الإبداع الشعبي الكردي.. ثراء بلا حدود.
جميلة محمّد
مركز الفرات للدراسات، 18/06/2018
$مقدمة$:
التراث الشعبيّ، أو الفولكلور، هو أحد أهمّ معالم الهُويّة الوطنيّة لأيِّ شعبٍ من الشعوب، والإطار الذي يعبِّر عنها تعبيراً صادقاً وحقيقيّاً، وهو يمثِّل خلاصة معارفها وتجاربها وخبرات أفرادها، لدرجة يتمكّن المرء من خلاله أن يفهم طبيعة هذا الشعب وفلسفته وثقافته، ويتعرّف على معتقداته وتقاليده وحكمته التي لا تنضب.
ويُعرف الفولكلور الذي تعود جذوره إلى خبرات متراكمة للشّعوب، بأنّه مجموعة الآثار (الفكرية والمادِّيّة) التي تشير إلى ما خلّفه الأجداد من موروثات متعلِّقة بالمنتوج الفكري والثقافي والفنيّ، وهو بذلك يشتمل على المعارف والمعتقدات والعادات، والأساطير والخُرافات والحكايات، والأمثال والأغاني والنداءات الشّعبية المتداولة، ويشتمل كذلك على أنواع الفنون الشّعبية والحِرف والرقص واللعب الشّعبية، وغيرها من الموروثات الشّعبية.
ومصطلح الفولكلور، مصطلحٌ أدخله العالم الإنكليزي (وليام توماس)، على المصطلحات العلمية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ويعني: (folk/ الناس) (lore/ الحكمة أو المعرفة)1. والمعروف سعي الاستعمار؛ حين كان يخطِّط لاحتلال بلد ما، توجّهه نحو محاربة التراث الشعبيّ لذلك البلد قيل أيِّ شيء، كونه يمثِّل فكره وهُويّته وجذوره، إلا أنّه كان يفشل مراراً، لأنّ جذور الفولكلور راسخة في القِدم، ووثيقة الصلة ببقاء الشعب وديمومته.
والأدب الشعبيّ، أو الإبداع الشعبيّ الشّفاهي، يعدّ جزءاً أساسياً من التراث الشعبي أو الفولكلور، بل يأتي على رأس قائمته الزاخرة، وهو ينتقل -غالباً- من جيل إلى آخر، بفضل الرُّواة والمغنِّين والمنشدين الشعبيين والأناس العاديين، ليعكس روح الشعب، وأفكاره ومعتقداته، ويصوّر ممارساته اليومية ومناسباته الاجتماعية كافة، فبحسب رؤية الدكتور (محمد الجوهري) فإنّ موضوعات الفولكلور تقسّم إلى: الأدب الشعبيّ، العادات والتقاليد الشعبية، المعتقدات والمعارف الشعبية، الثقافة المادية، والفنون الشعبية.2 ويتألف الأدب الشعبيّ بدوره من الفنون: الشعر، الأهازيج الشعبيّة، الأمثال الشعبيّة، الألغاز الشعبيّة، والقصص المنثور: الذي يشتمل على ثلاثة أنواع هامة، هي: (الأساطير الشعبيّة، الحكايات الشعبيّة، السِير الشعبيّة).3
$ثراء ورسالة التراث الشعبيّ الكردي$
والتُّراث الأدبيّ الشَّعبيّ الكرديّ، تراثٌ غنيٌ جداً، ويتمثَّل هذا الغنى في تنوّع أشكاله ومفرداته وفنونه، كالملاحم والاساطير والحكايات الخرافية، والأقاصيص والأشعار والأمثال والأغاني الشَّعبية، والألغاز والأحاجي والنوادر والطرائف والفكاهات والألعاب الشَّعبية، وغيرها من المفردات التراثية الشَّعبية، إلا أنها لم تدوَّن إلا بمقدار ضئيل، بالمقارنة مع الثراء الكبير للفولكلور الكردي.
يقول القاصّ الكرديّ (صبري رسول): “التراث الكردي الشَّفوي؛ ثريٌّ للغاية، حيث تجد في كلِّ جيل ملحمة، وفي كلّ كهف ووادٍ حكاية، ومع تدفّق الينابيع العذبة ثمة حكاية وأسطورة ترويها الأحجار والأنهار والبساتين.. والمخزون الكردي الفلولكلوري لا ينضب، ينتظر من ينقله إلى الآخرين من خلال فنِّ الكلمة، فكلُّ امرأة كرديّة هي مغنّية رائعة لوليدها في المهد، وتتحوّل إلى روائية بارعة عندما تصبح جدّة.”4 ولقد لعب الأدب الشعبيّ دوراً بارزاً في حياة الشعب الكردي عبر رسالته الإنسانية، وعكس -بكلّ دقّة وأمانة- رحلة وجوده المتجذِّر في التاريخ، وتفاصيل الأحداث الهامّة منه، وطبيعة حياته الاجتماعية التي تتعلّق بحياة الإنسان الكردي نفسه وطبيعة الأنشطة التي مارسها ولا يزال، إذ أنّ من أهمّ سمات هذا الأدب أنّ موضوعاته تمسُّ كلّ كرديٍّ بشكل مباشر.. ذلك بالرغم من تفشي الأميّة بين الكرد طويلاً، وظروف حياتهم الصعبة، وتنقّلهم بين الحلِّ والترحال (زوزان وگرميان- إشارة إلى المشاتي والمصايف بغرض الرعي) وبالتالي بقاء فولكلوره غير مدوّن لفترات طويلة، وإنما ينتقل من جيل إلى آخر بشكل شفاهيّ، إلا أنّ الشعب الكرديّ استطاع بنفسه أن يحفظ تراثه وفولكلوره، ويطوره لذلك أدواته بحسب إمكاناته الشعبيّة، وصولاً إلى تدوين ولو جزء يسير منه، وذلك في عهد قريب.
وتشتمل موضوعات الفولكلور الكردي بصفة عامة على كلّ ما يتصف به الإنسان الكرديّ كالحبِّ والصدق والإخلاص، والوفاء والأخلاق الكريمة الفاضلة، وما يتعلّق به، كالفروسية والبطولة والمغامرة،كما تشتمل على كلِّ الأحداث الهامّة والصور والمشاهدات الحيَّة في حياة هذا الشعب، ونضاله الدؤوب ضدّ الاستبداد.
يقول أ. د. (فؤاد حمه خورشيد): “يتضمن الفلكلور الكردي أحداثاً هامة وشاملة لحياة الشعب الكردي السالفة، عبر القصص الشعبيّة والأشعار الملحمية والأمثال والحكم والأساطير والحكايات والطرائق والنكات، فهي تمثل صوراً شتى للحياة العامة في هذا المجتمع؛ بما في ذلك فنونهُ واحتفالاته وسلوكه.”5
$ فنون الأدب الفولكلوري الكرديّ$:
ينقسم الأدب الشعبيّ الكرديّ، أو كما بات معروفاً بالأدب الشِّفاهي الى فنون عدّة، هي: الملاحم الشعبيّة، الحكاية الأسطورية الحكاية الشعبيّة، الأمثال والحِكم الشعبيّة، الألغاز والأحاجي الشعبيّة، الشعر والأغاني والأهازيج الشعبيّة، وهي الأصناف الأدبية نفسها الموجود في الآداب الشعبيّة لدى كلّ الشعوب الحيّة، ويمكن أن نتاولها بشيءٍ من الإسهاب.
$أولاً: الملاحم الشعبيّة$: لقد شكّل هذا الفنّ الأدبي الشّفاهي الرفيع، جزءاً هاماً من التراث الشعبيّ الكرديّ عموماً، وأسهم في إثرائه وإغنائه وإعطائه قيمة كبيرةً لا تضاهى، وقد تطوّر هذا الفنُّ تدريجياً تطوراً كبيراً، حيث يقول الأديب والباحث الأرمني (أبافيان) وهو الذي عايش الكُرد، وخَبِر حياتهم في القرن التاسع عشر، يقول في شهادته على الملحمة الشعبيّة الكردية: “لقد تطوْرتِ الملحمة الشعبيّة الكردية بخطوات عجيبة إلى الأمام، وبلغت أقصى ما يمكن من الكمال.”6 وتنقسم الملاحم الشعبيّة الكردية إلى شكلين رئيسين: أولهما $ملاحم العشق والحبِّ العذري$، التي طالما عبّرت عن عاطفة الحبِّ الصادقة، ومنحته ملامح وخصائص واضحة. يقول الباحث (عبد الباقي يوسف): “أمسى الحبُّ في التاريخ الأدبي والفكريِّ والفنيِّ الكرديّ مصدراً للإلهام، فنهلت منه هذه الإبداعات الفذّة لآلئ الرقصات والدبكات والأشعار والأغنيات والسرديات، فباتت تلك الحالات الغرامية الاستثنائية في تاريخ العاطفة الكردية جزءاً من تراث هذه الأمة، ومشكلاً لجانبٍ من معالم هويتها.”7 .
ولعلّ من أهمِّ ملاحم العشق في الأدب الشعبيّ الكردي: ملحمة «شيرين وفرهاد». التي يتحدّث عنها الباحث (يوسف) بقوله: “العلاقة بين فرهاد وشيرين، هي قصة حبٍّ أذهلت كل قارئ لها بجميع لغات العالم، وقد خلّد الأدب الشَّعبي الكرديّ هذه القصة، فكانت مصدراً لغزليات وسرديات وقصائد وأمثال، حيث نهلت منها الإبداعات الشعبيّة بما تحتويه من غنى في مدلولاتها، وتصوير دقيق لرهافة شعرية حالة الحبِّ البشري التي تربط بين رجل وامرأة.. إنها قصةٌ نابعة من وجدان المجتمع الكردي الذي يلخِّص قضية الإخلاص والتفاني بالنسبة لهذا المجتمع، وهي من ضفّة أخرى تقدّم صورة عن شخصية الإنسان الكردي ومفهومه لعاطفة الحب.”8 ونجد أيضاً ملحمة «خجي وسيامند» التي اشتهرت وذاع صيتها على المستوى العالمي، إنما بأسماء وبيئات مختلفة «تباً لكِ يا شجرة اللوز» مثالاً، وملحمة «زمبيل فروش» أو بائع السلال، التي تروي قصة أمير كردي، يترك حياة الرخاء في دار أبيه، ويعيش حياة الفقر والتزهّد، ويمتهن بيع السلال، فتقع في حبّه امرأة جميلة، وتطلب مبادلتها هذا الحب، ولكنّها لا تلقى جواباً يرضيها.
إلا أن أشهر ملاحم هذا النوع في الموروث الكردي، هي ملحمة «مم وزين» المبنيّة على أساس حكاية «ممي آلان» والتي صاغها شعراً الشاعر الكبير (أحمد خاني) في 2659 بيت شعري، عام 1692، أي في آواخر القرن السابع عشر.
تجسِّد -هذه الملحمة- قصة فتاة كردية اسمها (زين)، تتمتّع بجمال وعفّة وجرأة، والفتى (مم)، العاشق النبيل الذي يخاطر بكلِّ شيء من أجل حبّه، والحفاظ على كرامته، لقد استطاعت هذه الملحمة أن تصوِّر واقع المجتمع الكردي في القرون الوسطى، بجلِّ ما فيه من العادات والتقاليد والطقوس، وأن تكشف الستار عن القيم الاجتماعية البالية آنذاك، والتي لا تؤمن بحقِّ الإنسان في الحبّ دون أن تتدخّل الفوارق الاجتماعية، والحيل والدسائس التي تُحاك للفصل بين المتحابين.
الشكل الثاني من الملاحم الشَّعبية الكردية: $الملاحم البطولية$، التي تعكس – كسائر ألون التراث الشعبي- الصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر، وتشكّل مادّة غنيّة للتعرُّف على جوانب شتّى من الحياة الاجتماعية في المجتمع الكردي، والملاحم البطولية الكردية كما يراها الدكتور عز الدين مصطفى رسول تنقسم إلى ثلاثة أنواع9:
– النوع الأول: الملاحم المشوبة بصور ومظاهر خياليّة، أو تكون الشجاعة والبطولة أساس البحث فيها، مثل ملحمة: «رستم و زوراب».
– النوع الثاني: الملاحم البطولية التي تروي -أيضاً- فصولاً من البطولة والشجاعة، غير أنها خالية من الأحداث غير المعقولة والخارجة عن طاقة الانسان، وفيها كثيراً ما يكون أبطالها أناساً حقيقيين، مثل ملحمة: «عمي كوزي».
– النوع الثالث: هذا النوع يصوِّر الأحداث بصورة كاملة من الوجهة التاريخية، مثل ملحمة: «شريف هموند» فبجانب توفر صورة الشجاعة فيها، إلا أنها تبرز صفحات من تاريخ الشعب الكردي.
ومن أعظم الملاحم البطولية في التراث الكردي: ملحمة «قلعة دُمدُم» التي تروي قصة بطولة واقعية، ترمز إلى كفاح الشعب الكردي ومقاومته للتسلّط المتمثل في شخصية الشاه (عباس الصفوي)، في قلعة دُمدُم، مقتبل القرن السابع عشر، بقيادة الأمير أميرخان (ذي اليد الواحدة الذهبية) وقد نظَّمها شعراً الشاعر (فقيه طيران).
يقول البروفسور الكردي (جاسم جليل) في كتابه: بطولة الكُرد في ملحمة قلعة دُمدُم: “تحتل ملحمة قلعة دُمدُم في حياة الكرد وتأريخهم وآدابهم وفولكلورهم مكانة عظيمة وعريضة وواسعة، ومضمون الملحمة أن أبناء عشيرة كردية بنوا لأنفسهم قلعة ليعيشوا فيها أحراراً، و لما عَلِم الشاه بذلك، شكّل جيشاً جراراً بقيادته وهاجم القلعة، إلا أنّ ساكنيها، وبقيادة بطل الملحمة، قطعوا على أنفسهم عهداً بأن يواصلوا مقاومتهم للجيش الغازي ويدافعوا عن قلعتهم حتى يموتوا عن آخرهم، وقد نفذ جميعهم هذا العهد، حين دخل الجيش القلعة لم يجدوا فيها حتى جريحاً واحداً، حيث قاوموا الغزاة حتى آخر قطرة دم مقاتل.” 10 بصفة عامة: لقد شكّلت الملاحم الكرديّة الشّعبية مصدر إلهام للكثير من الإبداعات الأدبية لبعض عمالقة الأدب العالميين، كما حدث مع الشاعرين: الفارسي الفردوسي، والأوزبكي نوفوي، بل وسحرت الكثيرين من غيرهما للكتابة في مداراتها، وكانت العمود الفقري لمجموعة أخرى من الملاحم الأدبية الشهيرة في الشرق.
$ثانياً: الحكاية الشعبيّة$: إذا كان علماء التراث، يعتبرون أنّ الفنون القولية تحتل موقع القلب من التراث الشعبي، فإنّ الحكاية الشعبيّة -بلا ريب- تأتي على رأس هذه الفنون، وذلك لما تتميَّز به من الخصائص الموضوعية والفنيّة القادرة على التأثير في المتلقّين، ولقدرتها على التعبير عن عواطفهم وأفكارهم ورؤاهم.
والحكاية الشعبيّة بالعموم هي نتاج معتقدات وأخلاق وعواطف الناس تناقلوها عن طريق الرِّواية الشفويّة خلال المراحل التاريخية المتعاقبة، وهي -غالباً- غير محدّدة الزمان أو المكان، ومصوغة في بناء قصصي جذّاب زاخر بالقيم والحكمة.
وتشغل الحكاية الشعبيّة مكانة بارزة بين أنواع الأدب الشعبيّ بصفة عامة، وتحتلّ موقع الصدارة بين الفنون الشِّفاهية التي أبدعها وتذوقها الإنسان، وعلى ذلك يعدّ هذا النوع من أكثر الأنواع الأدبية الشعبيّة انتشاراً وتداولاً في المجتمعات الكردية، إذ عبّرت بألوانها المتعدّدة عن أفكار الكُرد وفلسفتهم، وعكست واقع أحوالهم وصراعاتهم وتفاعلهم مع هذا الواقع، ولكونها تأخذ منه مادّتها الأساسية وشخصياتها وصورها الفنيّة.
وتتفرّع الحكاية الشعبيّة الكردية إلى: (الحكاية الطويلة/ çîrok) و(الحكاية القصيرة أو الأقصوصة/ çîrok çîr)، يرويهما (الحكواتي/ çîrokbêj) أو ينشدها (المغنّي/ dengbêj). وهي تبدأ في معظمها بجمل وعبارات ثابتة؛ من قبيل:
(كان ياما كان، رَحِم الله والديّ ووالديكم/ Hebû tinebû, rehme li dê û bavê min û we bû). كما وتنتهي الحكاية -أيضاً- بعبارات ثابتة.
وتُعدّ حكايات الحيوان من أبرز الأشكال الموجودة في الموروث الكردي، حيث تتصرف فيها الحيوانات كالبشر. ذلك لاتخاذ هذا الشكل الحكائي شخصية الحيوان كستار لتجنّب رقابة السلطة الحاكمة المستبدة، ومن أنواعها الأخرى: حكاية المعتقدات، حكايات التجارب اليومية، الحكايات الهزلية وحكايات الأطفال.
$ثالثاً: الأغاني والأهازيج الشعبيّة$: تعدّ الأغنية من أقدم أنواع الفنون الفولكلوريّة، وألوان التعبير الشعبيّ الكردي، بصفته سجلّاً حافلاً يشير بدقة بالغة إلى مواطن الوجع والألم والفرح الذي عايشه الإنسان الكردي لقرون طويلة، ولا يزال، ويوثِّق تفاصيل حياته في العمل والمناسبات الاجتماعية، كالرعي والغزْل والحصاد والأعياد والأعراس، كما يستوعب مظاهرها ووقائعها وحوادثها، فلا تمرُّ ظاهرة أو حادثة مهما كانت صغيرة أو كبيرة في حياة الكرد دون أن تترك لها الأغنية أثراً، كما يقول الكاتب (رافي).
وهنا يؤكد الكثير من المستشرقين والباحثين على أنّ الكرد هم من الشعوب الشغوفة بالموسيقى والألحان والغناء، حيث تتنوّع -بشكل هائل- الألوان والأشكال الغنائية في تراثه الشعبيّ، حتى وصفت بالنهر الذي تصبّ فيه جداول الحياة كلّها، وتكثر الأسماء التي تشتهر في هذا المجال، من أمثال: عارف جزيري، مريم خان، دمّر علي، رفعت داري، وغيرهم.
ومن أشكال الأغنية الشعبيّة الكردية: أغاني الملاحم (الملاحم الغنائية)، التي تتوزع بين ملاحم العشق والملاحم البطولية، وبين أغاني العمل، وأغاني الشباب، وأغاني الأطفال الشعبيّة وهدهدات الأمهات، وأغاني الرقص والحداد والأغاني الدينية.
يقول (أبافيان) عن الفولكلور الكردي: “إنّ الروح الشاعرية تكمن في أعماق كلِّ كرديٍّ، وحتى عند الشيوخ الأميين، فإنّهم جميعاً يمتلكون القدرة والموهبة في الغناء، وهم يغنون ببساطة وهدوء، يغنّون لوديانهم وجبالهم وشلالاتهم وأنهرهم، ودورهم وأسلحتهم وأفرستهم، وهم يغنّون للشجاعة ولجمال بناتهم ونسائهم، وكلّ ذلك يتدفّق في أعماق مشاعرهم وأنفسهم.”11
$رابعاً: الأمثال الشعبيّة$: تعدّ الأمثال الشعبيّة من أكثر أنواع الأدب الشعبيّ انتشاراً وتداولاً بين الشعوب، ومنها الشعب الكرديّ، ابتدعها الخيال الشعبيّ للتعبير عن فلسفتها وحكمتها وأسلوب حياتها، ويمكن تعريفها باختصار بأنّها: كلمات بليغة موزونة، موجزة، عميقة المعنى، تلخِّص ظاهرة اجتماعية معينة، وتتَّسم بوقعها الجميل في نفس المستمع، ولعل أكثر ما يميزها البساطة، وتعبيرها العفوي عن تجارب واقعية، ورصد سلوكيات ومواقف مختلفة من الحياة.
ويذخر الفولكلور الكردي بالأمثال الشعبيّة، وهي تشكِّل رافداً حيويّاً وهامّاً من روافد الثقافة الشعبيّة الكردية عموماً، وتساعدنا على فهم حياة الكرد، وتطلعنا على جزءٍ من جوانبها وطبيعتها، وتتناول موضوعات ذات صلة بالقيم الأخلاقية الكرديّة الأصيلة، كتمجيد البطولة والشهامة والشرف، كما تتناول موضوعات أخرى، مثل دور المرأة والأهل والحيوانات والطبيعة، إلى جانب الأمثال الساخرة واللاذعة، وقد دأب شعراء الكرد الكلاسيكيون على استخدام الحكم والأمثال في أعمالهم الأدبية. يقول الأديب (خليل كالو): “إنَّ التراث الكردي كتراث سائر شعوب العالم مليء بهذا النوع من النتاج الفكري والوجداني والثقافي، كما أنّ حركة وتفاعل الشعب الكردي مع البيئة التي كانت يسكنها ولّدت لديه بالضرورة ثقافة ومعرفة إنسانية فتحت له طريقاً صحيحاً في التعامل بين أفراد الجماعة وفق ضوابط حافظت على التماسك الاجتماعي”.12 ويتحدّث الكاتب نفسه عن الخصائص الفنيّة للأمثال الشعبيّة، بقوله: “إنّ الحكم والأمثال الشعبيّة الكردية على مختلف نماذجها ذات سمات فنية وأدبية راقية وشاعرية موجزة لها طابع موسيقي ونغمة مريحة ومحببة على مسامع الناس، وذات صفة لفظية جزلة وتصويرية مجسدة للمعنى، ولعل ما يضفي على الأمثال الكردية جمالها واستساغتها وتذوق الناس لها هو قربها إلى القلب وإيجازها ولحنها بلغة أدبية وفنية جميلة، منها ما جاءت بأسلوب تصويري وساخر وطريف.”13 ومن الأمثلة التي يقدِّمها (كالو) من كتابه المعنون ب (الحِكم والأمثال الشعبيّة الكرديّة) والذي ضمّ 2000 مَثَل مختار من التُّراث الأدبي الشَّعبي الكردي:
(السلطان غير الأمين- العادل، سوف يسقط من العرش/ Padîşahê Bêbext wê kevê Ji text)
(الدنيا وردة، شمّها، وأعطها لغيرك- لرفيقك/ Dinya gule bihin bike û bide hevalê xwe)
(إذا واجهتك المُلمّة، فاسند ظهرك إلى صخرة كبيرة/
Eger tiştek hate serê te pişta xwe bide latekemezin)
(طريق البيت يعرفه صاحبه/ Rîya malê malxwê zanê)
(كلّ يوم جوزة، تصبح بعد شهر كومة/ Rojê gwîzek mihê dîzek)
$خامساً: الألغاز والأحاجي$: من أبرز عناصر الثقافة الشعبيّة الكردية، وأكثرها حضوراً بين أشكال آدابهم الشِّفاهية، حيث نجد الألغاز والأحاجي في التراث الكردي بكثرة، ونجد -أيضاً- تنوّع ألوانها وصورها، فمنها الحكاية الملغزة، وألغاز الأطفال والبنات والرجال، وهي تستخدم -عادةً- بهدف تنمية المقدرة على التفكير، والتسلية والمتعة وقضاء الوقت. من أمثلتها:
-هي في داخل البيت والبيت في داخله؟ (المرآة)
Ew di hundirê malê de Mal di hundirê wê de. ? (Neynik e))
– قصر أبيض لا أبواب له، ترى ما هي؟ (البيضة)
(Qesra spî, bê derî gelo ew çi ye ? (Hêk e)
ويجدر بالذكر أنّه وعلى الرغم من الغنى والثراء الذي يمتاز به الفولكلور الكردي، إلا أنّ معظم البحوث والدراسات التي اهتمت به ركزت على جوانب محدّدة دون الأخرى، كما أنّ هذا التراث الهائل لم يُدرس -حتى الآن- دراسة ميدانية وبحثية، ولم يتبّع في مجالاته منهجيات البحث العلمي، إنما ظلّ الاعتماد على تحليلات شخصية إلى حدٍّ ما، وبعض الكبار الذين كان لهم الفضل الأكبر في الحفاظ عليه من الضياع والاندثار، حتى بقي (هذا الفولكلور) الثروة الأساسية التي لم يتمكن أحدٌ من استلابها، إلا أن الأمر لا يتوقف هنا، وذلك لأنّ الرواة والحافظين لن يعيشوا إلى الأبد. وهنا يقول الجزيري: $إنّ الفلكلور الكردي رغم ثرائه مهدّد بالنسيان، بسبب موت من كان لهم الفضل الكبير في حفظه في صدورهم وصيانته.$14 ويذكر بإجلال وتقدير -في هذا المقام- جهود بعض المستشرقين من جنسيات عدّة، خاصةً في أواسط القرن التاسع عشر، الذين كان لهم قصب السبق في تجميع مفردات الفولكلور الكردي، وتدوينها وتصنيفها ونشرها في كتب ودراسات تمتلئ بها خزائن الكثير من المكتبات والمراكز الموزَّعة في العالم، والتي لا يزال جلّها حبيسة الجدران، وتنتظر من يكشف عنها النقاب، ويخرجها للعلن.
كما ويذكر بالتقدير ذاته جهود مجموعة رائدة من الأدباء والباحثين الكرد؛ ممن أسهموا في الحفاظ على الفولكلور الكردي أيّما إسهام، بخاصة مجموعة الأدباء من جمهوريات ماوراء القفقاس (أرمينيا- أذربيجان- جورجيا). وسنقف على أهم جهود كلا الطرفين بشيء من الإسهاب في دراسات لاحقة.
$الهوامش والإحالات$:
1.الفلكلور.. قضاياه وتاريخه، تأليف: يوري سوكولوف. ترجمة: حلمي شعراوي، عبد الحميد حواس. المراجعة والتقديم: د. عبد الحميد
يونس، ص17
2.د. الجوهري، محمد، موسوعة التراث الشَّعبي العربي، الجزء الأول- علم الفولكلور: المفاهيم والنظريات والمناهج، الهيئة العامة لقصور
الثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية، ص 100 وما بعد.
3.د. إبراهيم، نبيلة: أشكال التعبير في الأدب الشَّعبي، ط/ 3: دار النهضة للطباعة والنشر، القاهرة- جمهورية مصر العربية، عام
1991.
4. أحمد، خورشيد، القصة الكردية في سورية، (شهادات ونصوص) دار بعل- دمشق 2008. وصبري رسول قاصّ كردي سوري.
5. أ. د. خورشيد، فؤاد حمه، بحثه المعنون ب صور الحياة في الثقافة والفلكلور الكردي، المدى الثقافي، العدد 1016 الأربعاء
15 أغسطس/ آب 2017.
6. أبافيان خ. مجلة القفقاز، العدد 47، ص 88
7. يوسف، عبد الباقي، بحثه المعنون ب فرهاد وشيرين.. قصة حب من التراث الكردي، ملحق الخليج الثقافي- صحيفة الخليج: يومية،
مستقلة، تصدر عن دار الخليج السعودية، تاريخ النشر: 16/09/2013
8.المصدر نفسه.
9. د. رسول، عز الدين مصطفى ، عنوان الدراسة: الملحمة في الفولكلور الكردي، مجلة التراث الشعبي، فصلية تعنى بالدراسات
الفولكلورية، تصدر عن وزارة الثقافة العراقية، بغداد، العدد 5، تاريخ: فبراير/ شباط، عام 1971
10. جليل، جاسم، بطولة الكرد في ملحمة قلعة دُمدُم، الترجمة للعربية: شكور مصطفى، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1983.
11. د. رسول، عز الدين مصطفى ، عنوان الدراسة: مقدمة لدراسة الفولكلور الكردي، مجلة التراث الشعبي، مصدر سابق- العدد 4
تاريخ: يناير/ كانون الثّاني، عام 1969، ص /53-54/.
12. كالو، خليل، الحِكم والأمثال الشَّعبية الكرديّة، كتاب يضمّ حوالي 2000 مَثَل مختار من التراث الأدبي الشَّعبي الكردي، المقدّمة.
والأمثال منشورة على صفحات موقع: (Gemîya kurda/ قارب الكرد) على عدَّة أجزاء.
13. المصدر نفسه.
14. الجزيري، علي، الأدب الشفاهي الكُردي- الجزء الأول، (دراسة) ، ط/ 1 منشورات: كاوا للثقافة الكرديّة 2000، بيروت- لبنان.
$مراجع الدراسة$:
أولاً) الكتب:
– تاريخ الأكراد، توماس بوا، ترجمة: محمد تيسير ميرخان، دار الفكر- دمشق، سوريا- ط/1 أيلول/ سبتمبر، عام 2001.
– الكرد: باسيل نيكتين. تقديم ومراجعة وتدقيق: صلاح برواري. طبعة صادرة عن (Aso/ أفق): مجلة ثقافية كردية، عام 1956. طبعة
أخرى: دار الروائع، بيروت، بلا.
– الاكراد: ملاحظات و انطباعات، المستشرق: مينورسكي- ترجمة: معروف خزندار، مطبعة النجوم، بغداد، 1968.
– الواقعية في الأدب الكردي، تأليف د. عزُّ الدين مصطفى رسول، ط/ 1: منشورات المكتبة العصرية، بيروت- لبنان، عام 1966.
– دراسة في أدب الفلكلور الكردي، الدكتور عزُّ الدين مصطفى رسول، ط/ 3: دار الثقافة والنشر الكرديّة، بغداد- العراق، عام
1975. طبعة أخرى: دار الحرية للطباعة والنشر، بغداد، 1987. مطبعة الحاج هاشم، اربيل- عاصمة إقليم كردستان، 2011.
– الأدب الشفاهي الكُردي- الجزء الأول، (دراسة) علي الجزيري، ط/ 1: كاوا للثقافة الكرديّة، بيروت- لبنان، عام 2000.
– من الفلكلور الكُردي، قصص غنائية، حكم وأمثال، د. محمد عبدو النجّاري، ط/ 1: مطبعة الكاتب العربي، دمشق- سورية، عام
2003.
ثانياً) الدراسات والأبحاث:
– نماذج من الفولكلور الكردي، الدكتور نوري ياسين هرزاني، جامعة صلاح الدين- كلية الآداب.
– صور الحياة في الثقافة والفلكلور الكردي، المدى الثقافي، أ. د. فؤاد حمه خورشيد، العدد 1016 الاربعاء 15 آب 2017.
– نماذج من الأدب الكردي، مظفر بشير، مجلة المعرفة السّعودية، العدد 156 آذار/ مارس 2008
– الفلكلور الكردي: خزانة مفتوحة لفهم الأدب والتاريخ والحال الاجتماعية الكردية، د. محمد عبدو النجاري دراسات تاريخ مايو,
2017 المركز الكردي السويدي للدراسات، مركز بحثي مستقل مقرّه السويد.
– الأدب الشَّعبي عند الأكراد، مهوَش أحمد، مجلة القافلة، ثقافية تصدر كلّ شهرين عن شركة ارامكو السعودية. [1]