محمد هاني
يجدر بنا عند محاولة قراءة تفاعلات الحالة الكردية مع الثورة السورية التي اندلعت في 17 مارس/آذار 2011، العودة إلى الوراء قليلا، تعالَ لنذهب إلى العام 2004، إلى ملعب مدينة القامشلي، التابعة إداريًا لمحافظة الحسكة ذات الكثافة الكردية، هنا من المفترض أن تجري مباراة كرة قدم تجمع بين فريقي «الفتوة» المنحدر من دير الزور، و«الجهاد» الممثل لمحافظة الحسكة.
$2004: أكراد سوريا يميزون العدو من الصديق$
تذكر: نحن في العام 2004، حيث لم يمض سوى بضعة شهور على الغزو الأمريكي للعراق، ذلك الغزو الذي رحب به كُرد العراق كثيرًا، فجأة تتعالى هتافات المشجعين العرب بتحية مدينة الفلوجة العراقية التي كانت تمثل آنذاك رمزًا لمقاومة الاحتلال الأمريكي، تزداد الحماسة فتتصاعد الشعارات التي تتهم أكراد العراق بالتواطؤ من الأمريكيين.يرد المشجعون الأكراد بهتافات تستهزئ بصدام حسين ونظامه، يتطور الأمر إلى مصادمات واشتباكات داخل الملعب لا تلبث أن تمتد إلى عدة مناطق كردية، أُطلقَ على تلك الاحتجاجات اسم «انتفاضة الكُرد»، وهي الانتفاضة التي نجح النظام في إخمادها بالقوة، وبمساعدة من بعض العشائر العربية.
سُحقت الانتفاضة على الأرض، لكن آثارها ظلت راسخة تمامًا في الذاكرة، ويمكن وصف تأثيراتها على الأطراف السياسية في سوريا وقت اندلاع الثورة بالجوانب التالية:
النظام
أدرك النظام خطورة الأكراد في أي معادلة سياسية، ومن ثَمّ فبعد سقوط نظامَي «مبارك»، و«بن علي»، وفيما بدت بوادر حراك سياسي مماثل في سوريا، حاول الأسد التقرب من الأكراد، فمنح الجنسية السورية للكرد المسجلين في سجلات محافظة الحسكة، وهم من كانت تعتبرهم الدولة من قبل «أجانب تركيا»، فضلاً عن تخفيف القيود عن تملك الأراضي والعقارات في مناطق الأكراد، ودعا الأسد وجهاء الاكراد ورؤساء الأحزاب للاجتماع به. وقد تجنبت قوات الأمن الاحتكاك المباشر بالمظاهرات التي انطلقت في المناطق الكردية – بعكس بقية المناطق التي جوبهت احتجاجاتها بقمع شديد- ، خاصة أن تلك الاحتجاجات قد ظلت محدودة وصغيرة العدد نسبيًا، ومُسَيطر عليها من قبل الأحزاب الكردية التي حولتها فيما بعد لمسار منفصل عن الحراك العام في سوريا، كما سنذكر لاحقًا.
$المعارضة السورية$
أدركت شخصيات المعارضة السورية منذ 2004 أهمية الأكراد، فحاولت استقطابَهم ودمج مطالبهم في إطار أوسع من المطالب الوطنية العامة المتعلقة بفتح المجال السياسي، وإطلاق الحريّات السياسية والثقافية، وعند انطلاق الاحتجاجات في مارس/آذار 2011، ستحاول تنسيقيات الثورة مبكرًا استقطاب الأكراد وتحفيزهم للانضمام للثورة.فمثلاً: تم إطلاق اسم «جمعة الوفاء للانتفاضة الكردية» وجمعة «أزادي» -والتي تعني الحرية باللغة الكردية– على بعض أيام الاحتجاج، وقد حرصت المعارضة السياسية على دعوة الأحزاب والشخصيات الكردية للمؤتمرات التي حاولت تاسيس كيانات سياسية معبرة عن الاحتجاجات، وتواترت الاعترافات بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد.
الأكراد
في ظل وجود رأي عام شعبي مؤيد لقمع انتفاضة الكُرد أو جاهل بالأكراد ومطالبهم، فوجئت الأحزاب الكردية بمواقف المعارضة السورية المؤيدة لمطالب الكرد والمتضامنة مع حراكهم، فرأت أن من الأفضل تحقيق مطالب الأكراد عبر إطار وطني عام، فانضمت أحزاب كردية لإعلان دمشق – وهو ائتلاف علماني معارض ضم العديد من تجمعات وأفراد المعارضة، للمطالبة بديمقراطية متعدّدة الأحزاب. وستبقى الأحزاب الكردية تتبنى تلك الإستراتيجية جزئيًا بعد اندلاع الانتفاضة ، وستحرص على الانضمام إلى هيئات المعارضة المختلفة، على الأقل حتى يسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي بالسلاح لاحقًا على المجال السياسي الكردي، ويفرض نموذجه الخاص المغترب تمامًا عن الكل السوري.
2011: الاحتجاجات تنصاعد والأحزاب الكردية «تراوغ»
جاء اندلاع الانتفاضة السورية في السابع عشر من مارس/آذار 2011، مزامِنًا لاحتفالات الأكراد بذكرى انتفاضتهم في 12 من الشهر نفسه، كانت مشاركة في الفعاليات الاحتجاجية محدودة نسبيًا مقارنة بالأعداد الضخمة التي تجتذبها المناسبات ذات الطبيعة الكردية الخاصة – كإحياء ذكرى انتفاضة الكرد أو تشييع مشعل تمو لاحقًا. تكونت الفعاليات المعارضة أساسًا من مئات الشباب من تنسيقيات كردية خارج غطاء الأحزاب الرسمية التي – وبخلاف تيار المستقبل الأكثر راديكالية في الطيف السياسي الكردي والذي اغتيل زعيمُه مشعل تمّو في أكتوبر/تشرين الأول 2011- أنتجت مقاربة «انتهازية» نسبيًا، فتضامنت مع الانتفاضة المتصاعدة على مستوى الشعارات، فيما تجنبت الدفع بقواعدها الاجتماعية للتصعيد في الشارع بما يهدد النظام بشكل وجودي.
لم يسقط الكثير من الضحايا الأكراد في الأشهر الأولى من الثورة مقارنةً بالمناطق الأخرى، نتيجة لهدوئها النسبي من جهة، ولتجنّب النظام استثارة الشارع الكردي من جهة أخرى، نجحت الأحزاب في ابتزاز النظام ودفعه لإقرار بعض الحقوق الكردية، كتملك الأراضي وحق الجنسية، ولم تمض شهور من الثورة حتى بدأت ملامح الخطاب الكردي القومي المتمايز عن الاستقطاب الثنائي القائم (النظام- الثوار) تتكشف تدريجيًا.لم يكن باستطاعة الأحزاب الكردية أن تبقى على موقف المراوغة هذا طويلاً، تصاعدت الاحتجاجات في الداخل، واتخذت المواقف الدولية من النظام لهجة أكثر حدة، وفي 1 فبراير/شباط 2012 شهدت مدن القامشلي وعامودا ورأس العين ودرباسا تظاهرات موسعة، سمحت فيها الأحزاب الكردية لأنصارها بالمشاركة، وارتفعت الشعارات القومية الكردية والمطالبات بالفيدرالية لأول مرة، كان هذا دليلاً على تنامي تأثير الأحزاب الكردية في الشارع المحتج. ومع تحول الثورة إلى العسكرة ،لم ينضم الأكراد لل«جيش السوري الحر» وقيادته، بل أُرسلَ المجندون الأكراد المنشقون إلى إقليم كردستان العراق للتدريب ومن ثم العودة، ومع الانسحاب الجزئي لقوات الأسد من المناطق الكردية تحت ضغط الضربات العسكرية للمعارضة، اندفعت ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي لملء الفراغ الناشئ.شاركت الأحزاب الكردية في هيئة التنسيق الوطني، وكانت أكثر حذرًا في تبني خطاب «إسقاط النظام» لأسباب عدة، ودعت بدلاً من ذلك إلى «تغيير النظام»؛ أي إدخال تعديلات عليه من دون استئصاله بشكل جذري، من بينها أن من شأن موقف متمايز كهذا أن يتيح للأكراد هامش مناورة لابتزاز النظام وأطراف الثورة على حد سواء، فضلاً عن وجود تقديرات بقدرة النظام على الصمود مع تأمينه شبكة دعم متماسكة إقليميًا ودوليًا – روسيا، إيران، حزب الله. ويُضاف إلى ذلك عدم معرفتها بمآلات المسألة الكردية بعد سقوط النظام، فضلاً عن نظرها بتوجس إلى الدور التركي المتصاعد في سوريا، حيث تدفقت موجات اللاجئين إلى الأراضي التركية، وبدأت الفصائل العسكرية الناشئة تتلقى الدعم من أنقرة، كما غدت إسطنبول مركزًا نَشِطًا لاجتماعات المعارضة وتنسيق مواقفها، وقد كانت الفصائل الكردية حساسة إزاء الموقف التركي لأسباب تاريخية.
$ظهور النزعة الانفصالية للأحزاب الكردية$
مع نهاية العام 2011 وبدايات العام 2012، بدأت الحركة السياسية الكردية تتخذ موقفًا أكثر انعزالية عن الحركة السياسية السورية الوطنية، تصاعدت المؤشرات التي تدل على النزعة الانفصالية للسياسيين الكُرد، فظهرت مصطلحات «كردستان الغربية» والمطالب الفيدرالية في الخطابات السياسية والبيانات الحزبية واللافتات الاحتجاجية، وجاهر بها الكتاب الكرد علانية في مقالاتهم وكتاباتهم- وهو تطور نوعي في الموقف الكردي؛ إذ كانت تلك الأحزاب عن مثل تلك الدعوات منذ انخراطها في العمل الحزبي 1965.شهد شهر أكتوبر/تشرين الأول 2011 تأسيس المجلس الوطني الكردي الذي ضم أغلب الأحزاب الكردية -لم ينضم إليه حزب الاتحاد الديمقراطي، حمل بيان تأسيس المجلس تأكيدًا على أن «الشعب الكردي يعيش على أرضه التاريخية»، وبعد أن كانت مطالب السوريين الأكراد لعقود تتمحور حول الحصول على حقوقهم الثقافية والاجتماعية، بدأ يجري التركيز على التعامل مع المسألة بوصفها «مسألة قومية كردية» في مقابل القومية العربية.جرى توصيف جرائم النظام بحق الأكراد بوصفها جرائم فئوية قومية، لا كجزء من حالة اضطهاد طالت كل مكونات الشعب السوري، والغريب أن الأحزاب الكردية التي كانت ترفض إلحاق لفظ «العربية» بلفظ «الجمهورية السورية» أو الكيانات المعارضة، قد أصرت على تسمية مؤتمرها بالكردي، كان هذا دليلاً على نزعة قومية متصاعدة تمتنع عن الاندماج في ثورة وطنية تسعى لحل قضية الأكراد في إطار وطني ديمقراطي.تسبب النهج العنيف لنظام الأسد في التعامل مع الاحتجاجات، وما تلاه من اتجاه الثورة نحو العسكرة، تسبب في أن يصير صوت السلاح هو الصوت الوحيد المسموع في سوريا، وكان من الطبيعي إذنْ أن ترتفع أسهُم حزب الاتحاد الديمقراطي وزعيمه «صالح مسلم» في المجال السياسي الكردي.كان الحزب يمثل الصوت العنيف بين الأحزاب الكردية، له ميليشياته الخاصة، ومستندًا إلى خبرات سابقة لأفراده مع تجربة حزب العمال الكردستاني التركي، ومستفيدًا من تحالف ضمني مع النظام السوري -لم يخلُ من محطات افتراق وتصادم أحيانًا.
معتمدًا على منهج شديد القسوة في التعامل مع معارضيه داخل الصف الكردي نفسه، ومشفوعًا برضا دولي بعد أن سجل نقاطًا جيدة للغاية في معاركه مع داعش، كان الحزب يتقدم بسرعة الصاروخ نحو مشروع الدولة الكردية في الشمال، ذلك المشروع الذي لم يكن أحد يفكر فيه أصلاً قبل خمس سنوات قبل أن تجيء الثورة وتطوراتها تجعله أمرًا قابلاً للتحقق، المشروع الذي سيصبح -للمفارقة- خنجرًا في ظهر الثورة التي خرج من رحمها.[1]