مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة السادسة والثلاثون ) الجغرافي الرحّالة: ابن حَوْقَل النَّصِيبي (القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر الميلادي)
د. أحمد الخليل
هل نمتلك وعياً جغرافياً؟
نعم، بكل تأكيد.
إن كل فرد منا يمتلك وعياً جغرافياً ما.
فهل من فلاح لا يعرف موقع أرضه؟!
وهل من راع لا يعرف مواقع المراعي الخصبة؟
وهل من تاجر لا يعرف مواقع البلدان التي يتاجر إليها؟
وهل من فقيه لا يعرف مواقع الأماكن والمدن والمعابد المقدسة؟
وهل من ناقد لا يعرف البيئات والبلدان التي نشأ فيها الأدباء؟
وهل من مؤرخ لا يعرف المناطق التي دارت فيها الأحداث التاريخية؟
وهل من سياسي قدير لا يعرف جغرافيا بلاده وجغرافيا البلاد الأخرى؟
– – – –
وليس الوعي الجغرافي حكراً علينا نحن البشر.
وإنما تشاطرنا الحيوانات هذا الوعي أيضاً.
بلى، إن الحيوانات أيضاً تمتلك قدراً ما من الوعي الجغرافي.
لاحظوا الطيور وهي تهاجر من البلاد الباردة إلى البلاد الدافئة.
ولاحظوا النملة وهي تحمل حبة قمح إلى مسكنها.
ولاحظوا النحلة وهي تحمل الرحيق إلى خليتها.
ولاحظوا السباع وهي ترتاد البقاع التي تكثر فيها الطرائد.
– – – –
أجل، إننا جميعاً نمتلك وعياً جغرافياً بالفطرة.
ولولا ذلك الوعي الجغرافي لما تكيّفنا مع بيئاتنا.
ولولا تكيّفنا مع بيئاتنا لما قدرنا على الاستمرار في الحياة.
وإن وعياً جغرافياً أفضل يعني فرصة للحياة أفضل.
وبقدر تنازلنا عن الوعي الجغرافي نتنازل عن الحياة نفسها.
الحاجة والاختراع
وصحيح أننا جميعاً نمتلك وعياً جغرافياً.
لكن وعينا الجغرافي متفاوت من حيث المستوى.
فالوعي الجغرافي عند الحيوان هو غيره عند الإنسان.
والوعي الجغرافي عند الراعي هو غيره عند التاجر.
والوعي الجغرافي عند المؤرخ العادي هو غيره عند من يهتم بفلسفة التاريخ.
والوعي الجغرافي عند السياسي العادي هو غيره عند السياسي الإستراتيجي.
وهكذا دواليك.
– – – –
وقد قيل: الحاجة أم الاختراع.
ومع انتقال البشرية من ثقافة القنص إلى ثقافة الرعي.
ثم انتقالها من ثقافة الرعي إلى ثقافة عصور الزراعة.
ثم انتقالها من عصور الزراعة إلى العصر الصناعي.
ثم انتقالها من العصر الصناعي إلى عصر الفضاء.
كانت الحاجات تتطوّر وتتغيّر.
واختفت حاجات، وظهرت حاجات.
وكان من الطبيعي ألا يراوح الوعي الجغرافي مكانه.
وأن يتحوّل الوعي الجغرافي العفوي إلى (علم الجغرافيا).
وقبل حوالي ستمئة عام ما كان أبناء العالم القديم (آسيا، إفريقيا، أوربا) يعرفون شيئاً عن قارة كبرى في أقصى الجنوب الشرقي، هي أوستراليا، ولا يعرفون شيئاً عن قارتين كبيرتين أخريين في أقصى الغرب، وهما أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. وها نحن أولاء اليوم نضع خريطة العالم أمامنا، ونضع أصابعنا على أصغر جزيرة في العالم، ونحدّد عليها موقع أعلى جبل، وأطول نهر، بل تجاوزت اهتماماتنا جغرافيا الأرض، فرحنا نبحث في جغرافيا القمر وإخوانه من الكواكب.
وهل كان ذلك إلا بفضل علم الجغرافيا؟
وهل كان علم الجغرافيا نفسه إلا سليل الوعي الجغرافي؟
– – – –
ونقف الآن عند أحد الجغرافيين القدماء.
إنه الجغرافي الرحّالة ابن حَوْقَل النَّصِيبي.
صاحب كتاب (صورة الأرض)؟
فماذا عن سيرته الشخصية؟
وماذا عن جهوده الجغرافية؟
نَصيبين
نَصيبين (وتُلفظ نِصيبين أيضاً) اسم لأكثر من موضع.
فقد ذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) أن (نصيبين) اسم قرية من قرى حلب، وأن (تل نصيبين) أيضاً من نواحي حلب، وقال:” ونصيبين أيضاً مدينة على شاطئ الفرات كبيرة تعرف بنصيبين الروم، بينها وبين آمد [ديار بكر] أربعة أيام أو ثلاثة، ومثلها بينها وبين حَرّان، ومن قصد بلاد الروم من حرّان مرّ بها “.
على أن نصيبين المشهورة في كتب البلدان وفي كتابات المؤرخين ليست واحدة مما مر ذكرها، وإنما هي مدينة كردية تقع الآن في جنوب شرقي تركيا، بمحاذاة مدينة قامشلي السورية تماماً، وإلى هذه المدينة ينتمي ابن حَوْقل.
فماذا إذاً عن نصيبين هذه؟
قال ياقوت الحموي في وصفها (معجم البلدان، 5/334- 335):
” مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها، على ما يذكر أهلها، أربعون ألف بستان، بينها وبين سِنْجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستة أيام، وبين دُنَيْسر يومان، عشرة فراسخ، وعليها سور كانت الروم بنته، وأتمّه أنوشروان الملك عند فتحه إياها، … وسار عِياض بن غَنْم إلى نصيبين، فامتنعت عليه، فنازلها حتى فتحها على مثل صلح أهل الرُّها،… ويُنسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان، منهم… أبو القاسم النَّصيبي الحافظ، قدم دمشق وحدّث بها في سنة 344 ﮪ “.
والحقيقة أن مدينة نصيبين كانت مهمة على الصعيد الإستراتيجي منذ عهود الحروب الفارسية- الرومانية، ففي القرن الأول قبل الميلاد كان الرومان قد اتخذوا منها قاعدة عسكرية لهم في حروبهم ضد الأشگان (البرث) من جانب، وضد الأرمن من جهة ثانية، وظلت المناطق المتاخمة لنصيبين تشكل الحدود الفاصلة بين الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وقد اجتاح الساسانيون الممتلكات البيزنطية، مخترقين الحد الفاصل بين الإمبراطوريتين، ومسيطرين على البلاد الكردية وسوريا الكبرى، وكان ذلك في عهد كسرى أبرويز بين سنتي (603 – 628 م)، لكن ما لبث الإمبراطور البيزنطي هرقل أن حقق نصراً حاسماً على أبرويز سنة (7 ﮪ/628 م)، ثم دخل في مفاوضات ناجحة مع القائد الفارسي شهرباراز، وفرض شروط الصلح، معيداً الحدود البيزنطية إلى عهدها السابق (ولتر كيغي: بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، ص 69 ،70، 112).
حرب بالعقارب
وفي جغرافيا العالم القديم كانت المدن تستمد أهميتها من أمرين اثنين:
– الأول عسكري.
– والثاني اقتصادي، تجاري.
ويبدو أن نصيبين كانت تتصف بهاتين الميزتين، وإلا لما اتخذ منها الرومان قاعدة كبرى لهم في أقصى حدود شرقي الإمبراطورية، ولما ظل الأمر كذلك طوال العهد البيزنطي، وفي سنة (18 أو 19 ﮪ/ 639 م أو 640 م)، وبعد أن فتح العرب المسلمون سوريا الكبرى، توجّه عِياض بن غَنْم إلى فتح بلاد الجزيرة، فكانت نصيبين من جملة المدن التي فُتحت صلحاً، وقيل: بل فُتحت عَنوة (البلاذري: فتوح البلدان، ص 179).
وصحيح أن نصيبين اشتهرت بعقاربها القاتلة، لكنها كانت عقارب مستوردة حسبما ذكر ياقوت الحموي، فقد حاصرها الملك الفارسي أنو شروان، فاستعصت عليه، فأمر بجمع العقارب من أماكن أخرى، ثم أمر بوضع العقارب في قوارير، ورمي تلك القوارير على المدينة بالمنجنيق، فكانت القوارير تتكسر، وتخرج منها العقارب، وتنتشر في البيوت، وتؤذي الناس، الأمر الذي أجبر السكان على الاستسلام للفرس، وإذا صح هذا الخبر تكون هذه من أقدم الحروب التي كانت الحشرات فيها هي السلاح الفتّاك.
على أن ابن حوقل يعطينا صورة أخرى لنصيبين موطن أجداده، فقد قال في معرض حديثه عن إقليم الجزيرة (صورة الأرض، ص 191):
” وكان من أجلّ بقاع الجزيرة، وأحسنِ مدنها، وأكثرِها فواكه ومياهاً ومتنزَّهاتٍ وخضرةً ونضرة، إلى سَعة غلاّت من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة على حدّ الرخص، نصيبين، وهي مدينة كبيرة، في مستواة من الأرض، ومخرج مائها عن شِعب جبل يُعرف ببالوسا، وهو أنزه مكان بها، حتى ينبسط في بساتينها ومزارعها، ويدخل إلى كثير من دورها، ويُغدق البرك التي في قصورها، وكان لهم مع ذلك فيما بعُد من المدينة ضياع مَباخس [لعل المعنى: رخيصة] كبار جليلة عظيمة غزيرة السائمة والكُراع [الغنم والبقر]، دارّة الغلاّت والنتاج، معروفة الفرسان، مشهورة الشجعان، إلى ديّارات للنصارى وبِيَع وقلاّيات، تُقصد للنزهة، وتُنتجع للفرجة والفَرَج. ولم تزل على ما ذكرته مُذ أوّل الإسلام معروفة بكثرة الثمار ورخص الأسعار، تتضمّن بمائة ألف دينار، إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة، فأكبّ عليها بنو حمدان بضروب الظلم والعدوان،… “.
من هو ابن حوقل؟
إذاً لم تقدر العقارب على تشويه صورة نصيبين الجميلة.
ولن تفلح في أن تمنعنا من تعرّف ابن حوقل.
أما اسمه فهو أبو القاسم محمد بن علي البغدادي الموصلي المشهور بابن حوقل، ويبدو أن عليّاً والد ابن حوقل، أو أحد أجداده، نزح من نصيبين إلى بغداد عاصمة الخلافة، وكانت من أهم عواصم التجارة العالمية في ذلك الزمن، وقد ولد الطفل محمد في بغداد، ونشأ بها، والأرجح أنه ينتمي إلى أسرة كانت تحترف التجارة؛ إذ نجد في المصادر أن محمداً (ابن حوقل) قد مارس التجارة في الموصل فترة من الزمن، ومن المفيد ها هنا أن نأخذ في الحسبان أن نصيبين تقع شمال شرقي الموصل، على الطريق التجاري الرئيس الذي كان يربط الموصل والعراق عامة بالأناضول وبشمالي سوريا، ومن هناك بالموانئ الواقعة على البحر الأبيض المتوسط.
ولم نجد في المصادر من دقّق النظر في هذا الاسم الغريب (حَوْقَل)، ترى هل كان اسماً أم كان لقباً؟ وهل كان في الأصل بالصيغة العربية (حَوْقَل)؟ فالحوقلة اسم منحوت من الجملة العربية (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ولم نجد في الأسماء العربية، رغم كثرة اطلاعنا على أسماء الأعلام، شخصاً سمي بهذا الاسم، ولا نعتقد أن ثمة أباً يسمّي ابنه باسم (حَوْقَل)، تعبيراً عن تشاؤمه بولادة طفله، ومكرراً عبارة: (لا حول ولا قوة إلا بالله )!
وما دمنا استبعدنا أن يكون (حَوْقَل) اسماً فلعله كان لقباً، ولعل والده عليّاً، أو أحد أجداده، كان يكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فحاز على هذا اللقب، ومع ذلك يبقى الأمر في دائرة الاحتمال والشك، ولا نجد قرينة تجعلنا ننتقل به من دائرة الشك إلى دائرة الترجيح. وأرى أن يأخذ البحث في اسم (حوقل) مساراً له صلة بالأسماء الكردية القديمة، على أن نعيد حرف (ح) إلى صيغته الكردي (ﮪ)، وحرف (ق) إلى صيغته المحتملة (ك، أو گ)، وأترك الأمر لمن له خبرة في هذا الباب.
اتجاه آخر
ومع ذاك دعونا نفكّر في اتجاه آخر.
ولنبتعد قليلاً عن ظلال وإيحاءات الصيغة العربية (حَوْقَل).
فأسرة ابن حوقل نصيبينة الموطن، وصحيح أن المنطقة الممتدة من بلدة (هِيت) قرب الأنبار على الفرات جنوباً، إلى إسْعَرْد (سِرْت) شمالاً، بما فيها الموصل ونصيبين، كانت تسمّى ديار ربيعة، نسبة إلى أنها كانت خاصة لقبائل ربيعة، يرتادونها بمواشيهم، حسب التقسيمات التي رافقت الفتوحات الإسلامية، (أبو الفداء: تقويم البلدان، ص 277 – 289. وابن حوقل: صورة الأرض، ص 188 – 189) وصحيح أن من أبناء قبائل ربيعة من سكن تلك المناطق، لكن لا شيء في نسبة ابن حوقل يدل على أن الرجل كان من أصل عربي، ولو كان من أصل عربي لوجدنا ذلك في نسبه، أو في بعض أقواله، أو في أقوال من ترجم له.
ومعروف أن العرب الأقحاح كانوا، وما زالوا، حريصين على الانتساب إلى عشائرهم وقبائلهم، وليس إلى القرى والمهن، وأذكر على سبيل المثال الفقيه الأصولي السيف الآمدي علي بن محمد التَّغْلبي (ت 551 ﮪ)، كان من مدينة فارقين الكردية، لكنه عربي من قبيلة تَغْلِب (ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/293 – 294)، والقاضي الأديب ناصح الدين التَّميمي الآمدي (ت نحو 550 ﮪ)، فهو من مدينة آمد ( ديار بكر) الكردية، لكنه عربي من بني تميم، (ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/177)، وأذكر الشاعر ابن نُباتة محمد بن محمد الجُذامي الفارقي المصري (ت 768 ﮪ)، فهو من مدينة فارقين، وأقام بمصر، لكنه عربي من قبيلة جُذام، (الزركلي: الأعلام، 7/38).
وليس ابن حوقل تركمانياً، إذ المعروف أن التركمان كانوا حينذاك يقيمون في مواطنهم الأصلية شرقي بحر قزوين، وما توجّهوا غرباً نحو العراق وكردستان والأناضول إلا في القرن الخامس الهجري؛ ففي سنة (429 ﮪ/1037 م) أغارت طائفة من التركمان الغُز (الأُوغوز) على كردستان، ثم تبعهم التركمان السلاجقة حوالي سنة (450 ﮪ) (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/609).
وقد يتبادر إلى الذهن أن يكون ابن حوقل من أصل سرياني، فهم أيضاً من سكان تلك المنطقة، لكنهم في الحقيقة كانوا وما زالوا قلّة، هذا عدا أن السريان ظلوا على المسيحية، ولم يعتنقوا الإسلام إلا بصورة محدودة جداً، في حين أن معظم الكرد اعتنقوا الإسلام، ربما لأسباب سياسية تتلخص في حماية أنفسهم من تهديد الروم البيزنطيين، وكان هؤلاء مسيحيين، في حين كان الكرد قبل الإسلام زردشتيين، وكانوا يقاومون النفوذ البيزنطي. وربما أنهم وجدوا في الإسلام ديناً قريباً جداً من عقيدتهم الزردشتية، وهذه حقيقة يعرفها كل من يجري مقارنة بين العقيدتين.
وهكذا لم يبق أمامنا إلا ترجيح أن يكون ابن حوقل من أصل كردي، أما كردستانيته، أقصد كونه من منطقة كردية، فتلك حقيقة لا ريب فيها، أما قول مينورسكي في مقالة له بعنوان (الجغرافيون والرحّالة المسلمون): ” كان ابن حوقل عربياً من نصيبين ” فهو قول بلا دليل ولا سند، ولا أستبعد أن يكون مترجم المقالة الدكتور عبد الرحمن حميدة هو الذي أحلّ كلمة (عربي) بدل كلمة (مسلم)، فللمترجم كتاب سمّاه (أعلام الجغرافيين العرب)، ومعظم الجغرافيين الذين تحدث عن أعمالهم غير عرب، كالإصْطَخْري، والجِيهاني، وابن خُرْداذْبه، وناصر خسرو، وآخرين.
تاجر.. ورحّالة وجغرافي
كان ابن حوقل تاجراً محترفاً، ولم تقتصر نشاطاته التجارية على العراق، أي أنه لم يكن من التجار المحليين حسب المصطلحات المعاصرة، وإنما كان تاجراً عابراً للقارات، وكان في الوقت نفسه مثقفاً، مهتماً بالعلم وجمع المعلومات، ولا سيما المعلومات الجغرافية ذات الصلة بمهنته، وقد جاء في ترجمته أنه كان مولعاً بقراءة كتب البلدان، مثل كتب الجِيهاني وابن خُرداذْبه، وكان يتشوّق إلى التجول في البلدان، متخذاً التجارة مهنة له، وراغباً في دراسة البلاد والشعوب.
وقد بدأ ابن حوقل الرحلة من بغداد سنة (331 ﮪ/943 م)، متجهاً شرقاً نحو بلاد فارس، والتقى سنة (340 ﮪ/952 م) بالجغرافي الشهير الإصْطَخْري أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي المعروف بالكَرْخي (ت نحو 346 ﮪ)، صاحب كتاب (المسالك والممالك)، فطلب منه الإصطخري أن يعيد النظر في كتابه ويتممه، فقبل ابن حوقل القيام بتلك المهمة، لكنه قرر في النهاية أن يقوم بنفسه بعمل كتاب جديد في المسالك والممالك، يصهر فيه ما جاء في كتاب الإصطخري، ويضيف إليه معلوماته الشخصية، ويُعتقد أنه أنجز هذا الكتاب سنة (367 ﮪ/977 م).
وأمضى ابن حوقل في رحلاته زهاء ثلاثين سنة، تجوّل خلالها في أرجاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، من نهر السند حتى ضفاف الأطلسي، وشملت رحلاته مناطق شاسعة من قارات العالم القديم الثلاثة (آسيا، وأوربا، وإفريقيا).
أما في آسيا فكانت له معرفة بالعراق عن كثب، وكان يعرف إيران وشطراً من الهند، كما أنه جاب ربوع مصر والشام، وزار منطقة البحرين (كان اسم البحرين يطلق قديماً على الساحل الغربي من الخليج العربي) وزار الأحساء (شرقي المملكة العربية السعودية)، ووصف النظام الاجتماعي للدولة القُرْمُطية التي كانت قائمة حينذاك هناك، ونمط الحكم فيها.
وأما في أوربا فدخل بلاد البلغار، ووصل إلى أواسط نهر الفولغا في روسيا، طلباً للتجارة، ورغبة في دراسة البلاد وسكانها، وذكر انتصار الروس على البلغار والخزر سنة (358 ﮪ/969 م)، كما زار الأندلس (إسبانيا)، وزار إيطاليا، ولا سيما ناپولي وپالرمو التي تجول فيها سنة (363 ﮪ).
وأما في إفريقيا فهو يُعدّ الخبير الأول، من بين الجغرافيين المسلمين، بشؤون بلدان شمالي إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، إضافة إلى أنه كتب وصفاً مفصلاً لمنطقة البجة وتاريخهم ومنطقة أرتيريا في شرقي إفريقيا.
على أن اتصال ابن حوقل بالفاطميين حمل بعض المستشرقين، مثل دوزي الهولندي، إلى اتهامه بالتجسس لحسابهم في الأندلس، إذ كانوا يتطلعون إلى الاستيلاء عليها في فترة من الفترات، ونهج الزركلي نهج دوزيه فقال ” ويقال: كان عَيْناً للفاطميين ” (الزركلي: الأعلام، 6/111). ولم يقدّم أحد دليلاً على صحة هذه التهمة، وأحسب أن تعصّب بعض القدماء للخلافة العباسية السُّنّية، وحنقه على الخلافة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية، قاده إلى اختراع هذه التهمة، ولا سيما أن الفاطميين كانوا قد بسطوا نفوذهم على غربي العالم الإسلامي، من مصر إلى المغرب، وهي المنطقة التي اتخذها ابن حوقل ميداناً لرحلاته وكتاباته الجغرافية.
كتاب صورة الأرض
اشتهر ابن حوقل بمؤلف وحيد هو كتاب (المسالك والممالك)، وشاع أخيراً بصيغة (صورة الأرض)، وقد أودع ابن حوقل في كتابه هذا كل معارفه الجغرافية، وما جمعه من معلومات قرأها في كتب الجغرافيين السابقين، أو اطّلع عليها هو شخصياً خلال رحلاته الكثيرة، ومن هنا تأتي أهمية كتابه.
وقدّم ابن حوقل كتابه قائلاً (صورة الأرض، ص 7):
” هذا كتاب المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان على مر الدهور والأزمان، وطبائع أهلها، وخواصّ البلاد في نفسها، وذكر جباياتها وخراجها ومستغلاّتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، مسافة بين البلدان من للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار، والنوادر والآثار، … “.
والحقيقة أن حاجة الدولة الإسلامية إلى معرفة الأقاليم التابعة لها بيئة وسكاناً وموارد، كانت السبب في تأليف كتب (المسالك والممالك)، فلقد دعت الحاجة الإدارية والمالية والتنظيمية إلى وصف أقاليم الدولة، ومعرفة الطرق ومراحلها، والمسافات بين الأقاليم، والطرق التجارية والبحرية، والاهتمام بغلات الأرض ومعادنها، هذا فضلاً عن الرغبة في معرفة البلدان التي فُتحت وكيفية فتحها، وهي القضية التي فرضت نفسها على المسلمين مبكراً، لمعرفة التعامل مع أهل الذمة، وتوضيح مقادير خراجاتهم وجزيتهم.
وبتأثير من هذه الحاجة ظهر فريق من الجغرافيين عُرفوا باسم (الجغرافيين الرحّالة)، من أشهرهم: ابن خُرداذْبه صاحب أول مؤلف يحمل اسم (المسالك والممالك)، وقُدامة بن جعفر صاحب كتاب (الخَراج)، وابن رُسْتَه صاحب كتاب (الأعلاق النفيسة).
ومر أن ابن حوقل التقى بالإصطخري، وبمقارنة كتاب ابن حوقل بكتاب الإصطخري يظهر أن الأول يدين للثاني بأكثر مما يعترف به، فقد أخذ عنه مخططاته، فضلاً عن فصول برمتها، كالتي تتعلق بجزيرة العرب، والخليج العربي، وخوزستان، وفارس، وكرمان، وحوض نهر السند (جنوبي باكستان حالياً)، والدَّيْلم، وبحر الخزر، وهي فصول اكتفى ابن حوقل بأن أضاف إليها زيادات هامة، ولكنها مقتضبة جداً، كما استعار منه معظم الأبحاث المتعلقة بمصر وبلاد الشام والعراق وبلاد ما بين النهرين.
ومع ذلك كان لابن حوقل نهج رسمه لنفسه في تأليف كتابه؛ وهو أن يذكر بلاد الإسلام ” إقليماً إقليماً، وصُقعاً صُقعاً “، دون أن يغفل التأكيد على أن هذا التقسيم إنما هو تبويب تنظيمي فحسب، لأن الأقاليم الاثنين والعشرين التي انقسمت إليها الديار الإسلامية، وفق مخططه، إنما تندرج ضمن الأقطار أو الأمصار الرئيسة التالية: ديار العرب، والمغرب، ومصر، والشام، والجزيرة الفراتية أو جزيرة أقور (في كردستان الوسطى)، والعراق، وفارس، والسند، وأرمينيا، وأذربيجان، والجبال، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر.
ويلاحظ أن ابن حوقل تقيّد بالمسارين اللذين فرضتهما أو أفرزتهما الرحلة الجغرافية…، وهما: الجغرافية المقنّنة، ثم الانطباعات والمواقف التي توافرت عن طريق الملاحظة المباشرة، والمشاهدة، أو المعاينة والمعايشة، والوقوف على تلك الأمور شخصياً، وهذان اتجاهان أخذ بهما ممثلو الرحلات الجغرافية.
والتزم ابن حوقل المنهج التوثيقي، فقال يوضح ذلك (عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب، ص 212 – 213):
” وكنت إذا لقيت الرجل الذي أظنه صادقاً، وأخاله بما أسأله عنه خبيراً، فأجده عالماً عند إعادة الخبر الذي أعتقد فيه صدقه، وقد حفظت نسقه، وتأملت طرقه ووصفه، وأكثر ذلك باطلاً، وأرى الحاكي بأكثر ما حكاه جاهلاً، ثم أعاوده الخبرَ الذي ألتمسه والذكرَ، ليسمع الذي استوصفته، وأطالع معه ما صدر مع غيره في ذلك بعد رؤية، وأجمع بينها وبين حكاية ثالث بالعدل والسوية، فتتنافر الأقوال، وتتنافى الحكايات، وكان ذلك داعية إلى ما كنت أحسّه في نفسي بالقوة على الأسفار، وركوب الأخطار، ومحبة تصوير المدن، وكيفية مواقع الأمصار، وتجاور الأقاليم والأصقاع “.
اتجاهات جغرافية
لم يكن ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) أحادي النظرة، ولم يهتم بجانب من جوانب الجغرافيا على حساب الجوانب الأخرى، إنه عُني بتناول الجوانب الآتية:
أولاً: الجغرافيا الاقتصادية بكل ميادينها؛ أي الجغرافيا الزراعية، والجغرافيا
الصناعية، وجغرافيا التجارة، وجغرافيا الطرق والنقل التي تربط بلاد
العالم الإسلامي .
ثانياً: الجغرافيا البشرية، وهي تُعنى بدراسة الشعوب.
ثالثاً: الجغرافية الحيوية، وهي تعنى بدراسة النبات والحيوان بصفة عامة.
رابعاً: الجغرافيا الطبيعية، وهي وصف الظاهرات التضاريسية والمناخية.
خامساً: جغرافية الأجناس البشرية أو جغرافيا السلالات البشرية.
كما أن ابن حوقل كان يركّز على الجغرافيا الإدارية، وهذا أمر أفرزته حاجة الدولة الإسلامية إلى معرفة العامر والغامر (غير العامر) من أرض الإسلام وخراجاتها.
وكانت طريقة ابن حوقل في معالجة القضايا السابقة تلامس العموميات فقط، دون أن يهتدي إلى التأثير المتبادل بين الإنسان وبيئته؛ وهذا أمر طبيعي في معظم كتب الجغرافيا الإقليمية عند المسلمين، كما أن اهتمامه بالمجالات السابقة تفاوت بين إقليم وآخر، إضافة إلى التناول السطحي لبعض الظاهرات الطبيعية (يوسف بن أحد حوالة: ابن حوقل ورحلاته الجغرافية،ص 22 – 26).
وثمة خلاف بين القدماء في السنة التي توفي فيها ابن حوقل، و ذكر الزِّرِكلي في كتابه (الأعلام، 6/111) أن ابن حوقل توفي سنة (367 ﮪ)، والحقيقة أن الرجل ترك بعده ما ينفع الناس، فإن لكتابه (صورة الأرض) قيمة علمية وتاريخية لا يستهان بها، ولا أحسب أن ثمة مكتبة هامة في بلاد العرب إلا وفيها نسخة أو أكثر من هذا الكتاب، ولا أحسب أن ثمة باحثاً تهمّه معرفة جغرافيا العالم قديماً، إلا ويجد نفسه بحاجة إلى ما كتبه ابن حوقل، وقد أفدت منه شخصياً في كتابة بعض حلقات هذه السلسلة، كما أنني اعتمدت عليه كثيراً في كتابي (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية). فجزاه الله عن العلم والباحثين خير الجزاء.
المراجع
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.
البلاذري: فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.
ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.
ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 9، 1990
الدكتور عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم، دار الفكر، دمشق، 1984م.
أبو الفداء: تقويم البلدان، دار الطباعة السلطانية، باريس، 1840م.
م. ف. مينورسكي: الجغرافيون والرحّالة المسلمون، ترجمة أ. د. عبد الرحمن حميدة، رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الكويت، العدد 73، 1985م.
ولتر كيغي: بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، ترجمة نقولا زيادة، قدموس للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2002 م.
ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
الدكتور يوسف بن أحمد حوالة: ابن حوقل ورحلاته الجغرافية للجناح الغربي من الدولة الإسلامية، رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الكويت، العدد 142، 1992م.
وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والثلاثين.
د. أحمد الخليل في 19-03-2007
[1]