الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) الضبابُ يلفّ ماردين وسهلَها
#هيثم حسين#
صباح شتائيّ بارد، يجلّل بروده هدوؤه، ، نباح الكلاب كان يُسمع في الجوار، تمسكُنُ الدجاج الروميّ كان ملفتاً في الزوايا، لم يُخفَ لوذُ الدجاج البلديّ من البرد والظلمة إلى الأكواخ ، وفي الحظائر المفتوحة الأبواب، ترى أبقاراً كسلى تتثاءب مجترّة، كما أنّ أشعّة الشمس بدأت باللمعان على بعض الأسطح العالية، وبعض عصافير الدوريّ تتطاير من سطح لآخر، البخار يتبخّر من الأراضي التي تعانقها الشمس مدفّئة..
كان الاستيقاظ فجراً، للتوجّه إلى ماردين وبخاصّة أنّ عطلة العيد قد انتهت، والطلاّب الذين يدرسون في المدارس الثانويّة يجب أن يتوجّهوا إلى مدارسهم في المدينة..
رأيت الدخّان المرتفع المنبعث من التنانير المتعدّدة، كان يشكّل في تبدّده في السماء غيوماً لن تمطر، رغم تأميل الداعين لذلك..
كان موعد الميكرو القادم من darê - دارِى السادسة صباحاً، أفقنا قبل ذلك استعداداً للذهاب، رأينا الفطور بانتظارنا، وخبز التنّور الطازج، شكّل مفاجأة، ومكمن المفاجأة كان في تحضيره باكراً جدّاً وفي هذا الفجر الكانونيّ بالذات، وبصورة خاصّة، عندما تبادر إلى ذهني التفكير في المراحل التي يجب أن يمرّ فيها الخبز، من عجنٍ، وتخميرٍ، وإعداد التنّور، والخَبز، ثمّ الإنضاج، وكعادة النسوة في إبداء الكرم، كان الإكثار من أنواع الحواضر على المائدة المحضَّرة، أيقنت بأنّ المرأة الكرديّة بشكلٍ عامٍ، والقرويّة خصوصاً، هي آخر من ينام، أوّل من يفيق، آخر من يأكل، أوّل من يضحّي، هي القائد الثائر بالفطرة، هي المجسّدة قول غيفارا في الثائر، حتّى قبل أن يقول كلامه المشهور..
تأكّدت بأنّ هذا هو دأب النساء اليوميّ، عملهنّ فدائيّ إلى حدٍّ بعيد، قضيّتهنّ كبرى القضايا، هي بناء الإنسان المستقبليّ، تعليم أبنائهنّ حبّ العمل وحبّ الأرض، وضرورة التجذّر في الأرض، والتسلّح بالعلم لتطبيق ذلك، والتصدّي للآخر، أيّاً كان ذلك الآخر، بأسلحة العصر، وقد يكون التعليم بطرق عفويّة، منها قولهنّ مع أزواجهنّ للأولاد:
- لا نريد لكم أن تعيشوا حياتاً كحياتنا..
- لا نريد لكم أن تقاسوا ما قاسيناه ونقاسيه..
- لا نريد لكم أن تعوّضوا ما فشل سابقوكم في تحقيقه..
- نحن عشنا التعاسة والشقاء وسندفع أعمارنا كي لا تعيدوا تجاربنا القاتلة..
جاء الميكرو متأخّراً عن موعده، ولا سيّما يعلم بوجوب انتظار الركّاب له، لأنّهم لا يملكون خياراً آخر إلاّ الانتظار..
توادعنا، وُكِّلتُ بحمل التحيّات إلى الأهل والأقارب وكلّ من سيسأل عنهم من المعارف..
وفي الطريق توقّف الميكرو في أكثر من قرية، حاملاً الركّاب والأمتعة، لم يتذمّر أحدٌ من تكديس الركّاب، وبدا الوضع كأنّه طبيعيّ أو اعتياديّ، وما أزاد تقديري وضاعف احترامي لمجموعة من الطلاّب، أنّهم يحملون بالإضافة إلى حقائب كتبهم ولوازمهم، سطول اللبن وسلال البيض إلى الدكاكين التي يتعاملون معها، ليكون في أثمانها مصروفهم الدراسيّ الأسبوعيّ، وليكونوا قرويّين مدنيّين، ثمّ مشاريع بناة وطن مأمول..
في الطريق الملتوية أفعوانيّاً صعوداً إلى المدينة الجبليّة، التي كانت قد بُنيت على أساس مكانها العصيّ على الطامعين، إلى مدينة اللغات المتعدّدة، التي لابدّ أن يجيد ساكنها العربيّة يقيناً، والكرديّة لزوماً، والتركيّة إجباراً..
الثلج يعرّش في الجوار، وعلى المرتفعات، وفي الشوارع، حيث الصقيع قد جمّده وحافظ على صورته ثابتة، بأن أبقاه على حاله إثر نوبات صقيعيّة مجتاحة المنطقة كلّها.. وريح خفيفة خنجريّة تكتسح العظام وتدخلها، تسيل الأنف رغماً عن أنف السائر..
عند الوصول، لم يشكّل التوقّف المتتالي كلّ أقلّ من مِائة متر أيّ انزعاج لأيّ راكب، ومرّة أخرى بدا الأمر، وكأنّه معتاد، أو طبيعيّ، وكانت الأبواب كلّها تفتح في كلّ وقوف، باب السائق ينزل منه السائق، ليفتح الباب الخلفيّ لإنزال الأمتعة، والراكب يفتح باب الركّاب بدوره منزلاً معه أغراضه، وقد يصعد السائق إلى سطح الميكرو، ليُنزل البضاعة المحمّلة عليه، والمربوطة ربطاً محكماً، باعتبار أنّ الطرق منعرجة ومتصاعدة.. ويبقى الباقون منتظرين، حتّى ينتهي السائق من الموقف المتكرّر، وينفض ثيابه، ليكمل سيره، غير متأفّفٍ وغير ضاجر، على عكس السائقين الآخرين من الذين يعملون على الخطوط الأخرى، لأنّ هذا يدرك خصوصيّة منطقته، علاوة على أنّ أكثر الركّاب معه هم من أقاربه..
جلسنا في مقهى ماردينيّ، احتسى كلانا، أنا وصديقي، كوب شايه، كنت مرتاحاً للجوّ في المقهى، تحلّقت حلقة من الشيوخ تحيط بمدفأة الحطب، لم يلفت جلوسنا انتباهاً كبيراًُ، إذ أكملوا موضوعهم الآنيّ، حيث الفكرة تطرح ارتجالاً دون سابق تفكير بها وتقديم أو تدبير لها، يدلو كلّ منهم برأيه، كان الموضوع الرئيس حينها، إعدام صدّام، كان النقاش يتمّ بلهجة ماردينيّة، والتي هي تطعيم العربيّة بالكرديّة والتركيّة، تراوح الصوت بين مؤيّد وبين معارض، مؤيّد يدعم قرار التنفيذ ويباركه، ولا يضطرّ لشرح الأسباب، لأنّها معروفة ويجب أن تكون مفهومة، ومعارض، هو الصوت المنقاد إعلاميّاً كما تبدّى لي والذي هو وضع أكثر من نقطة استفهام واستنكار على اليوم الذي نُفِّذ فيه الحكم، وهو المتعاطف مع صدّام، لأنّه كان وبقي المعادي للأمريكان والشيعة الفرس برأيهم ، وقد يفهم من ذلك أنّ التعاطف العلنيّ عند البعض مع الطاغية يفسح مجال استدراك الفعل بقول يريح قائله من فظاعة الانتكاسة التي لحقته، وثمّ يكون التشكيك من بعضٍ آخر بما ارتكبه صدّام من جرائم، بأنّها تلفيق أمريكيّ شيعيّ.. وآخرون يجهرون بصدق وواقعيّة الحكم، لكنّهم يتأسّفون لعدم القدرة على قتله وإعدامه أكثر من مرّة، وهلمّ جرّاً إلى آخر الآراء الأخرى، منها التوفيقيّة، الممهلة، المشكّكة، المصدّقة، المصادقة، وبعد ذلك توجيه الصراع إلى شيعيّ سنّي، وكأنّ إعدام صدّام هو انتقام شيعيّ لإثارة الفتنة الطائفيّة بين المسلمين، باعتبار الشيعة من غير الإسلام، إذ ارتفع صوت من بين الجالسين، حين أدلى بدلوه، ثمّ سكت ليمنحهم فرصة للتدبّر في دلوه..
سألني صديقي عن رأيي فيما يُطرح، رغم أنّه يعرفه:
لم أمنح نفسي فرصة للتدبّر، لأنّ الأمر محسوم عندي، حين قلت له بأنّني كتبت سابقاً: إنّ كلّ صدّاميّ هدّاميّ، وأقول الآن: إنّ كلّ من يدافع عن صدّام يجب أن يُحاكم، لأنّه لا يمتّ إلى الإنسانيّة بأيّ رابطٍ..
هكذا تركنا روّاد المقهى ومناقشتهم لموضوع الساعة، خرجنا إلى الشوارع الخالية إلاّ من التلاميذ المتوجّهين إلى مدارسهم، ومن الموظّفين السائرين إلى دوائرهم.. كنت السائح في غير أوقات السياحة المتعارَف عليها، ولكنّ الوقت تحكّم بالسياحة هذه المرّة، ورغم صعوبة التنقّل، أصررت على زيارة عدد من المواقع الأثريّة، التي كنت قد سمعت أو قرأت عن بعضها، وشاهدت بعضها الآخر في التلفزيون، جلّ الصعوبة كمن في ارتقاء الدرجات، التي تشكّلت منها منزلقات جليديّة، حيث التجوّل في مدينة كماردين في صباح صقيعيّ، مغامرة تشتمل على أبعاد المغامرة، من توفُّقٍ أو انكسار، ولم يكن هناك من خيار إلاّ خوضها واعتبارها مغامرة ممتعة والتفاؤل بها، والاستمتاع قدر المستطاع..
طبعاً لم يكن بعض تلك الأماكن، التي استطعنا الوصول إليها، أفضل حالاً بكثيرٍ من آثار دارِى، لكنّها كانت، كما يقول المثل: الرمد أحسن من العمى، موضعَ بعضٍ من الاعتناء البادي للعيان، كونها مركز الولاية، ولكن مع ذلك، ليس الاعتناء المطلوب تماماً..
حاولت أن أنظر من هناك إلى عامودا، كما كنّا ننظر، وكما لا زلنا ننظر بكثير من الفضول إلى ماردين من عامودا، وبخاصّة ليلاً عندما تضيء أضواؤها كبد طوروس، وكأنّها قلادة ملوّنة الأضواء تغريك بالاقتراب منها، وتقبيلها، وامتلاكها، والتمتّع رفقتها، كان الضباب سائداً، والرؤية شبه منعدمة، تأسّفت كثيراً لحال سهل ماردين(Berya Mêrdînê)، دبلجت حواراً افتراضيّاً بين ماردين وسهلها، فكان العتاب مسيطراً، والألم سائطاً، والتحسّر موضوعاً،.. وأنا أقحمت الأملَ على أملِ أن يسطو هو على ماعداه..
كما أنّ نداءات التقارب انجدلت لتنتج صراخاً مكتوماً، يفجّر المخافر الحدوديّة، ويقطع الكهرباء عن الأسلاك التي تشكّل نصلاً يقيم الحدَّ على الأبرياء، وتسنّ النصل نفسه بالقتل...
قطعت سلسلة الأفكار، لأنّها كفيلة بتنغيص أيّ مروّق، وتوتير أيّ سياحة، ولم أنزعج من الافتراض، لأنّ ذلك هو القريب من الحقيقة، الحقيقة التي تبقى بمفهومها المطلق جميلة، رغم بشاعة الممارسة، وهنا هي التمهيد لتعرية التاريخ، بكسر أقلام مدوّنيه، ومنح الإخوة المبعَدين عن بعضهم قطّاعات أسلاكٍ، وكاسحات ألغامٍ تفجّر الألغام على رؤوس زارعيها، وتبتر أيادي من امتدّت أياديهم بسوء إلى هذه الجغرافيّة التي كم يحاوَل تغييرها، .. والتي كم وكم تفشل تلك المحاولات، وستفشل، لأنّ حكم التاريخ هو الأبقى والأدوم..
لم أكتفِ من المشاعر، على تناقضها، في ماردين، ظلّت تلاحقني الأفكار، وستظلّ، ولكنّ التوجّه إلى قزل تبه كان لابدّاً منه، لأنّ هناك أيضاً، ستكون لي وقفة..
[1]