اللاهوت الكردي بين أسلمة الكرد و تكريد الإسلام
جان دوست
لم يكن دخول الكرد في الدين الإسلامي سلساً قط. و ما عجز عنه القرآن في “هداية” الكرد إلى الدين الإسلامي قام به السلطان بحد السيف وبالوقوف على أبواب الكرد في الشعاب و الوديان و الخيام و الزموم مخيراً إياهم بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب. و من الطبيعي ألا يقبل الناس بترك عقائدهم بين ليلة و ضحاها و لم يكن لهم خيار رابع يضاف إلى خيارات العرب الفاتحين الثلاث الصعبة جميعاً. و بالتالي نشأت حركات مقاومة كبيرة انخرطت فيها القبائل الكردية المتناثرة التي لم يكن يجمعها جامع و بالتالي لم تكن لتستطيع إيقاف المد الإسلامي و الزحف العربي الهائل المندفع بقوة النص القرآني يرافقه حد الحسام و الموت الزؤام. و يذكرالتاريخ الذي دونه العرب الأوائل و غيرهم من الذين تصدوا لكتابة تاريخ ” الفتوحات” أن بعض الكرد اعتنقوا الإسلام و بعضهم قبلوا بالجزية صاغرين ليصبحوا فيما بعد نواة لحركات الخوارج و المتمردين على السلطة الوافدة الجديدة. و أن كثيراً من قبائل الكرد قاومت الغزو العربي حتى أبيد كثير من أفرادها و لجأ الباقون إلى قلل الجبال و أصقاع نائية بعيدة. و لكن في نهاية الأمر و نظراً لضعف القبائل الكردية على الصعيد الحضاري و المعرفي و الديني فقد استوعبهم الإسلام و استمالهم و نسيت الأجيال اللاحقة ما حاق بأسلافهم من مصائب و ويلات صاحبت تلك “الفتوحات” التي لم تكن ” هداية” فحسب, بل كانت كذلك مشاركة في الأملاك و استيطاناً منهجياً تحت مصطلح” التمصير” و ” عوربة” لغوية و فكرية و عقدية. و اعتباراً من القرن الثامن الهجري تظهر أسماء شخصيات كردية لها دورها الفاعل و لكن بأسماء عربية إسلامية تدل دلالة واضحة على أن أصحابها قد هجروا دينهم و دين آبائهم . و يلاحظ المرء أن معظم تلك الأسماء تنتهي اعتباراً من الجد الثالث تقريباً بأسماء كردية صرف مما يدل على حداثة عهد الشخصية بالإسلام مثل علي بن داود بن رهزاد الكردي الذي عينه الخليفة المعتضد والياً على الموصل” نهاية القرن التاسع الميلادي” و كذلك جعفر بن فهرجس الكردي الذي انتفض ضد العباسيين في الثلاثينينات من القرن نفسه. و يحدثنا التاريخ أيضاً عن والي خراسان الكردي إبان ثورة الزنج و اسمه محمد بن عبيد الله بن هزار مرد…….. إلخ. .
و بمرور السنوات بعقودها و قرونها تعلم الكردي العربية و تشرب الديانة الإسلامية حتى أصبحت جزءاً من تاريخه و تراثه, فقام بدوره بنشرها و “هداية ” الناس إلى الاستضاءة ” بأنوارها” حتى صار في الكرد من ينافس العرب, أبناء الديانة الأصليين, في ” الذود” عن حياض الإسلام و العمل على تفسير القرآن و الدفاع عن المقدسات و زج الجيوش و العساكر في حروب ” التحرير” و أعني بها الحروب التي ردت الصليبيين الغزاة عن هذه الديار.
نشوء اللاهوت الكردي:
و ما يهمني في هذا المقام هو اللاهوت الكردي الذي نشأ في تلك الفترات العصيبة من هزيمة الكرد روحياً و عسكرياً و اجتماعياً و على جميع الصعد. فلقد كان الدين الجديد على درجة من القوة بحيث أنه استطاع تجنيد أبناء الشعوب الأخرى للقيام بمهمة الدعوة إليه بين أبناء الشعوب ” المفتوحة” أرضاً و شعباً. و نشأت بذلك طبقة من رجال الدين و الدعاة سهلوا إخضاع ما تبقى من القبائل النائية و المستعصمة بقلل الجبال عبر أسلمتهم و ترويضهم و من ثم نهبهم و سلبهم عبر النظم المالية كالجزية و الخراج و غيرهما, بل و جعلهم جنوداً في صفوف الجيوش الإسلامية المتأهبة ل”فتح” أمصار أخرى و نشر ” أنوار الدعوة” بين ” علوج العجم” و ” مشركي الهند و السند” و صد ” الفرنجة” عن دار الإسلام. هذا ناهيك عن استرقاقهم و جعلهم أقناناً يعملون في الأرض لصالح الفاتح العربي.
لا يمكننا هنا أبداً إنكار الدور الإيجابي للإسلام كدين و حضارة بالنسبة للأكراد, و قد أفضنا في الحديث عن ذلك في مقدمتنا للترجمة التي قمنا بها لكتاب الحديقة الناصرية في تاريخ و جغرافيا كردستان الذي نشرته دار آراس عام ألفين, و كتبنا حينذاك ما مختصره: ” إن الأكراد دخلوا الاسلام طوعاً وكرهاً منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام شأنهم في ذلك شأن العرب والفرس والأتراك والبربر وغيرهم . وأصبحوا منذ ذلك التاريخ جزءاً من أمة كبيرة تاريخها تاريخهم ومصيرها مصيرهم . وهكذا فالأكراد معنيون مثل غيرهم بالاحتفال بألفية ابن رشد أو الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي . كما أنهم معنيون بالفكر الاسلامي المتعدد المشارب ، فأمر الخوارج يهمهم ، وكذلك أمر المعتزلة والشيعة ومسألة الشعوبية .. والخلافة .. واستبداد الأمويين وغير ذلك من المسائل التي تخص شعوب الإسلام جميعاً”.
و قد كان للأكراد دور مؤثر في جميع الصعد عبر تاريخ الحضارة الإسلامية الطويل و برز منهم فقهاء كبار و مؤرخون و قادة عسكريون و أدباء. لكن هذا خارج عن نطاق بحثنا الصغير.
إننا نستطيع افتراضياً تقسيم اللاهوت الكردي إلى ثلاثة أقسام.
أولاً: لاهوت التخدير
لقد كان هم هذا اللاهوت الكردي في بدايات نشوئه هو أسلمة الكرد و بالتالي دمجهم في المجتمع الإسلامي الكبير بالرغم من نظرة الاستعلاء العربية و التمييز العنصري الذي ظهر بعد دخول أبناء الشعوب الأخرى في الإسلام و خاصة الفرس مما أدى لظهور ما سميت في الأدبيات العربية بالحركة الشعوبية التي كانت في أصلها حركة مقاومة القوميات غير العربية لمحاولات الصهر و الإذابة التي رافقت المد الإسلامي الكاسح. و كان خطأ هذا اللاهوت القاتل أنه بدل الاستفادة من حيوية الإسلام و ديناميكيته و احتمال جعله ركيزة لتوحيد الكرد, اتخذ الإسلام الرسمي مذهباً له و هذا الإسلام هو الإسلام الذي صادره خلفاء المسلمين و جعلوه مطية لهم لتعزيز حكمهم عبر مئات بل آلاف الدعاة و رجال الدين الذين كانوا يعقدون حلقات الدرس في المساجد لترسيخ فكرة أن الخليفة ظل الله في أرضه و تحريم الخروج عليه و وجوب طاعة ولي الأمر. و كان لا شك من الأكراد دعاة من هذا القبيل منتفعون من عطاءات الولاة و الحكام يوطئون المنابر للغزاة الجدد .
إن قصة أبي مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني معروفة في التاريخ العربي, و هو و إن لم يكن من طبقة رجال الدين إلا أنه كان قائداً كردياً فذاً استطاع القضاء على الدولة الأموية و أسس الدولة العباسية و كان جزاؤه القتل غدراً على يد الخليفة أبي جعفر المنصور, و في هذا يقول الشاعر أبو دلامة:
أبا مسلم ما غير الله نعمة على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدره ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
إن التاريخ لا يرحم المهزومين. فلو سارت الأمور بين الخليفة و قائده على ما يرام لأقيمت اليوم تماثيل لأبي مسلم و لكان في مرتبة صلاح الدين الأيوبي الذي نال بدوره و بالنظر إلى أصله الكردي إهمال القوميين العرب و غمطهم لحقه كقائد فذ قال عنه المفكر العربي العراقي الكبير هادي العلوي إنه أكبر قائد في الإسلام بعد محمد و أصحابه. إن الدعاية المضادة التي بدأت بعد مقتل أبي مسلم الخراساني مباشرة جعلته خائناً للدولة بعد أن كان لقبه صاحب الدولة و نجد الآن في جميع ما يكتب عن هذا الرجل العبقري نبرة التشفي منه و اتهامه بالشعوبية و أنه كان يفضل عنصره الإيراني على العنصر العربي و و و و …..
لقد أتينا بمثال أبي مسلم المغدور حتى نبين مدى انتشار الإسلام بين شعوب المنطقة من غير العرب و كيف أنهم بدخول القرن الثاني الهجري باتوا يتبوأون أعلى المراتب في الدولة بشرط إخلاصهم و تبعيتهم العمياء للخليفة و مؤسساته.
لقد مارس لاهوت التخدير دوره السلبي على مدى مئات السنين جنباً إلى جنب مع اللاهوت العربي و الفارسي و الأفغاني و التركي…. إلخ. و إن كان الإسلام قد تم تفريسه و تتريكه و تعريبه سريعاً و وجدت تلك الشعوب في الإسلام فرصة لتوحيد الصفوف و إنشاء الدول, بل و استغلت الإسلام لدخول التاريخ من أوسع أبوابه كالعثمانيين الذين وصلوا أبواب عاصمة النمسا في القرن السابع عشر, فإنه أي الإسلام كان جرعة كبيرة من المخدر الغيبي الذي شل حركة المارد الكردي مئات السنوات.
و يحسن بنا في هذا المقام أن نورد القصة التي جاء بها شرفخان بدليسي في بداية سفره النفيس شرفنامه و هي أن النبي العربي محمد دعا على الكرد بعدم التوحد و الفرقة إلى يوم القيامة لأن هلاك العالم سيكون بتوحدهم. بالطبع يفتقر هذا الحديث إلى المصداقية التاريخية فلم يرد في أي مصدر من مصادر الحديث و هي كثيرة و كذلك لم يرد له ذكر في الكتب التي رصدت و دونت الأحاديث الموضوعة على لسان النبي, و الحديث الموضوع مصطلح لكل ما نسب إلى النبي كذباً, و كذلك لم ترد على حد علمي و معرفتي في أي مصدر من كتب الطرائف العربية و التي كتبت عن كل شيء تقريباً, فمن أين أتى شرفخان بهذه القصة التي لم يكلف نفسه حتى عناء القول إنها ملفقة ؟ أعتقد أن هذا الأمر كان على يد لاهوت التخدير الكردي, على يد المشايخ و الملالي الذين ما فتئوا يتداولون هذا الحديث الموضوع و كأنه حقيقة قائمة . و قد تضمن هذا الحديث رسالة خاصة على الكرد فهم فحواها المختصر: لا جدوى من محاولة التوحد فإن ذلك عبث في عبث ما دام الرسول قد دعا عليكم بالفرقة. و بالطبع كان في مثل هذا الحديث تثبيط للهمم و منع لمحاولات الوحدة و نشر لثقافة اليأس و الإحباط بين صفوف الكرد.
في المقابل و على النقيض مما لدى الكرد نرى عند الشعوب الأخرى أنه تم تداول أحاديث و قصص ملفقة غايتها رفع شأن تلك الشعوب و منها الحديث المنسوب كذباً للنبي: لو كان الإيمان في الثريا لتناوله رجا ل من فارس . و للجاحظ كتاب سماه مناقب الترك مدح فيه الأتراك و عدد مآثرهم.
و من الأعلام البارزين في التاريخ الكردي ممن نستطيع ضمهم إلى دائرة لاهوت التخدير الشيخ الملقب بالحكيم البدليسي و هو مولانا إدريس البدليسي الذي قام بتجنيد القبائل الكردية و ضمها تحت لواء السلطان العثماني سليم الأول من أجل ضرب الصفويين. كذلك الملا خاطي الذي أصدر فتواه الشهيرة ضد مير محمد راوندوزي, و الملا يحيى المزوري الذي شرعن قتل الايزيديين و أهدر دمهم على يد الأمير المار ذكره.
و في التاريخ المعاصر لعبت الطرق الصوفية و منها النقشبندية و أخص بالذكر تكية آل الخزنوي في تل معروف في كردستان الغربية ” دوراً قذراً في صرف الناس عن قضاياهم المصيرية حيث بلغ لاهوت التخدير ذروته على يد الشيخ عز الدين الخزنوي و من بعده ابنه الشيخ محمد و كانا مدعومين من قبل السلطات السورية لما يقومان به من دور كبير في جمع الناس حول دائرة الوهم و الخرافات و إبعادهم قدر الإمكان عن القضية القومية.
ثانياً: لاهوت التنوير
كان المجتمع الكردي و ما يزال يعاني من آفة الأمية المستشرية في صفوفه و قد احتكر رجال الدين العلم و المعرفة و باتوا المصدر الوحيد و المرجع الأساسي للناس في كافة الأمور الدينية و الدنيوية . و لا غرابة في أن يكون معظم الشعراء و الأدباء الكرد حتى بدايات القرن العشرين من خريجي الحجرات و المدارس الشرعية التي كانت مناهل العلم الوحيدة في طول كردستان و عرضها . و تدل أسماء الشعراء و صفاتهم الوظيفية على صدق هذا الادعاء.) فقي طيران , ملاي جزيري, شيخ أحمدى خاني, ملاي باته يي, شيخ رضا طالباني, ملا خضر نالي, حاجي قادرى كويي و القائمة تطول وصولاً إلى ملا شيخموسى هساري الملقب بجكرخوين(.
و من هذه البيئة اللاهوتية التي خرج من عباءتها لاهوت التخدير المقيت برز لاهوت التنوير موازياً و في الوقت نفسه معاكساً له في الاتجاه و المبدأ.
و قد مثل هذا اللاهوتَ المتنور شيخُ شعراء الكرد أحمد خاني الذي مارس دوره الديني كشيخ مسلم لكنه سعى قدر الإمكان إلى تكريد الإسلام و تيسير علومه للطلاب الكرد فجاء قاموسه الصغير نوبارا بجوكان لسد حاجة المكتبة الكردية إلى كتاب كردي يشرح معاني القرآن و يسهل اللغة العربية لأطفال الكرد. و من هذ ا المنطلق أيضاً جاء كتابه عقيدا إيمانى الذي يهتم بالعقيدة الإسلامية و يقدم منهجاً دراسياً للطالب الكردي المقبل على تسنم مناصب دينية منها الخطابة و الإمامة. و لو وقف خاني عند هذا الحد لما اهتممنا به و لا أعرناه أي انتباه كونه لم يكن ليختلف بشيء عن أقرانه من الملالي الكرد الذين يسروا الدين العربي باللغة الكردية ليساهموا في تعميق الاغتراب القومي لدى الكرد و ابتعادهم عن أصولهم القومية. لكنه حمل راية القومية الكردية و دافع عن الوجود الكردي في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الكردي على الأقل, فكتب في مقدمته لرائعة مم و زين ما يشبه البيان الأول في النظرية القومية الكردية, و دعا بوضوح إلى التحرر من العثمانيين و احتلالهم لكردستان و أشار إلى ما تجره الحروب الامبراطورية بين الصفويين و العثمانيين من ويلات على الشعب الكردي, و دعا الكرد إلى الوحدة و الانضواء تحت لواء زعيم متخيل يهتم بالمعرفة . و كانت هذه المقدمة بمثابة المانيفيستو الذي نسج كثيرون على منواله. و تأثر به الشاعر الكردي الكبير حاجي قادر كويي الذي نضمه إلى لائحة لاهوت التنوير فدعا الشعب الكردي في أواخر القرن التاسع عشر إلى التنبه لما يحيق بهم من مخاطر. كذلك فقد سلك الشيخ عبد الرحمن آختبي نفس الطريق و أصبحت الشكاوى التي بثها الخاني في مقدمته بمثابة المقدمة الطللية في الشعر العربي الكلاسيكي فقلدها الكثيرون. و لم يكتف الخاني بتلك المقدمة النظرية بل قام بخطوات عملية عملاقة قياساً إلى عصره و إمكاناته و أنشأ مدرسة إسلامية بمناهج مكتوبة باللغة الكردية في بلدته بايزيد . و قام زميله إسماعيل البايزيدي بتأليف قاموس شعري للأطفال الكرد لتعليمهم الفارسية سماه كلزار. من جهته قام الشيخ معروف النودهي جد الشيخ محمود الحفيد بتأليف قاموس الأحمدي لتعليم الكرد اللغة العربية و تيسير فهم القرآن لهم.
لقد قام الملا محمود البايزيدي وهو رجل دين بدوره في التنوير عبر محاولاته في تكريد الثقافة فترجم الشرفنامة إلى الكردية, و كتب تاريخ الكرد بلغته الأم” تاريخ جديد كردستان” و دون في رسالته القيمة “عادات الأكراد و تقاليدهم” ملامح الشخصية الكردية البدوية الأصيلة و ساعد القنصل الروسي البولوني الأصل الكساندر زابا في جمع التراث الكردي و حفظه من الضياع.
إن هذا اللاهوت استطاع التوفيق بين الديانة و القومية و مزج بين الاثنين و للأسف فقد كان ذلك في نطاق زمكاني محدود و متقطع فلم يتم تكريد الإسلام بالكامل إلى الآن.
ثالثاً: لاهوت التحرير
مع بروز النزعة القومية في نهاية القرن التاسع عشر و تحديداً في ارجاء الامبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط ظهر لاهوت التحرير في صورته الجلية فقام الشيخ النقشبندي عبيد الله النهري بثورته العارمة منطلقاً من كردستان إيران بعد أن قلب له العثمانيون ظهر المجن. و تتالت من بعده الانتفاضات الكردية التي قادها في معظم الأحيان رجال دين من اصحاب الطرق الصوفية مثل انتفاضات البارزانيين” النقشبنديين” و البرزنجية” القادريين” في كردستان العراق و انتفاضات الشيخ سعيد و الملا سليم و سيد رضا في كردستان تركيا.
لقد حاول هؤلاء الاستفادة من نفوذهم الديني الكبير و هيبتهم لدى العامة في تحريك الجماهير و تحريضها للمطالبة بحقوقها القومية المشروعة و كانت آخر حركة قومية يقودها رجل دين هي حركة الراحل الملا مصطفى البارزاني الذي ترك بصمات لا تمحى في التاريخ الكردي الحديث.
بعد بروز الطبقة الكردية المثقفة من خارج دائرة اللاهوت, و انحسار نفوذ الشيوخ و الملالي تراجع دور رجال الدين في قيادة الشعب الكردي. و لم يبرز إلى الوجود قائد ديني يستطيع جمع شتات الناس حوله حتى ظهر شيخ الشهداء الشيخ معشوق الخزنوي” الذي تمرد على التكية الخزنوية ” في كردستان سوريا الذي اختصر في شخصيته الكاريزمية القوية كل فضائل اللاهوت الكردي المتحرر من السلفية الدينية المتحجرة و حاول استنباط مشروعية النضال القومي من الدين الإسلامي نفسه فشكل بذلك أكبر الخطر على السلطة السورية المرتكزة على التكية الخزنوية في تخدير الشعب و إبعاده عن قضيته. لذلك لم تجد السلطة بداً من تصفيته لينضم هو الآخر إلى قافلة لاهوت التحرير الكردي التي انتهت حياة معظم السائرين فيها بالقتل و الإعدام.
رابعاً: لاهوت التكفير
و أنا أعد هذا البحث الصغير وقعت الحوادث المؤسفة في الشيخان حيث قام الرعاع بتحريض مباشر من رجال الدين و الموتورين بالهجوم على المراكز الدينية و الثقافية لدى ابناء الديانة الايزيدية من الكرد. و قد هالني أن أرى الإسلام بدأ يلعب دوره الخطير في كردستان بعد أن كنا نظن أننا بعيدون عن تأثير المد الأصولي الذي يشهده العالم باعتبار أن همنا القومي و الاضطهاد الذي نلقاه على يد “إخواننا في الدين” من العرب و الترك و الفرس لا يدع مجالاً لهذه الأفكار. لذلك فقد أضفت هذا الصنف الرابع إلى اللاهوت لأحذر من قيامه و اشتداد عوده لما له من خطر كبير على المجتمعات.
إن التكفير الذي تمارسه جماعات اصولية تقسم العالم إلى فريقين, فريق كبير كافر يجب محاربته بالسلاح و فريق صغير “على الحق” و يحتكر الحقيقة المطلقة مدعياً أنه الفرقة الناجية الوحيدة.
و لم تشهد كردستان وجود مثل هذه الأفكار إلا بعد بروز و انتشار كتب الإخوان المسلمين. و في البداية كانت هذه الأفكار “و قد كنت شاهداً على ذلك” حبيسة مجتمعات مغلقة لم تظهر إلى السطح إلا بعد استقوائها بتلك الجماعات الإرهابية التي تتخذ من الدين ستاراً لتنفيذ مقولات الهجرة و التكفير و دار الحرب و دار السلم إلخ….
و في اعتقادي إن خطر أولئك الذين ذهبوا إلى الشيخان و هتفوا بتكفير الايزيديين و كبروا و هللوا و هم يحرقون و يدمرون, أكبر من خطر تنظيم مثل أنصار الإسلام. فمن شأن اولئك الغوغاء أن يشعلوا حرباً مذهبية في داخل المجتمع الكردي و يمزقوا النسيج الوطني ما لم تبادر السلطات الكردية إلى نزع الفتيل و تربية المجتمع تربية سليمة بعيدة عن الحزازات الدينية و ذلك عبر تشجيع الاندماج بين كافة عناصر هذا المجتمع و نشر قيم التسامح و ثقافة الانفتاح الديني و المذهبي و محو الأمية الطاغية.
إن لاهوت التكفير يعيش حالته الجنينية في كردستان, و واقع الأمر يشبه مصر إبان ظهور الإخوان المسلمين و تأسيس منهجهم في تكفير الناس حيث بدأ الأمر كأنه إصلاح ديني لكن سرعان ما تجلى الوجه الحقيقي المخيف لهم و تناسل الكثير من التظيمات المتشددة من رحم الإخوان.[1]