الباحث السياسي السوري الدكتور راتب شعبو في حوار شامل حول العلاقات العربية- الكردية
أجرى الحوار: حسين قاسم
راتب شعبو من مواليد اللاذقية 1963، كان يعمل كطبيب جراح، اختصاص أنف، اذن، حنجرة، خرج من سوريا في صيف 2014 وهو مقيم الأن في مدينة ليل في فرنسا، بعد ذلك تفرغ للكتابة التي كان يمارسها الى جانب مهنته في سوريا. سجن شعبو لمدة 16 سنة وثلاثة أيام بسبب انتمائه لحزب العمل الشيوعي في سورية. انجز في السجن كتاب يتناول الجانب السياسي من تجربة الرسول محمد بعنوان (دنيا الدين الاسلامي الاول)، وأنجز خارج السجن كتاب عن تجربة السجن بعنوان (ماذا وراء هذه الجدران)، وله كتاب بحثي يتناول تجربة رابطة العمل الشيوعي في سورية. وكتاب ادبي قيد النشر بعنوان (باب صغير لعالم واسع). يكتب بشكل دوري في الصحف والمواقع الإلكترونية العربية.
«لو كان الواقع السوري من حيث التوزع الديموغرافي والجغرافي مناسباً، كنت أرى أن الانفصال أو الكونفدرالية هو أنسب حل، لاسيما بالنسبة للقومية التي تشعر بالظلم».
مجلة الحوار- العدد /78/- عام 2021م
س1: هل هناك أزمة في العلاقة العربية-الكردية؟ أم أنه مجرد إشكال عابر وطارئ؟ بناءً على ذلك ما هي أبرز ملامح هذه الأزمة/الإشكال وما هي أسبابها؟
ج1: العلاقة العربية الكردية مأزومة منذ زمن طويل، يمكن تقصي الأزمة بالعودة إلى بدايات صعود التيار القومي العربي في سوريا. والحقيقة أن مظاهر هذه الأزمة لا تحتاج إلى عين فاحصة، فقد جرى تهميش الكرد وقمعهم ومحاولة تذويبهم وامتصاصهم إلى القومية العربية عقود طويلة. في ظل السيطرة العربية في سورية ذاب قسم مهم من الكرد في الإطار العربي ولاسيما في المدن السورية الكبرى، وحيث لم تفلح هذه العملية، كان القمع الثقافي الذي وصل إلى حدود حظر اللغة والأعياد القومية الكردية، هو الممارسة المعتمدة، إلى جانب القمع السياسي الذي لم يقتصر بالطبع على الأحزاب الكردية، أي أن القمع السياسي لم يكن قمعاً «قومياً» على خلاف القمع الثقافي.
لا شيء أكثر من هذا يدل على أزمة العلاقة العربية الكردية التي كشفت وجهاً قبيحاً لها في أحداث آذار 2004، حين لم يكن الموقف العربي (بما في ذلك أحزاب معارضة لنظام الأسد) متضامناً كما يجب مع الكرد الذين تعرضوا لقمع وحشي حينها.
المشكلة أن القوميين العرب يساوون في أذهانهم بين الوطنية والذوبان الكردي، فيبدو الكردي الوطني هو الكردي اللاكردي، أو الكردي العربي. لم يكن غريباً، والحال هذه، أن يتخذ النزوع التحرري القومي الكردي بعداً صدامياً مع العرب، أقول العرب وليس فقط السلطات القومية العربية، ذلك لأن نسبة كبيرة من العرب، تحت تأثير التعبئة القومية العربية، تبنت تصوراً غير متقبل للتطلع التحرري الكردي مرة بدعوى الحقوق التاريخية ومرة بدعوى الانفصال … الخ. هذا تعبير عن عمق الأزمة بين أبناء القوميتين في سورية.
س2: هل البحث عن هوية سورية جامعة فكرة صحيحة؟ أم هو سؤال خاطئ يثيره سوداوية اللوحة السورية؟
ج2: من جهتي أجدها فكرة جيدة، وأجدها معاكسة للسوداوية. لكن دعنا مؤقتاً من مفهوم الهوية، ولنقل انتماء سورياً جامعاً. نحن سوريون منذ أكثر من قرن من الزمان بحكم تواجدنا ضمن حدود سياسية اعترف عليها العالم باسم سوريا. هذا ما لا يمكننا التغافل عنه، وحتى إذا تغافلنا فإن الآخرين (غير السوريين) سوف يذكروننا به. فالعربي والكردي والتركماني والسرياني والأرمني … الخ، هو في نظر الآخرين سوري بالدرجة الأولى، أكان هؤلاء الآخرون كرداً أم عرباً، لا فرق. ألا ينظر إلى اللاجئ الكردي السوري في أربيل على أنه سوري أولاً؟ ألا ينظر إلى اللاجئ العربي السوري في لبنان أو الأردن، على أنه سوري أولاً؟ نحن سوريون شئنا أم أبينا، ولا أجد ما يضير في هذا.
التقسيم السياسي للعالم لا يقوم على صفاء قومي، ولا يمنع هذا من ازدهار الأمم المختلطة القوميات. أقول الأمم، على خلاف التعريف المتداول عن الأمة. لاحظ تسمية الأمم المتحدة مثلاً، تسمي الدولة أمة، تساوي المفهوم السياسي للشعب بمفهوم الأمة. لنقل أن الاختلاط القومي في سوريا يشكل الأمة السورية، دون أن يعني هذا نهائية أو جوهرية هذه الأمة وانغلاقها.
س3: هل هناك محطات يمكن تسميتها بالتاريخية (تجارب سياسية- حكومات- قوانين- دساتير- رجال دولة)، منذ نشوء الدولة السورية إلى ما قبل عام 2011، من الممكن الارتكاز عليها لبناء علاقة كردية-عربية صحيّة تؤسس لهوية وطنية سورية جديدة ينادي بها البعض؟
ج3: لا أجد محطات تاريخية كالتي تسأل عنها. يكفي أن نعلم أن أول حزب سياسي كردي في سورية تشكل في 1957، وكان تركيزه الأول، كما جاء في برنامجه، «حماية الكرد من القمع والاندثار». هذا يدل على حالة سياسية وثقافية في منتهى السوء بالنسبة للكرد. لكننا لا نحتاج إلى محطات كي نبني عليها، يمكن أن ننشئ أرضية صلبة لانتماء وطني سوري لا يجد الكردي فيه ولا العربي ولا غيرهما أنه مهدد «بالاندثار».
س4: في مقارنة سريعة لمشهد العلاقة الكردية-العربية بين مرحلتين، الواقع الحالي الآن والمرحلة التي سبقت اندلاع الحركة الاحتجاجية في آذار 2011، ماذا يمكن أن يلاحظ المتابع للشأن السوري العام؟ هل ترى أن العلاقة اتجهت نحو مزيد من التأزم ام أنها أصبحت على مسارها الصحيح؟ ما دلالات ذلك؟
ج4: من الواضح أن العلاقة بين الكرد والعرب باتت أكثر تأزماً بعد 2011، لأن ما يمايز بين القوميتين سياسياً سيطر على ما يجمعهما. العرب ركزوا على مهمة «إسقاط النظام» بوصفها مهمة جامعة ينبغي أن نهمش أو نؤجل كل شيء، بما في ذلك تقديم تصور محدد بشأن الموضوع الكردي، إلى ما بعد إنجازها. والكرد خاضوا معركتهم الخاصة المتعلقة بحقوقهم، فتباعد المساران. بديهي أن هناك تفاصيل كثيرة تذهب في اتجاهات أخرى، لكن هذه نظرة عامة لما جرى وباعد بين القوميتين. هذا يدل بشكل أساسي وواضح إلى انعدام الثقة بين الطرفين. لا العرب يثقون بنوايا الكرد، ولا هؤلاء يثقون بنوايا العرب. هذا واقع لا ينفع فيه توجيه اللوم لأحد. ما ينفع فقط هو بناء الثقة، ولا يمكن بناء الثقة دون التخلي الكامل عن فكرة السيطرة.
س5: ما هي أبرز الواجبات أو التحديات الأخلاقية والسياسية أمام الحركة الكردية السورية والمعارضة السورية لتجاوز أزمة عدم الثقة على ضوء اللوحة الراهنة؟ ما هي أبرز المؤشرات التي يمكن استشفاف مواضع الخطر في العلاقة الكردية-العربية؟ وما هي أبرز النقاط المضيئة التي يمكن الركون إليها؟
ج5: التحدي الأكبر أمام العرب والكرد هو الخروج من أفق التفكير القومي إلى أفق التفكير الوطني، والنظر إلى سوريا على أنها وطن نهائي يمكن ويجب أن تزدهر فيه حقوق الجميع. الأفق الوطني (وهو بالمناسبة الأفق الوحيد المتاح وبالتالي هو الأفق المجدي والعملي الوحيد برأيي) يسمح لأبناء القوميتين بالتحرر من فكرة السيطرة التدميرية، الفكرة التي تقول كي أكون حراً يجب أن أستعبد غيري أو، على الأقل، أن أسيطر على غيري. البقاء في الأفق القومي يدفع السياسي (أكان كردياً أو عربياً) إلى المناورة والكذب وبالتالي يزيد في انعدام الثقة القائم سلفاً.
أعتقد أن بناء الوطن السوري الذي يحتوي الجميع ويحترم حقوق الجميع أفراداً وجماعات، هو طريق إلى حرية الكرد والعرب، أكثر من العيش في سوريا والتفكير في كردستان أو في الوحدة العربية. التحدي الكبير أمامنا هو أن نجعل الوطنية السورية أو الانتماء السوري ذا أولوية. وهذا ليس إلا خيار سياسي، بمعنى أنه ليس مساراً حتمياً أو أكيداً، لكني أراه الأفضل. لا يمكن أن نلغي وجود خيارات سياسية أخرى ذات توجهات قومية، لكن يمكن أن نقول إنها خيارات تتنافى مع الوقائع وتمنع نشوء وطن سوري مستقر.
النقاط المضيئة في هذا المعنى هي التشكيلات السياسية التي تضم الكرد والعرب معاً في أفق وطني سوري، يعترف ويحترم حقوق القوميات الوطنية (قد يبدو المصطلح متناقضاً ولكنه يدل على اشتمال الوطن للقوميات). في الأفق الوطني يتحرر الطرفان من فكرة السيطرة، ويدخلان معاً إلى أفق المساواة الرحب.
س6: تطرح بعض الأطراف السياسية تجربة الإدارة الذاتية في شرق الفرات كنواة ومرتكز لعلاقة عربية-كردية صحيحة كيف ترى ذلك؟ وهل ترى أن هذه التجربة بمعطياتها الحالية وتحدياتها الراهنة تصلح أن تكون مرتكزاً لهذه الفكرة؟
ج6: للأسف لا أرى أن تجربة الإدارة الذاتية تشكل مرتكزاً لعلاقة سليمة خالية من السيطرة بين الكرد والعرب. في الإدارة الذاتية هناك سيطرة كردية لجهة سياسية كردية محددة، وهذا ما لا يمكن إخفاؤه، ولا يمكن توقع أن يكون أساساً صالحاً لعلاقة سليمة. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن لأحد أن يتخيل وجود حالة ديموقراطية مساواتية (لا على المستوى السياسي ولا القومي) في ظل صراع عسكري محتدم بين قوى عديدة. لا يمكنك في ظل وضع كالوضع السوري في السنوات الماضية، أن تشكل قوة ذات وزن دون اعتماد مبدأ المركزية الشديدة والاستناد على تحريض عصبية هوياتية، بصرف النظر عن اللغة الخارجية التي تصدرها للعالم. فكرة الأمة الديموقراطية مثلاً تحولت إلى غلاف لغوي لسيطرة كردية، ولا يمكن أن تكون سوى ذلك، في ظل الظروف المذكورة.
س7: كلمة أخيرة تود توجيهها للقارئ…
ج7: لو كان الواقع السوري من حيث التوزع الديموغرافي والجغرافي مناسباً، كنت أرى أن الانفصال أو الكونفدرالية هو انسب حل، لاسيما بالنسبة للقومية التي تشعر بالظلم. غير أن الواقع السوري يجعل من مثل هذا الحل مدخلاً لمشاكل أكثر وأشد تعقيداً. لا يمكن التغافل عن الشروط التي تحكم واقعنا، ولا يمكن حسم صراع سياسي بالعودة إلى التاريخ القديم لإثبات أو نفي حقوق قومية. يبدولي أن حدوداً واسعة من «التحرر القومي» يمكن ضمانها في إطار وطني.[1]