#هوشنك بروكا#
من عاش في ظل ثقافة الحزب الواحد، والرئيس الواحد، والكلام الواحد، والكتاب الواحد، والدين الواحد، يعلم كيف يجيد الواحديون فن سياسة تجنيد كل البلد، سماءً وأرضاً، حكومةً وشعباً، من الفوق إلى التحت، ومن الألف إلى الياء، لأجل معركة المصير الواحد؛ معركة الزعيم الجاهزة دائماً وأبداً.
فالعالم، بحسب هذه الثقافة الواحدية، موزعٌ بين دارين: دار الأنا الصحيحة الكاملة ودار الآخر المعتل الناقص؛ دار السلام ودار الحرب؛ دار الله ودار الشيطان؛ دار الخير ودار الشر؛ دار الحقيقة ودار الكذب؛ دار الطيبين الأخيار ودار السيئين الأشرار؛ دار الوطنيين المناضلين ودار الخائنين المتخاذلين.
العالم، بحسب نحو وقواعد ثقافة الزعيم، إثنان لا ثالث لهما أو بينهما: المع وضد؛ الرفيق الوطني النصير، واللارفيق الخارج وطني الحقير.
الكرد، كسواهم من ضحايا صراعات وحروب هذه الثنائيات الإيديولوجية الضيقة، عانوا ما عانوه. هم، ككل الضحايا الذين سقطوا تحت أقدام أمراء الحروب، سواء على مستوى الداخل الكردي أو خارجه، كشهداء مقدسين أو ككقتلة إرهابيين مدنّسين، عانوا الأمرّين، على مرّ تاريخهم الصعب واللارحيم، فقُصفوا بالكيمياء، بالجملة، وأُنفلوا وابيدوا وذُبحوا وهُجّروا وشُرّدوا بالجملة.
ووفقاً لذات المنطق الإيديولوجي السقيم والأعوج، وقاعدته العرجاء يا أبيض يا أسود، دخلوا مع بعضهم، في التاريخ القريب والبعيد، في حروب الإخوة الطاحنة، التي زهقت أرواح آلافٍ مؤلفة من رفاق الدرب الواحد المفترض، إلى كردستان واحدة مفترضة.
اليوم، تغيّر العالم، وحصل الكرد في جهةٍ من جهاتهم المشتتة، على بعضٍ من كردستانهم، ببعض برلمان وبعض حكومة وبعض جيشٍ وبعض رئيس، ولكن المنطق الإيديولوجي الواحدي السقيم، كردياً، بقي هو هو، ينخر في العقل الكردي، ويعمل على ترسيخ الثقافة الرجعية الماضوية المقيتة ذاتها، ويسهر على صناعة القتل والقتل المضاد، رمزياً، عبر أساليب وأدوات جديدة قديمة، يشتغل علىإعادة تركيبها، جوقة من المثقفين الطبالين الزمارين، المستكتبين المعتاشين على كوبونات كردية، أو حماسويات ووطنيات قوموية، مدفوعة الثمن سلفاً.
فيكفي أن تمتدح في الأب الرئيس(وما أكثر الرؤساء والزعماء الكرد والأمناء العامين والخاصين، ففي سوريا وحدها، حيث يقارب تعداد الكرد ثلاثة ملايين فقط، هناك 16 زعيم كردي أو ما يسمى غالباً بالسكرتير)، والقائد الضرورة، المناضل(قدس الله سرّه)، وأصله وفصله، وعشيرته وعائلته، وآله وصحبه، أو حجله وحمامه وكلبه، لكي تحظى بشرف العضوية في جوقة الطبالين والزمّارين، المداحين المناضلين الأمينين على رسالة القائد الضرورة.
التعليقات والردود المفصّلة كردياً(من جهة الكتاب المستكتبين المجندين حصراً، وبعضهم يختفون وراء حرية الأسماء المستعارة، والوجوه المستعارة، والأخلاقيات المستعارة)، على المقالات التي يتناول فيها الكتاب(الكرد منهم على وجهٍ أخص) الشأن الكردي ببعض النقد، تكفي لقراءة الكثير مما تعانيه الثقافة الكردية، كسواها من الثقافات الجارة، المصابة بأكثر من داء، وأكثر من ديكتاتور، وأكثر من قائد ضروري مجيد.
أما الموضة في الراهن من المشهد الثقافي الكردي، فهو ركوب النقد..نقد الآخر..نقد الكل..نقد الأرض ونقد السماء، إلا نقد الذات الكردية، لا سيما الذات الرسمية الممثلة بكردستان الرسمية منها. فهؤلاء النقاد الكرد، يشتمون بغداد في هولير، وينتقدون الآخر التركي، أو العربي أو الفارسي، من موقع ثنائية الظالم والمظلوم(أو عقدة المظلومية)، ويتهمونه بشتى الأوصاف، والخصال الديكتاتورية والشوفينية والعنصرية والخارج حضارية، علماً أنّ الفوق الكردي(سواء الحزبي المعارض منه، أو الرسمي الحاكم)، يقلّد، كما هو واضح لكل متابع، في بعضٍ كثيرٍ من قيامه وقعوده، سلوكيات ذاك الآخر، الديكتاتور، الذي اختزل حدود الحزب والبرلمان والحكومة وسائر أجهزة الدولة، في حدوده.
هؤلاء النقاد الشطار، ينسون أن كل الشرق(بعربه وفرسه وأتراكه وأكراده..إلخ)، هو في هوى الزعيم المقدس سوى.
ومثلما يسهل على كل بائع كلام في الوطنيات الكردية، أن يدخل عبر بوابات المديح المقبوض، إلى كتائب الكلام، للوقوف بالمرصاد في وجه أيّ كلام خارجٍ عن الخط الكردي المرسوم من الفوق سلفاً، يريد به صاحبه التشويش على صورة الرئيس، يسهل على بائعي الكلام الوطني الكبير الكثير، هؤلاء، أيضاً، حجب كل الوطن عن كل مشوّشِ، أراد الإقامة في كلامٍ، من شأنه أن يهز حروف إسم الزعيم.
والرئيس أو الزعيم، كردياً، هنا، كثيرٌ جداً، يشمل الكل الكردي، في كل جهات الكرد قاطبةً، وبدون استثناء..حيث كل حزبٍ بصورة رئيسه وقائده معجبٌ..فلا كلام يعلو على كلام الرئيس، كما لا عقل يفوق عقل الرئيس..هو الأول وهو الأخير، هو المبتدأ والخبر، هو السؤال والجواب، هو الأرض والسماء..من هنا كل شيء يمكن، كردياً، كحال كل الجيران، أن يتغير، إلا الرئيس..فهو باقٍ من الحزب المهد إلى اللحد..وإن انتهى(لا سامح الله) فخليفته من دمه، أو قرابته القريبة المقرّبة جداً(والأقربون أولى بالمعروف)، مصنوعةٌ جاهزة، لإستلام مفاتيح الحزب أو الدولة.
أما الكلام الوطني المنظّر فيه من جهة مثقفي الرئيس، الضاج بعياط الوطنيات الثقيلة المحفوظة عن ظهر قلب، فما هو إلا تذكرة مرور هؤلاء إلى وطن الرئيس، الذي لن يكون إلا إذا كان الرئيس؛ فالوطن يحضر حين يكون الرئيس، والوطن يموت، لا محال، متى غاب الرئيس..فلا جدوى للوطن من دون الرئيس، لأن الوطن والرئيس واحد.
هذا الكلام الشغال ليل نهار لإشاعة الوطن الزعيم، بات كالصراط المستقيم، الذي لا بدّ لكل مؤمنٍ وطنيٍّ أن يمشي عليه، فإما أن تؤمن بالرئيس، ودين الرئيس، وحزب الرئيس، وعادات الرئيس، وإيتيكيت الرئيس، وهندام الرئيس(ولا يستغربن القارئ، حيث الكردي يقلّد رئيسه في كل شيء، ظالماً أو مظلوماً)، لتنعم بالجنة الوطنية الموعودة، أو تكون كافراً خارج كردياً(لا بل خائناً)، بلا وطن أو حقوقٍ وطنية، ولا هم يحزنون، لتسقط في نار الخيانة الوطنية الأكيدة.
الرئيس، إذن، هو مقياس أو بارومتر الوطنية الأول والأخير..فكلما اقتربت من الرئيس ولففت كلامك بكلامه، ودهنت إيمانك بإيمانه، وخبأت عاداتك بعاداته، وأسقطت ملامحك في ملامحه، كلما دخلت الوطن والقاموس الوطني، من أوسع أبوابه، والعكس بالعكس. فحب الرئيس هو من حب الوطن، وحب كل الوطن هو حب الرئيس وحده.
وعلى قولة الكبير عادل إمام، في مسرحية الزعيم: اللهم إحفظ الزعيم..يخرب بيت اللي بيكرهو.. ويخرب بيت اللي بيحبو وهو جوا بيكرهو..الزعيم والقائد والثورة..يخلّيهنّ ويخلّي جميع الزعماء..كل الزعماء[1]