مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الخامسة والثلاثون ) الوزير الفاطمي: العادل ابن السلاّر (ت 548 ﮪ/1153 م)
د. أحمد الخليل
أديان.. وسياسات
ترى هل الأديان تبدأ سماوية، ربانية، نورانية.
ثم يحوّلها البشر إلى مظلات للسياسات ومطايا للمصالح؟
فالمتوقَّع أن تكون اليهودية، في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ديناً سماوياً ربانياً، لكننا نجدها تبدو على أنها مظلة للمصالح والمطامع، ونجد أن الإله (يَهْوَه) يعقد مِيثَاقاً مَعْ النبي أَبْرَامَ (إبراهيم) قَائِلاً له:
” سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ. نَهْرِ الْفُرَاتِ. أَرْضَ الْقَيْنِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ. وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ. وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ “. [العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 15، الآيات 18 – 21].
على أي أساس أبرم الإله (يَهْوَه) ذلك الميثاق الأبدي؟
وما مبرر تجريد شعوب كاملة من أوطانها وثرواتها؟
ولماذا قدّم تلك الأوطان منحة لقبيلة بدوية متشرّدة؟
لن نجد إجابات شافية لا عن هذه التساؤلات ولا عن مثيلاتها؛ فالإله السماوي، بعد أن يصبح سياسياً أرضياً، لا يحب أن يستمع إلا من طرف واحد، وذلك الطرف دائماً هو (الشعب المختار)، الشعب الذي يتفنّن في تقديم القرابين له، أما الشعوب الأخرى وعذاباتها، والمآسي التي تحلّ بها، فذلك ليس من شأن الإله الأرضي، وهو غير مستعد لأن يعرف تلك العذابات والمآسي.
وقل الأمر نفسه في الزردشتية.
إنها بدأت ديناً ربانياً أيضاً، نادى به النبي زردشت بين قومه الميد (أجداد الكرد)، في القرن السادس قبل الميلاد، لكن الميد رفضوا دعوته، فاقتنصها الفرس الأخمين، واتخذوها إيديولوجيا لإسقاط الدولة الميدية، وتأسيس الدولة الأخمينية.
وكذلك كانت المسيحية.
إنها بدأت، في القرن الأول الميلادي، ديناً ربانياً مسالماً، يقوم على:
” أحِبّوا أعداءَكمْ. أَحسِنوا إلى مُبغضيكمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. وصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنِ أخذ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً “. [العهد الجديد، إنجيل لوقا، الأصحاح 6، الآيات 27 ، 28، 29].
ثم إذا بالملك الروماني قسطنطين يجعل من المسيحية إيديولوجيا لحشد الأنصار وتجييش الجيوش، ويتخذها مظلة لمقارعة منافسيه في هرم السلطة الرومانية، وإذا بها تصبح أيضاً ذريعة ليس لسلب الآخرين أرديتهم وثيابهم فقط، وإنما لغزو أوطانهم ونهب ثرواتهم، وتأسيس إمبراطورية عُرفت في التاريخ بالإمبراطورية البيزنطية.
نزاعات .. وثورات
وفي الإسلام، ما إن توفي النبي محمد عليه السلام، سنة (10 ﮪ)، حتى أطلّت النزاعات، وحُسم الأمر لصالح الفريق القرشي، وبويع أبو بكر الصديق خليفة، وأوكل أبو بكر الخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب، ثم آلت إلى عثمان بن عفّان، ثم أصبح عثمان عرضة للانتقادات، وقُتل في داره سنة (35 ﮪ) وهو يتلو القرآن.
ثم بايع بعض القوم علي بن أبي طالب بالخلافة، وأحجم آخرون، ثم صار الإحجام نقمة، ثم صارت النقمة عصياناً فإعلان حرب، ثم قُتل علي في عاصمته الكوفة، وحل ابنه الحسن محلّه، ثم تنازل الحسن عن الخلافة سنة (40 ﮪ) لحاكم بلاد الشام القوي معاوية، وأطلق المؤرخون على ذلك العام اسم (عام الجماعة).
ورغم ذلك لم تتحقّق (الجماعة).
فقد أشعل الخوارج ثورات عنيفة، ونظّم الشيعة جبهة قوية للمعارضة، وحمل الحسين بن علي لواء المعارضة، وجرت معركة كربلاء، وسقط الحسين ومعظم أهل بيته صرعى، وأعطت تلك المذبحة قوة دفع للحركة الشيعية، فثاروا ثورات ملتهبة، وجابههم خلفاء بني أمية – ما عدا عمر بن عبد العزيز- بالقسوة والبطش.
ونتيجة للسياسات الأموية القمعية لجأ الشيعة إلى العمل السري، واستقطبوا المَوالي (المسلمون غير العرب)، ولا سيما في خراسان (شرقي إيران)، وكسبوا بانضمامهم دعماً هائلاً، وكان الفرعان الهاشميان؛ الفرع العلوي (نسبة إلى علي)، والفرع العباسي (نسبة إلى العباس بن عبد المطلب)، قد وحّدا جهودهما، وعملا معاً تحت مظلة (آل البيت).
وبعد أن استكمل الشيعة قوتهم باشروا العمل العسكري، وزحفوا غرباً باتجاه العراق، وجرت المعركة الفاصلة بين الفريقين في إقليم كردستان (شمالي العراق)، قرب نهر الزاب الأسفل سنة (132 ﮪ)، وخسر الخليفة الأموي مروان بن محمد المعركة، وفر إلى مصر فقتل فيها، وسيطر (آل البيت) على مقاليد الأمور.
وأبعد الفرع العباسي شريكه الفرع العلوي من السلطة، واستأثر بالخلافة، فكان الخليفة الأول أبا العباس السفّاح، ثم ورثها أخوه أبو جعفر المنصور، وفتك العباسيون بقادة الدعوة الذين كانوا يميلون إلى الفرع العلوي، ومنهم أبو سَلَمة الخلاّل.
لكن هل استسلم الفرع العلوي؟
لا، وإنما خاض بعض قادتهم ثورات عنيفة ضد العباسيين، فبطش العباسيون بهم وبأنصارهم، وإزاء هذا البطش تشتّت قادة الحركة ودعاتها في أرجاء البلاد، بعيداً عن العراق مركز الخلافة، تارة في الشرق، وأخرى في الغرب، وكافحوا ضد العباسيين، وانقسم الفرع العلوي إلى فروع ثلاث رئيسة:
– الفرع الزيدي، نسبة إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين.
– الفرع الجعفري (الاثنا عشري)، نسبة إلى الإمام جعفر الصادق.
– الفرع الإسماعيلي، نسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق.
الخلافة الفاطمية
ومن الفرع الإسماعيلي ظهرت الأسرة الفاطمية، نسبة إلى فاطمة ابنة النبي محمد عليه السلام، ونشأت الدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا، بمساعي الداعية أبي عبد الله الشيعي، فقد انتقل من اليمن إلى مكة، والتقى هناك بحجّاج من كتامة- فرع من قبيلة صنهاجة الأمازيغية (البربر)- من المغرب، واصطحبه الكتاميون إلى بلادهم، وكان ذلك سنة (280 ﮪ/843 م)، وهناك نشر أبو عبد الله الدعوة، ثم تحوّل إلى العمل العسكري، وأرسى أركان الدولة الفاطمية في المغرب سنة (287 ﮪ).
وقام أبو عبد الله باستدعاء الإمام الإسماعيلي عبيد الله المهدي من (سَلمية) قرب حمص السورية، ووصل عبيد الله إلى المغرب سنة (292 ﮪ)، وقضى الفاطميون على دولة الأغالبة وعلى الدولة الرستمية، وبويع عبيد الله بالخلافة، وتلقّب ب (المهدي أمير المؤمنين)، وامتد نفوذ دولته إلى طرابلس في ليبيا شرقاً، وبنى مدينة المهدية في تونس، واتخذها عاصمة له.
وتعارضت تطلّعات الدولة الفاطمية الشيعية مع سياسات الخلافة العباسية السنّية شرقاً، وأفلح الخليفة الفاطمي الرابع المعز لدين الله في السيطرة على مصر، ودخل القاهرة سنة (362 ﮪ/873 م)، واتخذها عاصمة لدولته، ثم توسّع النفوذ الفاطمي إلى بلاد الشام، ثم ما لبث الضعف أن دبّ في الخلافة الفاطمية، وتحكّم فيها الوزراء والقوّاد، وأصبحت القوة هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى منصب الوزارة.
ونتناول في هذه الحلقة سيرة أحد الوزراء الفاطميين.
إنه العادل ابن السلاّر.
فمن هو الرجل؟ وماذا عن سيرته؟
الأصل .. والنشأة
اسمه علي بن السلاّر، المنعوت بالملك العادل سيف الدين، عُرف بابن السلاّر، وذكر ابن خَلِّكان أنه وجد في أحد المصادر أن اسمه أبو منصور علي بن إسحاق، ولا مشكلة في ذلك، فألقاب الأشخاص وكناهم كانت تتغيّر أحياناً بتغيّر أحوالهم، ولعل اسم والده كان إسحاق، لكن طغى اسم العائلة (سلاّر) على اسم الأب، وحلّ محلّه.
وقال ابن خَلِّكان في (وفيات الأعيان، 3/416):
” رأيت في بعض تواريخ المصريين أنه كان كردياً زرزارياً، وكان تربية القصر بالقاهرة، وتقلّبت به الأحوال في الولايات بالصعيد وغيره، إلى أن تولّى الوزارة للظافر “.
وقبيلة زرزاري قبيلة كردية عريقة، يعني اسمها بالكردية (ولد الذئب)، وتنتمي إليها الأسرة البرمكية الشهيرة، كما ينتمي إليها القاضي المؤرخ ابن خلّكان، باعتباره من أحفاد البرامكة، وقد أنجبت هذه القبيلة عدداً لا بأس به من المشاهير، وبرز منهم في القرن السابع الهجري بدر الدين السِّنْجاري قاضي القضاة في مصر، والأمير أحمد بن حَجّي، وكان من الأمراء المرموقي المكانة عند السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، بل كان يُعَدّ منافساً للوزير بهاء الدين بن حَنّا.
ويبدو أن بعض أبناء قبيلة زرزاري وظّفوا قدراتهم العسكرية في عهد التركمان السلاجقة، وقد تصارع الفاطميون والسلاجقة على بلاد الشام، وكان الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي (أمير الجيوش) استرد القدس من الزعيم السلجوقي سقمان بن أرتق سنة (491 ﮪ/1098 م)، فوجد فيها طائفة من عسكر سقمان، فضمهم الأفضل إلى جنده؛ وكان في جملتهم السلار والد العادل.
ويبدو أن السلار كان يمتاز بقدرات عسكرية رفيعة، وأنه قدّم إنجازات عسكرية ذات شأن، فقد ارتفع مقامه عند الوزير الفاطمي، فمنحه لقب (ضيف الدولة) تقديراً لجهوده، وأكرم ولده علياً، وضمّه إلى مؤسسة (صبيان الحِجْر)، وكانوا يسمّون (صبيان الخاص) أيضاً.
وكان الفاطميون قد استحدثوا مؤسسة (صبيان الحجر) لأغراض عسكرية، إذ كانوا يضمّون إليها من أبناء الأمراء والأجناد والموظفين كل من تُوفّي والده، فيدرّبونه على فنون القتال والفروسية، ثم يزوّدونه بفرس وبعدّة الحرب، فيكون على أهبة الاستعداد للقيام بأية مهمّة قتالية طارئة، وهو يشبه نظام المماليك عند الأيوبيين.
وإذا تميز صبي ما من هؤلاء بالفطنة ورجاحة العقل، وبالبسالة والشجاعة، رُقّي إلى مرتبة الإمرة (القادة)، وكان الفتى علي بن السلار ممن يمتاز بتلك الخصال الرفيعة، إضافة إلى اتصافه بالحزم، والجد في مباشرة الأمور، وترك المخالطة والهزل، وهذا هو شأن معظم مشاهير الكرد على الصعيدين العلمي والعسكري، فرقّاه الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله إلى مرتبة الأمراء، وعيّنه والياً على الإسكندرية، ثم راحت منزلته تتقدّم أكثر فأكثر.
وكان قد وصل من شمالي إفريقيا إلى مصر أبو الفضل عباس بن أبي الفتوح ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وهو صبي ومعه أمه واسمها بلارة، فتزوجها علي بن السلار، وأقامت عنده زماناً، وقبيلة كتامة الأمازيغية (البربرية) هي فرع من قبيلة صنهاجة الأكبر والأوسع انتشاراً في المغرب والجزائر وربما في تونس أيضاً.
وكان لكتامة خاصة ولصنهاجة عامة دور أساسي في نشأة الدولة الفاطمية، بل إن هذه الدولة نشأت وترعرعت في أكناف صنهاجة، ولذا لم يكن عباس الصنهاجي شخصية عادية، ولا أستبعد أن يكون العادل قد أخذ هذا الأمر في الحسبان حينما عقد قرانه على والدة عباس، وكأنه أقام بذلك تحالفاً مع القوة الأمازيغية داخل مؤسسة الحكم الفاطمية، ولا سيما أن عباساً الصنهاجي أصبح والي الغربية (المنطقة المتاخمة لليبيا) في مصر، وجار العادل والي الإسكندرية والبحيرة.
في منصب الوزارة
كان الخلفاء الفاطميون المتأخّرون أضعف من أن يأخذوا كل السلطات في أيديهم، وأصبح القادة والولاة الأقوى هم الذين يفرضون أنفسهم على الخليفة وعلى الحاشية، ويستولون على الوزارة، ويديرون أمور الدولة بالكيفية التي يشاؤون، وقد حدث مثل ذلك في عهد الخلفاء العباسيين المتأخرين، حينما استبد الضباط الأتراك بشؤون الدولة.
وقد شهدت الدوائر السياسية في مصر، بعد موت الخليفة الحافظ لدين الله، واعتلاء ابنه الظافر بالله سدّة الخلافة، صراعاً بين الجند السودان والجند الأتراك، وتنافس الأمراء على منصب الوزارة، وفي خضم ذلك الصراع فاز بالوزارة شخص ليبي الأصل، هو الأمير نجم الدين سليم بن محمد بن مصال،ومنحه الظافر لقب (الفضل أمير الجيوش سعد المُلك ليث الدولة).
غير أن مدة بقاء ابن مصال وزيراً لم تتجاوز خمسين يوماً، فقد واجه معارضة قوية من جانب علي بن السلار، والي الإسكندرية والبحيرة، ورفض أن يلي الوزارة شيخ مثل ابن مصال، ووقف والي الغربية عباس الصنهاجي مع العادل زوج أمه ضد ابن مصال، ولم يعبأ ابن السلار بتأييد الخليفة الظافر لابن مصال، وأقبل من الإسكندرية زاحفاً بجنده على القاهرة، وانتزع الوزارة من ابن مصال بالقوة، ودخل القاهرة، وفرض سلطته، وأجبر الظافر على تعيينه وزيراً، ” وتولّى تدبير الأمور، ونُعت بالعادل أمير الجيوش ” حسبما قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 3/416)، ولقّبه الظافر ب (العادل سيف الدين ناصر الحق).
لكن الوزير ابن مصال لم يستسلم للعادل، وإنما فرّ من القاهرة، ثم حشد مقاتلين من المغاربة وغيرهم، ورجع – بتأييد ضمني من الخليفة الظافر- لمهاجمة العادل واسترداد منصب الوزارة، فجهّز العادل جيشاً لمحاربته بقيادة ربيبه عباس، والتقى الفريقان المتصارعان في صعيد مصر، وخسر ابن مصال المعركة، وقتل، وحُمل رأسه على رمح، وطيف به، وكان ذلك سنة (544 ﮪ).
على أن الخليفة الظافر لم يطب نفساً بسيطرة العادل على مقاليد الوزارة، قال ابن تَغْري بَرْدي في (النجوم الزاهرة، 5/299):
” ولم يصفُ بين الخليفة والوزير عيش قطّ، وجرت بينهما أمور؛ وثبت عند ابن سلاّر كراهة الخليفة فيه، فاحترز على نفسه منه، وأقام كذلك أربع سنين وبعض الخامسة “.
وكان من الطبيعي أن يحصل التنافر بين الخليفة ووزيره، لأنهما كانا على طرفي نقيض فكراً وانتماء وسلوكاً، فالخليفة الظافر شيعي فاطمي، يهمّه ترسيخ النفوذ الشيعي الفاطمي، والوزير العادل سنّي شافعي، راح يعمل جهاراً لنشر الفكر السني الشافعي، والخليفة- حسبما قال الذهبي في (تاريخ الإسلام، أحداث سنة 548 ﮪ)- ” كان شاباً، صبياً، لعّاباً، له نهمة في الجواري والأغاني “، وكان العادل عسكرياً جادّاً، حازماً، لا يحب الهزل، كما كان متعصباً للمذهب الشافعي، فأثار عليه نقمة الخليفة الظافر ورجال دولته.
وهكذا صار كل من الخليفة ووزيره يرتاب في الآخر، ويتوهّم أنه يدبّر أمر قتله، فأحاط العادل نفسه بحوالي ستمئة من الحرس الخاص المدجّجين بالسلاح، وجعلهم نوبتين، يمشون معه حيثما تنقّل، وكان للخليفة خمسمئة حارس من غلمان (صبيان الخاص)، وفيهم من هو أمير؛ قال المقريزي في (اتعاظ الحنفا، 1/276):
” فبلغ ابن السلاّّر أنهم قد تحالفوا وتعاقدوا على أن يهجموا عليه وهو في داره ليلاً ويقتلوه. فلما كان في سادس عشر رمضان أغلق القاهرة والقصور، وأحاط بصبيان الخاص وقتلهم؛ وفرّ منهم عدّة، فكتب إلى الولاة بقتل من ظفر به منهم. وأخذ يتبعهم حتى أتى على أكثرهم “.
شخصيته
ما كان العادل ليستطيع أن يثبت وجوده في مصر لولا اتصافه بخصال متميّزة، فقد كان العصر عصر (البقاء للأقوى)، وكان الأكثر جدارة هو الذي يفرض على الآخرين مكانته، ولم تكن تلك الخصال طارئة على شخصية العادل، وإنما كانت إرثاً انتقل إليه من والده السلار كما سبق القول، قال ابن خلَّكان في (وفيات الأعيان، 3/417):
” وكان [ابن السلار] شهماً مقداماً، مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمّر بالقاهرة مساجد، ورأيت بظاهر مدينة بَلْبِيس مسجداً منسوباً إليه، وكان ظاهر التسنّن، شافعي المذهب، ولما وصل الحافظ أبو طاهر السَّلَفي، رحمه الله تعالى، إلى ثغر الإسكندرية المحروس وأقام به،… احتفل به، وزاد في إكرامه، وعمّر له هناك مدرسة فوّض تدريسها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، ولم أر بالإسكندرية مدرسة للشافعية سواها “.
وإلى جانب هذه الخصال كان العادل يتصف بالقسوة والبطش، وصحيح أن بطش الحكّام كان أمراً عادياً في ذلك العصر، وفي ذلك المُناخ السلطوي، لكن بطش العادل كان يأخذ أحياناً أشكالاً رهيبة، قال ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب، 4/149):
” وكان ابن السلاّر سنياً شافعياً شجاعاً مقداماً، بنى للسلف مدرسة معروفة، لكنه جبّار عنيد، ظالم شديد البأس، صعب المراس “.
وجاء في (سير أعلام النبلاء) للذهبي:
” وكان علي بن السلار من أمراء الأكراد، ومن الأبطال المشهورين، سنياً مسلماً، حسن المعتقد شافعياً، خمد بولايته نائرة [عداوة] الرفض [التشيّع]،… واحترم السَّلَفي، وأنشأ له المدرسة العادلية، إلا أنه كان ذا سطوة، وعسف، وأخذٍ على التهمة “.
وقال ابن خلّكان يذكر قسوة العادل (وفيات الأعيان، 3/417):
” وكان مع ﮪذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاطعة، يؤاخذ الناس بالصغائر والمحقَّرات [توافه الأمور]“ز.
وأورد ابن خلكان وغيره أن العادل قبل تولّيه الوزارة كان قد شكا إلى رئيس الديوان القاضي الموفّق أبي الكرم غرامة لزمته، فلم يعبأ به الموفق، فأعاد العادل عليه الطلب، فقال له الموفّق:” والله إن كلامك ما يدخل في أذني أصلاً “. فخرج العادل من عنده غاضباً، حتى إذا تولّى الوزارة، طلب إحضار الموفّق الذي كان قد تخفّى، وعاقبه بإدخال مسمار ضخم في أذنه، وكان كلما دخل المسمار في أذن الموفّق استغاث، فيقول له العادل:” دخل كلامي في أذنك بعدُ أم لا”؟!
مصرع الوزير
مر أن العادل ابن السلار تزوّج من والدة عباس الصنهاجي، ورزق عباس ولداً سماه نصراً، وكان نصر عند جدته في دار العادل، والعادل يحنو عليه ويعزه، وكانت بين الخليفة الظافر ونصر علاقة حميمة، إلى درجة غير عادية، وكان كلا منهما وسيماً مليح الشكل، ولم يرتح العادل إلى هذه العلاقة بين الخليفة ونصر، ونصح عباساً بأن يكبح جماح ابنه، لكن استمر الظافر ونصر على حاليهما، وقيل إن الظافر حرّض نصراً على قتل العادل زوج جدته، لكن ابن خلّكان وغيره ممن كتب سيرة العادل أوردوا خبراً مفاده أن الأمير العربي أسامة بن منقذ هو الذي حرّض عباساً وولده نصر على اغتيال العادل، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 3/417):
” ثم إن العادل جهز عباساً إلى جهة الشام بسبب الجهاد، وكان معه [عباس] أسامة بن منقذ، فلما وصل إلى بلبيس وهو مقدم الجيش الذي صار في صحبته تذاكرا طيب الديار المصرية وحسنها وما هي عليها، وكونه يفارقها ويتوجّه للقاء العدو،… فأشار عليه أسامة على ما قيل بقتل العادل، ويستقل هو بالوزارة،… وتقرر بينهما أن ولده نصراً يباشر ذلك إذا رقد العادل، فإنه معه في الدار، ولا يُنكَر عليه ذلك؛ وحاصل الأمر أن نصراً قتله على فراشه يوم الخميس سادس المحرم سنة ثمان وأربعين وخمسمئة، بدار الوزارة بالقاهرة المحروسة، رحمه الله تعالى “.
ويستفاد مما أورده المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا)، ومما أورده الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه (تاريخ الفاطميين) أن أكثر من حرّض على قتل العادل شخصان: الخليفة الظافر، وكان بينه وبين العادل نفور كما سبق القول، وأسامة بن مُنقذ، وكان أسامة صديقاً لعباس، وقد لاحظ نقمة عباس على الوزير، لتكليفه بقيادة الجيش إلى لقاء العدو، وحرمانه من ملذات العيش في القاهرة، فحثّ عباساً على أن يستغل التنافر بين الخليفة والعادل، ويقتل العادل، ويستقل بالوزارة، ولقيت نصيحة أسامة قبولاً عند عباس، فكلّف ولده نصراً بالمهمة، ونفّذ نصر المهمة بنجاح، وكان العادل قد أمضى في الوزارة ثلاث سنين وستة أشهر.
الانتقام
وفور مقتل العادل رجع عباس بالجيش إلى القاهرة، وعيّنه الخليفة في منصب الوزارة، لكن أثارت عملية القتل حنق أنصار العادل، فشغبوا عليه، وخرجوا من مصر قاصدين الشام، كما أن أهل السنّة لم يرضوا بقتل العادل، وأسرّوا ذلك في نفوسهم، واستوحش بعض الأمراء من أسامة بن منقذ، حتى إنهم همّوا بقتله.
وسرعان ما دبّ الخلاف بين حلفاء الأمس، فتخاصم عباس وابنه نصر، بعد أن نقل أسامة إلى عباس شائعة مفادها أن الظافر يفعل مع نصر ما يفعل مع النساء، كما أن الظافر راح يحبك المؤامرات ضد وزيره الجديد، لأنه لم يكن مخلصاً في تشيّعه، حتى إنه حرّض صديقه نصراً على قتل والده، فقرر عباس أن يتغدّى بالخليفة قبل أن يتعشّى هو به، فنقل خبر الشائعة إلى نصر، فغضب نصر، وقرر الأب والابن، بتأييد من صديقيهما أسامة، الفتك بالخليفة، فاغتالاه في النوم بينما كان نائماً في قصر نصر، إثر زيارة ليلية سرية، ثم فتكا بكل من جبريل ويوسف أخوي الخليفة، بعد اتهامهما بقتل أخيهما، وأجلسا مكانه ابنه عيسى وهو طفل، ولقّباه (الفائز بنصر الله).
على أن أمر قتل العادل وقتل الظافر لم يمر بسهولة، وذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه (تاريخ الفاطميين، ص 415- 416) أن جماهير القاهرة عرفت الحقيقة، ونشبت الاضطرابات في الشوارع، وألقى الناس الحجارة على عباس وابنه، واعتزلهما الأعوان، فهربا مع أسامة قاصدين بلاد الشام، حاملَين معهما الأموال والتحف، ونهب العامة دُورهما، وفي الطريق انقضت عليهم القوات الفرنجية، فأفلت أسامة، وفرّ إلى بلاد الشام، ولقي عباس مصرعه، ووقع نصر في الأسر، وعرض نساء قصر الخلافة على الفرنجة ثلاثين ألف دينار مقابل إعادة نصر إلى مصر، فقبل الفرنجة العرض، وسيق نصر مكبّلاً إلى القاهرة، فشُنق على باب زويلة.
– – –
وثمة سؤالان يتبادران إلى الذهن:
– الأول: هل استشف الخليفة الظافر أن وزيره العادل يعمل لنشر الفكر الشافعي، ولاستعادة المذهب السني في مصر، ليُلحقها من ثَم بالخلافة العباسية، ويقضي على الدولة الفاطمية؟
– والثاني: هل كان العادل يسعى فعلاً في ذلك الاتجاه؟
إن كل من كتب عن العادل يؤكد أنه كان يُظهر تسنّنه، وأنه كان مهتماً بنشر الفقه الشافعي السني في مصر، ولذا احتفى بالحافظ أبي طاهر السلفي، وبنى له المدرسة العادلية، وفوّض إليه أمر التدريس فيها، وكان القادة الفاطميون خير من يدرك دور الفكر في التهيئة للانقلابات الإيديولوجية، ودور هذه الأخيرة في التحضير للتحوّلات السياسية، وما كانوا ليقبلوا بأن يجلس العادل في حضنهم، ويبدأ في نتف لحاهم كما يقول المثل الكردي، وأحسب أن صداقة الظافر الحميمة مع نصر ربيب العادل كانت مبرمجة للقضاء على الوزير المتمرد.
وحققت الصداقة أهدافها.
المراجع
ابن تغري بَردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935 م.
ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
الذهبي: تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، تحقيق محمد محمود حمدان، القاهرة، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1985 م.
ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، 1970 م.
الدكتور محمد سهيل طقوش: تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.
المقريزي: اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، تحقيق جمال الدين الشيال، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1996 م.
وانظر:
– الدكتور إبراهيم رزق الله أيوب: التاريخ الفاطمي السياسي، الشركة العالمية للكتاب، لبنان، الطبعة الأولى، 1997 م.
– الباخرزي: دمية القصر وعصرة أهل العصر، تحقيق سامي مكي العاني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971 م.
– الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981 م.
– الدكتور محمد جمال الدين سرور: تاريخ الدولة الفاطمية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1994 م.
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والثلاثين.
د. أحمد الخليل في 02-03-2007
[1]