كاميران كريم احمد
بالتزامن مع التحدي الاكبر الذي يواجهه الشيوعي الكوردستاني في هذه الايام وهو الاصلاح والتغيير، يجري نقاش موسع وعلى كل المستويات داخل و(خارج) التنظيم حول اسس هذا الاصلاح وسبل الوصول الى نهايته والطرائق التنظيمية وغير التنظيمية الكفيلة باستمرار هذا النهج وعدم توقفه بغية عدم تكرار، او على الاقل الحد من الاضرار التي ولدتها حقبة الازمات والخلل في حياة هذا الحزب.
ويرغب اغلب المنادين بالاصلاح ان يتم تغيير القيادة (وهم على حق كبير كما سأبين لاحقا) لكي تتم عمليات التغيير تلقائيا بسبب انهم المعوق الاهم للتغييرات في الحزب... ولكن، الا ينبغي دراسة وبامعان قضايا البناء الحزبي واسسه الفكرية والتنظيمية وكذلك مراجعة الايديولوجيا والخطاب السياسي المستندة الى التغييرات الموضوعية في المجتمع والعالم وكذلك تنظيم الناس على اساس مصالحهم والدفاع عن الذين يعولون على الشيوعيين ان يكونوا صوتهم واداتهم في سبيل عالم افضل وتحقيق جملة الاهداف والشعارات الواقعية التي قد تختلف ليس بين زمن واخر بل اتجرأ واقول انها سريعة التحول وربما اسرع احيانا من الفترة بين مؤتمرين للحزب، اي ان التحولات الكبرى والسريعة في السياسة والاقتصاد والاجتماع تحتم التنوع والديناميكية والمجاراة كما في سباق ال400م بريد في رياضة الساحة وميدان المشهورة! فانك يجب ان تتوقع كل شيء وخاصة اللاعبين الجدد الشباب وامكاناتهم التنافسية وبالذات (لاحظوا معي) تدريبهم واستعداداتهم. قد تبدو المقاربة مضحكة نوعا ما، الا انني اود ان اقرب القارئ الى ما هو واقعي معيش وليس مجرد تنظيرات جوفاء كانت ضمن اسباب اخرى مأساة لنا ولم تخدم اهدافنا وحركتنا.
اذن تغيير القيادة هو ابسط الحلول، وربما نقع في دوامات من المشاكل والاخفاقات لو عولنا على ذلك فحسب، ولم يتم الالتفات الى ما هو اهم واعمق وجذري في عملية الاصلاح والتغيير، التي ربما تدفع البعض الى النكوص او محاولة الالتفاف عليها لان قيادة (قديمة او جديدة) سوف لن تكون في مستوى التحدي دون تغييرات جذرية في فكر وعمل الشيوعي الكوردستاني.
ادعو القارئ الكريم الى الجزء الثالث من هذه المقالة والذي سأبين فيه رأيي المتواضع في بعض الحلول للخروج من الازمة وذلك على اساس وضع ميكانزمات للتغيير وليس وضع حد لنتائج الصراع المتشعبة عناصره والذي لست جزءا فاعلا فيه ولا تهمني من بعيد او قريب نتيجة من سيطرد من او كيف سيكون شكل اللجنة المركزية الجديدة. اقول ان من دواعي فخري واعتزازي هو انني حريص على مستقبل الشيوعية واليسار ككل وسوف اكون وبلا كلل في خدمة مشروع التغيير والاصلاح اينما كان والى الاخير.
ولا يقصد من الميكانزم العمل حسب المادة الجامدة، كما في الفيزياء والميكانيكا، بل بالعكس اعطاء البعد البشري والمجتمعي حقه بما فيه من عقل وفكر واحاسيس ومصالح معقدة ومتحركة ومتناقضة بشكل لا احد يتصور مدى ما تصل اليه من تطور وتنافس. ونحن لدينا اهم سلاح في فهم وتحليل الاشياء والظواهر والعلاقات: النظرية الماركسية المادية، وعليه فاننا قادرون على الوصول الى نتائج ملموسة لو احسنا العمل وبشكل مستمر وفق مفهومنا في التحليل ومن ثم الاستنتاج وبالتالي وضع الخطط والاهداف.
الميكانيزم الاول: فهم المجتمع
كل الاشياء تتغير، وهل نحن في واد اخر؟
لم نكن قبل عقدين من الزمن نعتقد بان موجة تغييرات كبيرة قد تأتي وتجرف معها مسلمات وبديهيات لطالما تحكمت في عقولنا وفكرنا وربما قلبت عالي الاشياء سافلها. وهذا كلام لا يختلف عليه اثنان ولا اعتقد انني اجافي الحقيقة حين اقول ان بعضنا لا يزال يعيش في الايام الخوالي بل ويفخر بذلك وهذا حقه، ولكن ليس من المعقول انه لا يرى ابعد من اصابع قدميه. اذ تحولت في غمضة عين دول ومجتمعات باكملها من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي الى نقيضه، وقس على ذلك. اما في مجتمعنا الكوردي فأنك لن تجهد نفسك كثيرا لترى حجم التغييرات التي طرأت ليس بسبب التحول في النظام الاقتصادي والاجتماعي في البلاد ولكن بسبب سياسات النظام البائد والتشوه البنيوي ان على صعيد المجتمع او الفرد والذي حصل في سنوات الثمانينات وما بعد انتفاضة 91 والى يومنا هذا والتي يمكن ان اعدد بعضا منها:
فناء المجتمع الريفي بعد حملات الانفال وما نتج عنها من عمليات حشر السكان اما في المدن او في المجمعات القسرية، وتوقف الانتاج الزراعي والحيواني بشكل شبه كامل، وانتج ذلك مجموعة من التغييرات في البنيان الطبقي والاجتماعي، فمثلا لم يعد الفلاح فلاحا ولا الاقطاع اقطاعا من ناحية دورهما كقوى انتاج وحصولهما على الدخل المتولد من العمليات الاقتصادية المصاحبة وبالتالي علاقتهما ببعض وبالقوى الاقتصادية والاجتماعية الاخرى وتأثيرهما على مجمل العمليات الفوقية في السياسة وغيرها. ناهيك عن الفناء الكلي لمجموعة الرأسمالية الزراعية والعاملين فيها في القطاعين العام والخاص.
التوقف شبه التام للانتاج في المدن سوى بعض المهن الحرفية الصغيرة والعمل في الخدمات البلدية وفي القطاعين التعليمي والصحي والوظائف الادارية التي لا ترتقي الى ان نقول عنها منتجة كبيرة وملموسة ولا يمكن تصنيف العاملين بها من الناحية الطبقية بشكل سليم.
الاستخدام المفرط في التجنيد للمؤسسة العسكرية والشرطة والامن وبالتالى خروج مئات الاف الشبيبة الى خارج التصنيفات الاجتماعية والطبقية المعتادة.
اضف الى ذلك ان الطبقة العاملة لم يعد لها وجود عمليا (كطبقة وليس كافراد عاملين) بالنظر للتوقف شبه التام للمصانع والورشات والسكك والنقل والكهرباء والبناء والسياحة وغيرها من الاماكن التي كانت معروفة تاريخيا بوجود اليد العاملة فيها في كوردستان.
كما تنبغي الاشارة الى حركة الناس (الهجرة) غير المسبوقة في الداخل والى خارج البلاد مما ولد حالة من اللاستقرار السكاني والتشوه المصاحب لها على صعيد قرب او بعد القادرين على الانتاج المادي والفكري ومساهمتهم في البناء الفوقي للمجتمع.
وانعدمت كليا الرأسمالية المحلية المنتجة الخاصة او العامة او الاجنبية نظرا لعوامل اللااستقرار الامني والحصار وفك الارتباط الاداري مع المركز (بغداد) وغيرها، واصبح التداخل والتنافر في الفئات المجتمعية هو السائد وغدت هيكلية الاقتصاد والادارة مشوهة بل ومعدومة، وتخطت البطالة اعلى المستويات وغير مسبوقة، وتردت الخدمات المقدمة الى المواطن الى ادنى مستوياتها وفي بعض الاحايين انعدمت كليا، ودخلت جموع كبيرة من الناس في قوائم الفقر بل وما تحت خط الفقر بكثير، واضف الى ذلك وكنتيجة حتمية ان تراجع التعليم بكل مستوياته ورجعت الامية بقوة ومعها تعززت النزعة الدينية المتزمتة والتقاليد البالية والاعراف العشائرية، وتراجعت مكتسبات اجتماعية وخاصة للمرأة والطفل والشباب.
ومن الناحية السياسية لا اعتقد ان اوضاعا كهذه تولد حياة سياسية طبيعية بل عانى المجتمع وبقوة من الهيمنة الحزبية والصراع على السلطة والمال والقرار تحول في مرحلة ما نزاعا عسكريا وتقسيما مناطقيا شديد الوطأة والنتائج. ورغم حدوث (انفراجات) عديدة في الوضع السياسي الا انه في المحصلة ما زال الناس يقولون ان فئة صغيرة تحتكر وتتحكم في المفاصل الاساسية للاقتصاد والقرار الاداري والقضائي والسياسي وغيره، ولا تزال العملية السياسية تعرج ويجري تعطيل وظائف وصلاحيات اهم المؤسسات كالبرلمان والوزارات والمحاكم وغيرها. وفي خضم الاستقطابات السياسية تجري عملية تجاذبات بين المكونات الرئيسة للسلطة وبين الناس هي التي تحدد والى حد كبير مدى ما يحصل عليه الفرد القريب من السلطة من دخل وامتيازات وسواها، وفي هذه النقطة بالذات يمكن فهم المكون الاجتماعي الاعلى دخلا (وبعضهم ربما على مستوى العالم!) والاخرين الأقل وانتهاء بالمعدومين والمهمشين، وليس ما يفرزه النشاط الاقتصادي وقواه المحركة والطبقات والفئات الاجتماعية التي لا تملك سوى قوة عضلها او عقلها وتلك التي تملك وتتحكم بوسائل الانتاج وبالتالي بالعلاقات المتولدة من العمليات الاقتصادية وانعكاسها على البنى الفوقية للمجتمع.
الميكانيزم الثاني: الفكر والثقافة
صحة نظريتنا من صحة الحاملين لها
اذن لا بد ان نفهم ان مجتمعنا الحالي ليس بمجتمع الستينات والسبعينات وما قبلها، وان التعامل كقوى سياسية مع الناس يحتاج الى مراجعة البديهيات واجراء دراسات اعمق واشمل داخل التنظيمات وخارجها لاجل وضع صورة عن مجتمعنا الحالي من ناحية:
1- النشاط الاقتصادي وقطاعاته من حيث العام والخاص ومن حيث كبره وصغره كالنفط وتربية الاسماك كمثل، ومن حيث الحرفي او التصنيع، ومن حيث الوطني او الاجنبي، ومن حيث الزراعي او الصناعي او الخدمي، وهكذا.
2- معرفة القوى العاملة وفروقاتها وحجمها والقوى الرأسمالية ونوع الرأسمال وخصائصه ومصادره وحجمه.
3- مصادر الدخل الاساسية للفرد العامل وغير العامل (غير النشط اقتصاديا). دراسة العلاقات المتولدة من النشاط الاقتصادي ومن النواحي الاجتماعية والقانونية وغيرها.
4- دراسة القوى السياسية (مهما كانت) ووضع خريطة مفصلة لها.
5- دراسة الوضع العشائري والمناطقي والديني والطائفي والقومي وغيرها والعلاقات ما بينها ومدى تأثيرها في تشكيل الوعي السياسي وغيره. ودراسة التغييرات السكانية في الريف والمدينة والفئات العمرية والمرأة والطفل والشبيبة والشيوخ وغيره.
6- دراسة فئات اجتماعية ذات الخصوصية كالمثقفين وغيرهم، حجمهم وتأثيرهم ودورهم في المجتمع.
هنا يستطيع الشيوعيون تغيير تصوراتهم عن المجتمع وتغييراته والتأثير فيه وفي السياسة والفكر والثقافة بالنظر الى قربهم من الفئات (ربما في المستقبل طبقات) الاجتماعية والدفاع عن مصالح الذين يحتاجون الى من يمثلهم سياسيا وهم قطاعات كبيرة جدا عدديا ومناطقيا وقوميا وغيره، وتشكيل جملة الافكار والثقافة والوعي التي تقترب من هؤلاء وتؤطر حركتهم ومطالبهم وتنظمهم وترسم لهم ولعموم المجتمع الخطط والاهداف والبرامج الواقعية التي تتحقق بفضل مشاركة فاعلة من المكونات التي لها مصلحة في ذلك وتقودها قوى سياسية تثق بها ومنهم الشيوعيون، وهذا ما سيدعم وبقوة هويتهم وتميزهم وصلابة مواقفهم وعودتهم الى ساحات الصراع السياسي منه والفكري.
ان تعزيز الحياة الثقافية داخل الشيوعي الكوردستاني من اهم واجبات التنظيمات والهيئات الحزبية القاعدية والعليا فبدون ذلك سيظل الشيوعيون يراوحون مكانهم ولن يكونوا مستعدين لفهم الظواهر الجديدة وتحليلها والاستنتاج لها، ولا يكونون مقنعين ومسلحين بأدوات وحجج مهمة لجر قطاعات مختلفة الى مواقعهم وحث الناس على النشاط السياسي وغيره، بينما نرى ان هناك نقصا كبيرا في تحليل الواقع الاجتماعي و(الطبقي). ولا ينبغي التفكير بان الفكر الماركسي غير مؤهل في هذا المجال بل على العكس فان التقدم العلمي والتكنولوجي ومجمل التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الثلاثة عقود الاخيرة وعلى المستوى العالمي اغنته وجعلته اكثر التصاقا بالواقع وبالحياة. من البديهي ان نستنتج من الميكانيزمين الاولين حتمية جملة من التغييرات مرتبطة ببعضها وبشكل حيوي وذلك داخل الحياة الحزبية ونشاطه.
الميكانيزم الثالث: التنظيم والقيادة
الشيوعي قائد اراد ام أبى.. والقائد الشيوعي قائد جماهيري
لماذا يختلف الشيوعيون عن القوى السياسية الاخرى في المجتمع؟ الجواب بسيط: يتبنى الشيوعيون الفكر الاكثر ثوريا في التاريخ وهم يقودون الطبقة الاكثر ثورية في المجتمع. هاتان الحقيقتان طبعتا كل نضال الشيوعيين ولزمن طويل ولكن هناك اختلاف لا بد ان نعيه وان ندرك معانيه من نظريتنا بالذات: اين عامل الزمان والمكان في هاتين الحقيقتين، واين نحن من حقيقة ثورية جلية وهي الثورية في ذاتنا وليس موضوعيا فقط.
هناك حاجة ماسة لأن يراجع الشيوعيون الاساليب التنظيمية وتغييرها بما يجعل حركتهم اكثر دينامية ان من حيث وصولهم الى الجماهير او من حيث التفاعل في ما بينهم وتعزيز روح الديمقراطية بالذات والتقليل من المركزية المفرطة وايجاد اليات جديدة لصنع القرار وتشكيل هيئات اختصاص اكثر اختصاصا واكثر فعالية في المشاركة بصنع الخطط والبرامج وبالتالي القرار السياسي والتنظيمي وغيرها، وليس الحد من صلاحياتها وجعلها للاستئناس والمشورة فقط. وكمثل فان هيئات العمل الجماهيري يجب ان تتنوع وتناط بها صلاحيات اوسع وكذلك هيئة الاعلام او هيئات العمل النقابي واستحداث هيئات سريعة للانشطة التي تطرأ فجأة واناطة مسؤوليات وصلاحيات واضحة بها. كما ان اللجان المحلية وتفرعاتها يجب ان تختص ايضا لأن الاختصاص يعطي الحزب فعالية اكثر ويجعله اقرب الى الناس ومطالبهم، وكمثل فان الهيئة المختصة بالواقع الزراعي والفلاحي اعتقد ان تكون في مواقع اقرب الى الانتاج والعاملين فيه جغرافيا، فيما تختص هيئات المدن الكبرى باختصاصات اقرب الى النشاط المديني وتفرعاته، ومن الافضل ان تناط بكل عضو حزبي مهمة اختصاصية مهما كانت وكل حسب موقعه وخبرته.
اما عن ضرورة موضوع الاختصاص فانني ارى ان التغييرات الكبرى التي جرت في المجتمع وما حولنا تحتم الوصول اقرب فاقرب الى مفاصلها ودراستها واعطاء الحزب افكارا وتصورات عنها واقعية وحيوية وآنية لأجل رسم السياسة والفكر والثقافة والاعلام على ضوئها وتنظيم الناس ضمن ما هو اقرب الى مطالبهم وتطلعاتهم. ولست على يقين كلي من شكل ومحتوى النظام الداخلي الجديد والهرمية الحزبية وما شاكل لان ذلك من اختصاص المؤتمر الحزبي العام ولكنني اعتقد ان القيادات الاختصاصية والشابة والقريبة من الناس هم المعول عليهم لقيادة الحزب لان وجودهم في معمعان الصراع والعمل والفكر يعطيهم القدرة على تحديد ما هو القرار الصائب وكيفية والية تطبيق البرامج الحزبية والتكتيكات المناسبة التي تخدم الاستراتيجيا والسياسة العامة التي كانوا هم من وضعها في الاساس. وعلى اساس وجود هؤلاء في الطليعة الحزبية وبين الجماهير فان ذلك يعطي دافعا اخر لاعادة الثقة المتبادلة بين الاعضاء انفسهم وبينهم وبين من يدافعون عن حقوقهم. ويا حبذا لو اسس الشيوعيون مدرسة حزبية لتأهيل الكادر او (صقل المهارات) او ربما التفكير باشكال اخرى من التثقيف كالندوات النوعية العملية والنظرية او ورشات في مختلف الاختصاصات.
ان حجم وتأثير الحزب لا يقاس بالعدد الكلي للاعضاء والاصدقاء والمؤازرين، بل بجموع الناس المستعدة للانضمام الى نشاطهم والتفافهم حول برنامجه وسياساته. ولا يظن احد انني لست مع توسيع قاعدة العضوية ولكن على اي اسس، اذ من احد واجبات الشيوعي هو الكسب الحزبي ويبقى ان يتم التفكير بالوسائل الافضل لهذه العملية، وخاصة لما للتغييرات البنيوية في المجتمع من تأثير، وما افرزته سنوات الحصار والحروب والامية والفقر من واقع مثقل بالتحديات امام الاجيال الجديدة من الناس الذين ربما لم يسمعوا باسم الشيوعية ولكنهم مستعدون للانخراط في النشاط السياسي وغيره لتحسين معيشتهم وتطور بلادهم وامتهم. ولست من المتفائلين بقدرة الشيوعي الكوردستاني في تحقيق اي انجاز ان على الصعيد السياسي او الاجتماعي او القومي لو انه بقي اسير مرحلة سبقت وتحديات زالت ورصيد نضالي يتآكل يوما بعد يوم، ولا بد ان يلتفت وبجدية الى انجاز خطوات مهمة في تغيير قيادته ونظامه الداخلي وعموم حياته الحزبية الداخلية. وتقودنا هذه الى الميكانيزم الاخر المرتبط عضويا بالتحولات في البناء الحزبي والتنظيم واقصد به العمل الجماهيري والوطني والتحالفات.
الميكانيزم الرابع: النشاط السياسي والجماهيري
الساحة تسع الجميع.. ولكن الى متى؟
ينقسم الناس الى ثلاثة اقسام من حيث النشاط السياسي: الناشطون المنتمون للاحزاب والناشطون المستقلون والمستقلون اللاناشطون. وفي كوردستان جرى ويجري حراك شبه يومي في مواقع افراد وجماعات منتمين لاحدى الفئات الثلاث، وذلك لاعتبارات كثيرة من اهمها المصلحة الشخصية (وهي ليست بالضرورة مصلحة انانية)، وما الضير في ذلك لاننا لو علمنا بمدى التصاق الناس بمصالحهم الفردية وتوعيتهم بالتلاقي بينها وبين المصالح الجمعية او الفئوية او الطبقية، لكنا اليوم في طليعة الحياة السياسية ولاخذنا السلطة وللابد. انني اؤشر هنا موضوعا شائكا قديما صار عبئا على المناضلين او المنتمين الى الشيوعية تنظيميا كان ام مجرد فكر: اذابة الذات في مصلحة المجموعة. وذلك بمعنى ان يفني المناضل حياته خدمة للجماعة بحيث تتراجع كليا المصلحة الفردية بما فيها من التزامات متعددة ومتشعبة ومعقدة لصالح الجماعة وهم هنا الحزب. وليست لدي النية لان اعدد او اعطي امثلة لذلك فهي معروفة للقاصي والداني حول تضحيات الشيوعيين. ولا أعيب في هذا المبدأ بحد ذاته بل اود ان اطرح اسئلة على القراء الكرام عسى ان تتم عملية فهم جوهرية لما اريد ان اصبو اليه وأكمل مقالي لاحقا: هل الشيوعية مبدأ متزمت ام نشط وحياتي؟ بمعنى هل هو دين وفيه قرابين للآلهة دون مقابل دنيوي ولكن مقابل وعود بالجنة فيندفع المؤمنون لتلبية ارادة الكهنوت فيعطون القرابين جزافا ان عينا او بشرا او حيوانات وقس على ذلك. السؤال الثاني: لماذا لا يتم الدمج بين المصلحة الفردية ومصالح المجموعة بحيث يقتنع المنتمي الى الجماعة السياسية انه سيحصل على مردود بالنتيجة لمشاركته السياسية والمردود يتعاظم حينما تشترك جموع اكبر في النشاط السياسي مهما كان شكله (وهذا حتمي). وثالثا هل اخذ الشيوعيون كافراد حقهم في الحياة الحرة الكريمة بالتناسب مع كبر تضحياتهم؟ السؤال الرابع هو أين يجد الشيوعيون و(طبقتهم) انفسهم في أتون الصراع على السلطة والمال والقرار؟
ان من أول واهم مبادئ العمل الجماهيري هو اقناع الناس بالمصلحة في تبني برنامج معين والدفاع عنه وتأطير الوسائل لتحقيقه وادوات ذلك، وقبل ذلك هل من المعقول ان لا يتم اقناع الشيوعيين (طليعة الجماهير) انفسهم بما سيحققونه لانفسهم كمحصلة للانجازات التي رفعوا لواء الكفاح في سبيل تحقيقها. ولاحقا يجد الشيوعي (كأي فرد عادي) نفسه امام سؤال عظيم: وأنا؟ هل أنا نكرة؟ هل أنا لست استاهل؟ و(أنا) هنا ليست انانية بل هي مشروعة وضرورة، مشروعة لانها تتعلق بالحقوق والواجبات التي يتساوى الجميع فيها (وهذه ثمرة كفاحنا)، وضرورة لانها تبرر ان يتصدى الشيوعي للتحديات ويقف في الصفوف الاولى لقناعته بانه هو بالذات يقود الاخرين لتحقيق مصلحة الجميع وبضمنهم هو.
اعود فاقول ان توسيع العمل الجماهيري ليس بالمهمة الصعبة امام الشيوعيين ولكن التحديات اختلفت بين عقدين من الزمان وستختلف سريعا وفي لمح البصر، ولا يجب اهمال ادق التفاصيل في حياة الناس اليومية فهي موضوع العمل الجماهيري، وتتعاظم في كل مكان امكانية الزج بالجماهير في النشاط المطلبي الاني منه والبعيد المدى، وتتسارع وتيرة التحولات في المجتمع ما يحتم وضع اليات وادوات للتعامل معها والدفع باتجاه ان يكون للناس رأي في القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومستقبلهم وغيرها الكثير اذ اننا مجتمع يتولد من جديد وينبغي ان تكون للشيوعيين فيه بصمتهم وحراكهم المتميز.
ان وجود الشيوعيين الكوردستانيين في تيار كبير من اليسار والعلمانية شيء ايجابي وارى فيه امكانات كبيرة ولست ومعي الكثيرين ارى في ذلك ساحة للتنافس والتنافر بل بالعكس فان قوى هذا التيار قريبة الى ما يعانيه الشيوعيون من مصاعب وتحديات مشتركة، وهؤلاء الاقرب فكريا واجتماعيا من الشيوعيين، ومن البديهي ان تتشكل منهم جبهة ذات اطار قانوني لست اتسرع في وضع صورة له ولكن اجد ان الاسراع في تشكيله هو احد اهم الانجازات في المسيرة الوطنية للشيوعيين. وتوجد قواسم مشتركة مع قوى وطنية اخرى تقف على مسافة قريبة من برنامج الشيوعيين في عدة مفاصل وليس كلها، وحتى احزاب السلطة فانها في مد وجزر في العديد من الملفات التي تواجهها وهناك امكانية كبيرة لدى الشيوعيين ان يتواصلوا واياها ولكن من موقف المعارضة المبدئية في امور المصيرية.
كلما كان الشيوعيون بين الجماهير، كان صوتهم مسموعا وارادتهم قوية، وليس الاستناد الى تحالفات ركيكة وغير مبدأية لا تسمن ولا تغني بل تشتت الجهود وتنزع الكثير من المصداقية والكثير من الاعضاء والمؤازرين، وتجعل هويتنا في مهب ريح لا ترحم. فالساحة فيها الكثير من المجال ولكن يبقى من (يشد الحيل)!
ارجو عزيزي القارئ المعذرة لانني اطلت، ومعذرة اكبر لانني اسميت مقالي (رعب الاصلاح)، اذ ان المهمة ليست بالبسيطة وهي طويلة ومعقدة، وقواها المحركة لا تزال في البدايات.. وان من يتصدون لها يجب ان يبدأوا من انفسهم، ولهذا كله ابرر لنفسي هذه التسمية وانا على قناعة بان الشيوعيين (ارتعبوا) من واقعهم الصعب حتى قبل ان استل قلمي لكتابة هذه الموضوعة.[1]