ولو بالرفض، وهنا تكمن بؤرة الأسى والحزن، فهل ستعوض عنه أحياء الحركة الحزبية ذكراه بعد عقود طويلة من شبه نسيان؟ فكما نعلم الحركة الثقافية لم تنساه يوما.
لقد عانى الدكتور نورالدين، كأي مهاجر كوردي، من أحضان أمة تعاني الاحتلال والجهل ومصاعب الحياة وانعدام الرفاهية وضحالة الثقافة، إلى الحضارة ورخاء العيش، من تضارب في الأحاسيس، ما بين العيش في رخاء سويسرا، والحنين إلى الوطن. فكثير ما تتردد بين المهجرين أو المهاجرين، مقولة: ليتنا عشنا العذاب مع بساطة الحياة وضنكها، ودون تأنيب الضمير، ولم نهاجر إلى عالم الرفاهية حيث معاناة الحنين والشوق إلى الماضي. ولربما مواقفه السياسية وهو في المهجر من الحراك الحزبي الذي كان يوما أمينها العام، محاولة للتغطية على الصراع الداخلي، وكأنه كان يوجه من مهجره (سويسرا) كلمة تحمل الكثير من المعاني، على سوية مقولة الحلاج المشهورة أزهر من جديد، أثبت لهم أن الذبول خرافة خاصة للذين عاشوا سنوات السجن وناضلوا معا، ولم يقدروه كما يجب.
مرت السنوات على وفاته، وكأن يقظة من الخطأ نما، فبدأ تأنيب الضمير الكوردي؛ والإحساس بالذنب، والعمل على إعادة الاعتبار لشخص كان بالإمكان أن يرسخ منهجية السياسي المثقف أو بالأحرى القيادي الحزبي المثقف ينهض. فهل هذا الاهتمام صحوة، وخطوة نحو تخطي عتبة الجهل بما حدث في الماضي؟ وأن جيلنا الحالي يصحح الأخطاء الماضية، وإن كانت فما هي أخطاؤهم؟ وهل فعلا نحن لا نكرر نفس الأخطاء في مواقع أخرى؟ هل ستأتي الأجيال اللاحقة وبيدها أخطاؤنا محاولة تصحيح ما كنا فيه، وإن كانت فما هي أخطاؤنا الأن؟ هل هي ذاتها؛ بألبسة معاصرة؟ أليس التشتت والتخوين وخلق الحجج في توسيع شرخ الخلافات وتصعيد الصراع الداخلي هي نفسها ولكن بأسماء مغايرة؟ فكم من أمثال الدكتور نورالدين ظاظا تم عزلهم ونفيهم من الساحة السياسية؟ وكم من أمثاله يتم الأن التعتيم عليهم من قبل مجموعات من السذج أو أصحاب المصالح أو الحزبيين، وبمساعدة قوى تستخدمهم لأجنداتها؟[1]