معد فياض
أكد عضو الحزب الشيوعي العراقي والكاتب الأكاديمي جاسم الحلفي أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون شاملة أو حقيقية إذا لم تأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع المكونات، بما فيها حق تقرير المصير للشعب الكردي، عاداً هذا الحق كان دائماً جزءاً من رؤية الحركة الديمقراطية العراقية، ويتجسد في شعارات مثل (الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكوردي).
وقال الحلفي في مقابلة مع شبكة رووداو الاعلامية، بمناسبة الذكرى ال 63 لاندلاع ثورة أيلول الكوردية إن ثورة أيلول التي اندلعت في 11 أيلول 1961 بقيادة الزعيم ملا مصطفى البارزاني، محطة هامة في تاريخ نضال الشعب الكوردستاني من أجل حقوقه وتقرير مصيره، مردفاً: يعد هذا الحق جزءاً من الدفاع عن الحقوق الأساسية التي تكفلها المواثيق الدولية، مثل ميثاق الأمم المتحدة.
كما تحدث عن تجريته في القتال الى جانب قوات البيشمركة في جبال كوردستان ضمن حركة الانصار، وقال ان اتخاذنا قرار حمل السلاح ورفع شعار إسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي لصدام حسين جاء كرد فعل طبيعي على سياسات قمعية لم تترك لنا أي مجال للمعارضة السلمية.
وأدناه نص الحوار:
رووداو: كيف تنظرون اليوم الى ثورة ايلول عام 1961؟
جاسم الحلفي: ثورة أيلول التي اندلعت في 11 أيلول 1961 بقيادة الزعيم الراحل مصطفى البارزاني، كانت محطة هامة في تاريخ نضال الشعب الكوردستاني من أجل حقوقه وتقرير مصيره. يعد هذا الحق جزءاً من الدفاع عن الحقوق الأساسية التي تكفلها المواثيق الدولية، مثل ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على حق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع ذلك، عندما ننظر إلى الوراء ونتساءل عما إذا كان من الممكن تجنب الصدام المسلح، يبدو السؤال معقداً جداً. في الواقع، العوامل التي أدت إلى اندلاع الصراع المسلح بين الحركة الكوردية والحكومات المركزية في العراق كانت نتيجة لتراكم طويل من التجاهل والإنكار لحقوق الشعب الكوردي. في ظل تلك الظروف، رأى البارزاني ورفاقه أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحقيق مطالبهم. ومع ذلك، إذا نظرنا بتفكير أعمق، يمكن أن نتساءل: هل كان بالإمكان تحقيق تلك الحقوق من خلال الحوار السياسي؟ هل كانت هناك فرصة لتجنب سفك الدماء والخسائر التي نجمت عن هذا الصدام؟ بالتأكيد، الصراع المسلح لم يكن خالياً من التبعات السلبية. الخسائر البشرية والمادية كانت هائلة، وسمحت للقوى المعادية للشعب الكوردي، خاصة القوى الشوفينية، باستغلال هذه الأجواء لتدبير مؤامراتها. واحدة من أكبر هذه المؤامرات كانت الإطاحة بثورة تموز، التي شكلت نقطة تحول خطيرة. انقلاب 1963 لم يكتفِ بإسقاط الثورة، بل أيضاً تسبب في إعدام عدد كبير من أبناء الشعب منهم الشيوعيين والديمقراطيين من العرب والكورد والكلدواشوريين. وبعد فترة قصيرة من الانقلاب، شن الانقلابيون حرب إبادة ضد الشعب الكوردي، وهو ما عمّق من مأساة الشعب في تلك المرحلة. يمكن القول أن التاريخ كان مليئاً بالفرص المهدورة. ربما لو كانت هناك إرادة سياسية حقيقية من الأطراف المركزية لإيجاد حلول سلمية للقضية الكوردية في تلك المرحلة، لكان بالإمكان تفادي الكثير من الدماء والخراب. الانقسام السياسي داخل العراق أعمق من أن يسمح بوجود تسوية سلمية.
قاسم والثورة الكوردية
رووداو: باعتقادكم هل دفعت تصرفات الحكومة العراقية عام 1961 الكورد لاعلان ثورتهم في 11 ايلول كونهم وصلوا الى طريق مسدود مع عبد الكريم قاسم؟
جاسم الحلفي: ما يؤسف له لم تتعامل الحكومات العراقية مع الحركة الكوردية كحاملة لحق مشروع ودفاع عن شعب يمتلك جميع مقومات الشعوب الحرة التي تعيش على أرضها وأرض أجدادها بل اللجوء دائماً إلى الجفاء وإنكار هذه الحقوق، ما دفع الأوضاع دائماً إلى التوتر وإلا ما كان ينبغي في فترة حكومة عبد الكريم قاسم أن تتحرك الأمور إلى القتال بين الحركة الكوردية وحكومة عبد الكريم قاسم.
رووداو: كان من المفترض ان يدعم عبد الكريم قاسم الكورد وزعيمهم ملا مصطفى بارزاني عندما التقاه في بغداد، لكن النتائج جاءت عكس ذلك؟
جاسم الحلفي: الأسئلة الافتراضية هي من أصعب الأسئلة، لأنها تتعلق بما كان يمكن أن يحدث لو سارت الأمور بطريقة مختلفة. من السهل أن ننظر إلى الوراء ونتخيل السيناريوهات المثالية التي كان يمكن أن تتحقق، ولكن الواقع، كما رأينا، يتشكل بفعل تفاعلات معقدة من الأحداث والتصرفات. في حالة عبد الكريم قاسم والحركة الكوردية، كان من الممكن أن يفتح قاسم حواراً أكثر جدية مع القيادة الكوردية، وفي المقابل، كان يمكن للقيادة الكوردية أن تأخذ بعين الاعتبار واقع الجمهورية الفتية والمؤامرات التي كانت تحاك ضدها في تلك الفترة المعقدة دولياً وإقليمياً. لكن هذه الأسئلة الافتراضية لم تعد ذات جدوى في ظل مرور الزمن، وما يبقى لنا هو استخلاص العبر والدروس من تلك التجارب التاريخية. الخلاصة الأهم التي يمكن أن نستفيد منها هي أن القتال ليس حلاً دائماً، وأن الصراع المسلح لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق الحلول المستدامة. بل في كثير من الأحيان، يزيد من تعقيد الأوضاع ويفتح الباب أمام المزيد من التدخلات الخارجية والمآسي الداخلية. الاعتراف بحقوق الآخرين، وتفهم التحديات التي يواجهها كل طرف، هي الأسس التي يمكن أن تبني عليها الحلول الحقيقية. ترتيب الأولويات والتفاوض بحسن نية يمكن أن يفتح آفاقاً لحلول أكثر استدامة وعدالة. في ذلك الوقت، ربما لو كانت هناك مرونة أكبر من الجانبين وتفهم أعمق للوضع، لكان بالإمكان تفادي سنوات من الصراع والمعاناة. التاريخ مليء بالأخطاء التي يمكننا أن نتعلم منها. ومن بين هذه الأخطاء أن الاعتماد على القوة وحدها لحل الخلافات، لا يؤدي إلا إلى المزيد من الشقاق والانقسام. اليوم، وفي ظل الأوضاع التي يعيشها العراق والمنطقة، تبدو هذه الدروس أكثر أهمية من أي وقت مضى. الحوار والتفاهم هما السبيلان لتحقيق السلام والعدالة، بعيدًا عن العنف والصراع الذي لم يجلب إلا الدمار والخسائر.
رووداو: باعتقادكم هل تصرف قاسم كضابط عسكري عندما حارب الكورد؟
جاسم الحلفي: يبقى دور عبد الكريم قاسم بارزاً ومحورياً في تاريخ العراق المعاصر، وتبقى إنجازات ثورة 14 تموز خالدة، ومنها على سبيل المثال قانون الأحوال الشخصية الذي تحاول القوى الطائفية اليوم الانقلاب عليه، وهذا ثمرة من ثمرات ثورة تموز التي حققت إنجازات هامة، بفضل تضافر جهود عدة قوى سياسية، كان من بينها الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي، والعديد من القوى الوطنية الأخرى، بالإضافة إلى دور الضباط الأحرار، ذوي الخلفيات السياسية حيث أسهمت في توجيه المسار نحو تحقيق إنجازات ملموسة في مختلف المجالات، مثل الإصلاحات الاجتماعية، الزراعية، ومحاولات التحول نحو نظام ديمقراطي. لكن في الوقت نفسه، تبقى شخصية عبد الكريم قاسم، كقائد عسكري، ذات طبيعة تميل إلى التفرد والنزعة الفردية، وهي سمة شائعة في الشخصيات العسكرية التي اعتادت على الأوامر والقيادة الصارمة. هذه السمات العسكرية، مع التركيز على القرارات الأحادية وفرض السلطة، جعلت من الصعب عليه إدارة الوضع السياسي المتشابك والمعقد الذي كانت تشهده البلاد بعد الثورة.
النهج التفردي والنزع نحو السلطة المركزية أثّر بشكل كبير على تطور الثورة ومسارها، حيث افتقد قاسم في بعض الأحيان إلى التعامل السياسي المرن مع القوى الوطنية والأطياف المختلفة، بما فيها الكورد. فبينما كانت الثورة تهدف إلى بناء عراق جديد على أسس العدالة والمساواة، إلا أن غياب المرونة السياسية والتفرد في اتخاذ القرارات أدى إلى تعميق الانقسامات والاضطرابات الداخلية. تفرده في القيادة كان عاملاً معيقاً في بعض الأحيان لتحقيق رؤية شاملة وفعالة لإدارة المشهد السياسي المعقد، وهو ما قد يفسر بعض الإخفاقات في العلاقة بين حكومته والقوى السياسية الأخرى.
القتال ضمن حركة الانصار
رووداو: ما الذي دفعكم للقتال الى جانب البيشمركة الكوردية ضد نظام صدام عام 1981؟
جاسم الحلفي: ان اتخاذنا قرار حمل السلاح ورفع شعار إسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي لصدام حسين جاء كرد فعل طبيعي على سياسات قمعية لم تترك لنا أي مجال للمعارضة السلمية. لقد واجه النظام كل محاولات المعارضة السلمية بالعنف المفرط، عبر حملات اعتقال وإعدام واسعة طالت مئات الشيوعيين والمناضلين الآخرين، بالإضافة إلى اضطرار الآلاف منهم الى مغادرة الوطن. هؤلاء الذين أُجبروا على مغادرة الوطن ليس لأنهم أرادوا الهجرة، بل لأن النظام أغلق كل أبواب التعبير السلمي وسعى للقضاء على كل صوت معارض، بوادر الاستبداد كانت واضحة منذ البداية، فالنظام لم يكتفِ بالسيطرة على السلطة، بل سعى لإخضاع المجتمع بأسره، مستخدماً القمع، الإعدامات، والتهجير القسري. ما فعله في كوردستان، وتحديداً عبر جرائم الأنفال وحرق القرى، وتجفيف الأهوار جنوباً، والحروب الكارثية التي زج فيها البلاد، مثل الحرب مع إيران وغزو الكويت، كلها نماذج دامغة على استبداد هذا النظام الذي لم يكن يرى في شعبه سوى أداة لإطالة بقائه في الحكم. إزاء هذا الواقع، ومع فقدان أي خيار آخر للمقاومة السلمية، لم يكن أمامنا سوى حمل السلاح كوسيلة وحيدة لمواجهة هذا النظام الفاشي الذي ارتكب جرائم كبرى بحق الإنسانية وبحق العراق وشعبه.
رووداو: كيف كانت تجربتك الشخصية في قتالك مع حركة الانصار، وماذا اضافت لكم؟
جاسم الحلفي: تجربتي في الكفاح المسلح بمنطقة كوردستان كانت من أعمق التجارب التي مررت بها وأنا في مقتبل شبابي، حيث لم أكن قد بلغت العشرين عاماً آنذاك. تحملت مسؤوليات كبيرة في سن مبكرة، منها مسؤولية حماية المكتب السياسي والمكتب العسكري، وهو ما عزز تجربتي السياسية بشكل ملحوظ، حيث كنت قريباً على قيادة الحزب آنذاك، ونهلت من معارفهم الواسعة وخبراتهم الكبيرة، وتعلمت منهم الكثير. كانت كوردستان ميداناً لصراعات ومعارك كبيرة، شاركت فيها بشكل مباشر، مثل معركة بشتاشان الأولى والثانية ومعركة قلاسانج، ومعارك سفين وحسن بك وهيلو، وغيرها من المعارك التي فرضت علينا، مرة في رد غدر حليف، واخرى في مواجهة النظام الدكتاتوري. ما يبعث على الأسف هو أن بعض هذه المعارك لم تكن فقط ضد قوات النظام، بل أيضاً ضد من كان يُفترض أن يكونوا رفاق سلاح، مثل الاتحاد الوطني الكوردستاني في ما سمي بحرب الأخوة، بالإضافة إلى معارك ضد مرتزقة النظام. الصراع الداخلي بين قوى مفترض ان تكون موحدة ضد النظام، أضاف تعقيداتٍ غير مرغوب بها.
رووداو: هل اقتصرت تجرباكم على القتال في جبال كوردستان؟
جاسم الحلفي: كانت لي تجربة خاصة في الكفاح المسلح، اذ نشاطنا في منطقة سهل أربيل، حيث نفذنا العديد من العمليات في ضواحي المدنية وريفها، وكذلك داخل المدينة نفسها. إحدى التجارب البارزة التي أود الإشارة إليها هي اختراقنا لجامعة صلاح الدين والأقسام الداخلية، حيث نظمنا ندوات وتحدثنا مع الطلبة. شارك الفوج الخامس للحزب الشيوعي العراقي بهذه العملية الجريئة التي لم يقم بها أي فصيل اخر، وهي العملية النوعية الوحيدة الذي كان طابعها سياسي تعبوي بحت، دون اطلاق طلقة واحدة ودون إراقة دماء، اذ تسلل الى المدنية أكثر من 120 نصيراً، وانسحبنا جميعاً سالمين. تجربتنا في سهل أربيل لها خصوصيتها الفريدة، حيث تميزت بأسلوبها المتنوع، فنحن كنا نتحرك وننتقل بالسيارات بطريقة أقرب إلى تلك التي اتبعتها حركة البوليساريو، مما جعلها تجربة غنية وثرية لا يمكن تلخيصها بكلمات قليلة. لقد جابهتنا مروحيات النظام بشكل عجيب، كنا نحاول ابعاد قصفها المركز بالرمي صوبها بأسلحة البي كي سي والاربي جي سفن، كانت تجربة مليئة بالتحديات، لكنها حملت في طياتها دروساً عميقة عن التنظيم، والتخطيط، والإرادة الثورية.
رووداو: في الانصار، هل كانت القيادة للكورد ام للحزب الشيوعي العراقي؟
جاسم الحلفي: لكل حزب سياسي في كوردستان قيادته الخاصة، حيث كان الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني والحزب الاشتراكي (باسوك)، وحزب كادحي كوردستان، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي العراقي، لكل منهم قيادة سياسية وميدانية مستقلة تدير شؤونها وتخطط لعملياتها بشكل منفصل. لاحقاً، تم تشكيل الجبهة الكوردستانية، والتي كان لها دور مهم في تنسيق القرارات السياسية وتوحيد الرؤية المشتركة بين الأطراف المختلفة. وكان هذا التحالف خطوة كبيرة في سبيل تحقيق وحدة سياسية لمواجهة التحديات المشتركة في تلك المرحلة. قبل تأسيس الجبهة الكوردستانية، كانت هناك تحالفات سابقة مثل جبهة جود وجبهة جوقد التي سعت بدورها لتوحيد قوى المعارضة، ولكنها كانت تركز بشكل أكبر على الجوانب السياسية. أما فيما يتعلق بالقيادة الميدانية والعسكرية، فكل حزب كان يحتفظ بقيادته المنفصلة ويخطط للعمليات العسكرية بشكل مستقل، هذا التوزيع في القيادة السياسية والعسكرية بين الأحزاب المختلفة شكل توازناً بين التنظيمات، لكن مع مرور الوقت، أصبحت الحاجة ملحة لتوحيد الجهود، مما أدى إلى تشكيل جبهات مثل الجبهة الكردستانية التي لعبت دوراً محورياً في توحيد القرار السياسي داخل الإقليم.
الكورد والشيوعيين
رووداو: هل كان زواج الكورد والشيوعيين العراقيين كاثوليكي؟
جاسم الحلفي: هناك ترابط وثيق وعميق بين نضال الشعب العراقي بصورة عامة والشعب الكوردستاني بصورة خاصة، فكلاهما يكافحان من أجل تحقيق الكرامة الإنسانية والحقوق السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. هذا الترابط ليس فقط نابعاً من التعايش التاريخي بين المكونات، بل أيضاً من القضايا المشتركة التي تهم الطرفين، سواء كانت تتعلق بالعدالة الاجتماعية أو بالتحرر من القمع والاستبداد. الديمقراطية لا يمكن أن تكون شاملة أو حقيقية إذا لم تأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع المكونات، بما فيها حق تقرير المصير للشعب الكوردي. هذا الحق كان دائماً جزءاً من رؤية الحركة الديمقراطية العراقية، ويتجسد في شعارات مثل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكوردي. هذه الشعارات تعبر عن الترابط العضوي بين النضال الوطني العام والنضال القومي الخاص. تجسد هذا الترابط في مختلف المراحل التاريخية، حيث دعا الحزب الشيوعي العراقي إلى الحكم الذاتي في مرحلة معينة، ثم تحول المطلب إلى الفيدرالية كحل أكثر تقدماً يناسب تطورات الأوضاع السياسية في العراق. ما يميز هذا الموقف هو الإيمان بأن تحقيق الديمقراطية للعراق ككل لا يمكن فصله عن تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الكوردستاني. هذا الترابط بين ما هو عام وما هو خاص يعكس فهماً عميقاً للعلاقة بين الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية والسياسية.
رووداو: كحزب شيوعي، وفق أي ايدولوجية تعاملتم مع القضية الكوردية؟
جاسم الحلفي: يحمل الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه فكراً أممياً يؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها، هذا الإيمان نابع من الأسس الأيديولوجية للحزب التي تضع حق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن الأولويات في حل القضية القومية، ولهذا السبب كان الحزب دائماً مع إيجاد حل سلمي للقضية الكوردية. لطالما رفع الحزب شعار السلم في كوردستان، وكان معارضاً لأي مواجهة عسكرية ضد الكورد، ساعياً دائماً نحو حلول سلمية تحقق العدالة للجميع. كون الحزب أممياً يعني أن تركيبته تشمل جميع أطياف المجتمع العراقي؛ العرب، الكورد، الكاثوليك، الأرمن، الآشوريين، الصابئة المندائيين، الايزيديين، وغيرهم من الأقليات والأديان. وهذا التنوع في العضوية يعكس تمسك الحزب بمبدأ الوحدة الوطنية والشراكة بين مختلف مكونات الشعب العراقي. وقد لعب العديد من القيادات الكوردية دوراً محورياً في الحزب الشيوعي، على سبيل الحصر الشهداء جمال الحيدري، ونافع يونس وعادل سليم، فيما قاد الرفيق عزيز محمد، الحزب لفترات طويلة وأسس لأواصر قوية بين الحزب الشيوعي والقوى الكوردية. وعلى الرغم من هذه العلاقات الوطيدة والكفاح المشترك، لم تخلُ هذه المسيرة من التوترات والمشاكل. فقد شهدت العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والقوى الكوردية أزمات ومعارك، أبرزها معركة بشتاشان، التي راح ضحيتها العديد من رفاق الحزب على يد الاتحاد الوطني الكوردستاني. ورغم هذه الصعوبات، استمرت العلاقات بين الحزب الشيوعي والقوى الكوردية في التطور، وظلت الروابط التاريخية والكفاحية قائمة بين الجانبين. تلك الصراعات لم تكن قادرة على كسر تلك الروابط المتينة التي تشكلت على مدار العقود بين الحزب الشيوعي والقوى الكوردستانية، حيث ظلت هناك علاقات قائمة على الاحترام والتعاون المشترك في كثير من الأوقات، مع الأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنية العليا ومطالب الشعب الكوردي المشروعة.
رووداو: هل فكرتم كشيوعيين ان الثورة الكوردية قد تتراجع نتيجة الهجمات العسكرية الشرسة من قبل الحكومات العراقية وخاصة في عهد صدام حسين؟
جاسم الحلفي: بالتأكيد. كما ذكرت، الهزائم والانكسارات ليست إلا جزءاً من مسار طويل ومعقد، وهو أمر متوقع في أي حركة تسعى لتغيير الواقع القائم. فالثورات والحركات المسلحة غالباً ما تواجه إمكانيات الأنظمة الكبيرة، والثورات قد تحقق انتصارات أو توجه لها ضربات قوية، لكن جوهر الحركات الثورية يبقى في قدرتها على الصمود والمثابرة. لنأخذ مثال الحركة الكوردية: على الرغم من الانتكاسات الكبيرة التي مرت بها، بما في ذلك اتفاقية 1975، التي شكلت ضربة قوية للحركة بعد أن اضطرت القيادة الكوردية للتراجع، كانت هذه الهزيمة فرصة لمراجعة الأساليب والتكتيكات. وما جرى بعد ذلك، من إعادة بناء الصفوف وتحفيز القوى الشعبية، كان دليلاً على أن الحركة الكوردية لم تُهزم كلياً، بل واصلت نضالها بإصرار حتى تغيير المشهد السياسي في العراق. يمكننا الإشارة هنا الى حملة الأنفال، التي ارتكبت فيها جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الكوردي، كانت جريمة مروعة بحق الإنسانية. لكن حتى في ظل هذه المجازر المروعة، لم يستسلم الشعب الكوردي، بل بالعكس، استمرت المقاومة وظهرت موجات جديدة من النضال، وأثبتت أن الكفاح من أجل الحقوق المشروعة لا يتوقف عند المجازر والهزائم، بل يتجدد بالقوة والإصرار على مواصلة الطريق. الهزيمة العسكرية، كما أشرت، ليست النهاية، بل قد تكون حافزاً لتغيير التكتيكات أو البحث عن وسائل أخرى للنضال. في كثير من الأحيان، يكون التحول من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي أو التوجه نحو بناء حركات جماهيرية أوسع هو التطور الطبيعي للحركة بعد مرحلة معينة. فالحركات التي تدرك هذا الأمر وتتمكن من التكيف مع المتغيرات هي التي تستمر وتحقق أهدافها على المدى البعيد.بالنهاية، النجاح الحقيقي للحركات الثورية لا يُقاس فقط بالانتصارات العسكرية، بل بقدرتها على الصمود والبقاء في مواجهة الظروف الصعبة، وتحقيق التحولات الاجتماعية والسياسية التي تسعى إليها. ما دامت الحركة تحمل قضية مشروعة وتدافع عن حقوق الشعوب، فإنها ستجد دائمًا طريقًا للعودة والاستمرار، حتى وإن تعثرت في بعض المحطات.
النظام الفيدرالي لاقليم كوردستان
رووداو: هل تعتقد ان الثورة الكوردية حققت إنجازات كبيرة على مر العقود، رغم التحديات العديدة والانكسارات التي واجهتها؟
جاسم الحلفي: اليوم، إقليم كوردستان يتمتع بنظام فيدرالي مكّنه من ممارسة حياته الطبيعية في ظل نظام يتم فيه تداول السلطة بشكل ديمقراطي، وتُجرى فيه انتخابات تتيح للناس اختيار ممثليهم. هذا بحد ذاته يُعتبر إنجازاً كبيراً في سياق نضال طويل ومعقد. رغم هذه النجاحات، لا يعني ذلك أن كل المشاكل قد تم حلها. هناك عيوب وتحديات لاتزال تواجه الإقليم، سواء على المستوى الداخلي أو في علاقته مع الحكومة الاتحادية في بغداد. على سبيل المثال، القضايا المتعلقة بالموارد النفطية، الميزانية، وتقاسم السلطة، ما زالت تشكل نقاط خلاف بين الطرفين، وتحتاج إلى حلول دائمة وعادلة. لكن المهم هنا هو أن هذه القضايا تُناقش ضمن إطار الديمقراطية والحوار. فوجود نظام يسمح بالنقاشات السياسية وتبادل الآراء يفتح الباب أمام إمكانية التوصل إلى حلول مستدامة. الحوار المستمر بين الأطراف المعنية، على الرغم من تعثره في بعض الأحيان، يوفر بيئة تتيح معالجة المشكلات بشكل سلمي وعقلاني. التحول من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي والديمقراطي هو أحد الإنجازات المهمة التي حققتها الثورة الكوردية. فبدلاً من الاعتماد على القوة العسكرية فقط، أصبح الحوار والتفاوض والإصلاحات السياسية وسائل أساسية في الدفاع عن الحقوق وتحقيق تطلعات الشعب الكوردي. ورغم الصعوبات الحالية، تبقى هذه الأدوات هي الأمل في بناء مستقبل أفضل يتجاوز كل التحديات.[1]