من كفري مفري إلى جصان مصان
محمد مندلاوي
في سني حكم العروبيين للعراق، كان الكورد في جنوبي كوردستان يخسرون مدنهم واحدة تلو الأخرى، نتيجة سياسة الاضطهاد و التعريب التي كانت سائدة ضدهم من قبل الأنظمة العروبية العنصرية، حيث كانت تلك الأنظمة تأتي من المنطقة الغربية و الجنوبية من العراق بعشائر عربية وتستوطنهم في تلك المدن الكوردية لتغيير ديموغرافيتها. لكن للأسف الشديد نرى الآن أن الحكومة و الأحزاب الكوردستانية تتخلى طواعية عن تلك المدن الكوردية للمستوطن العربي، الذي استولى على هذه المدن بالقتل و بالإرهاب على سبيل المثال كمدينتي بدره وجصان و مدن و مناطق أخرى. من لا يصدق فليراجع دستور إقليم كوردستان، الذي وضع على الرف إلى إشعاراً آخر، الذي تنكر لهذه المدن ولم يذكرها لا في فقرة ولا في بند. لمعرفة هذه التداعيات الخطيرة، سنعرج قليلاً على بعض الأحداث الكبيرة، التي جرت في السبعينيات من القرن الماضي والتي لها علاقة بموضوعنا.
في سنة (1975) على اثر اتفاق الجزائر التآمري، الذي حيك في الجزائر بين المقبورين شاه إيران (محمد رضا پهلوي) ونائب الرئيس العراقي المجرم (صدام حسين)،و بإشراف مقبور ثالث هو الرئيس الجزائري (هواري بومدين)، وبموافقة و مباركة أمريكية كان سمسارها آنذاك وزير خارجيتها (هنري كيسنجر). لقد تنازل نظام حزب البعث العربي بقيادة المجرمين أحمد حسن البكر و صدام حسين لشاه إيران عن (90) كيلومتر من مياه شط (العرب)، وعن عدد من المناطق الحدودية التي تحتوي على آبار النفط، مقابل أن يقطع الشاه طريق المساعدات التي كانت تأتي للحركة التحررية الكوردستانية و محاصرتها، ليسهل القضاء عليها. بعد حبك هذه المؤامرة الدنيئة ضد الشعب الكوردي استطاع النظام البعث الدموي و النظام الشاهنشاهي العميل، إلحاق نكسة بالحركة التحررية الكوردستانية، حيث توقفت العمليات العسكرية لقوات الپيشمرگة ضد قوات النظام العراقي لفترة وجيزة لم تتجاوز عدة أشهر، سرعان ما عادة الحركة التحررية الكوردستانية بعملياتها العسكرية على الساحة الكوردستانية، أقوى من ذي قبل، حيث باتت في كل يوم تدك مواقع قوات الجيش العراقي على أرض كوردستان الأبية، و أصبحت آنذاك تحت سيطرت الحركة التحررية الكوردستانية أراضي محررة تعادل مساحة دولة لبنان.
في سنة (1979) قاد الخميني ثورة ضد نظام الشاه العميل، و أطاحت به في نفس السنة، ثم غيًر آية الله الخميني النظام الشاهنشاهي إلى نظام الجمهوري الإسلامي، بعد هذه التغيرات الجذرية التي حصلت في إيران، رأى صدام حسين أن الفرصة مواتية لشن حرب على إيران، لاسترداد الأراضي و المياه التي تنازل عنها للشاه، وفق اتفاق الجزائر الخياني التآمري، فاستغل العداء الإقليمي و الدولي للنظام الجديد في طهران، و أوضاع إيران المتردية و غير المستقرة، بعد ثورة الشعوب الإيرانية التي لم تمر على انتصارها سنة واحدة، كل هذه العوامل التي لم تكن في صالح إيران أعطى صدام حسين حافزاً ليأمر جيشه في سنة (1980) ببدء هجوم واسع و مباغت على إيران، واحتلال أجزاء واسعة من أراضيها، لقد تصور صدام حسين أنه بهذه الحرب العبثية سيفرض شروطه التعجيزية على الجانب الإيراني، وأن الحكام الجدد في إيران سيرضخون له، لأنهم حديثي العهد في الحكم، ولا يملكون مقومات الصمود و المواجهة مع جيشه الجرار، وسيخرج منها بعد أيام قلائل ظافراً منتصراً، ويملئ قصوره بالجواري والغلمان و السبايا من الشعوب الإيرانية، كما فعل الغزاة الأوائل قبل (14) قرن، لكن خاب ظنه، حيث أن الحرب لم تضع أوزارها في أيام ولا شهور، بل هي استمرت ثمان سنوات، ودمر فيها ثروات العراق البشرية و الإقتصادية، و خرج منها العراق مدمر في كافة المجالات الحيوية، ومثقل تحت طائلة ديون قدر بعشرات المليارات الدولارات، والتي كانت، سبباً في إشعال حرب عبثية ثانية، ألا و هو غزو واحتلال دولة الكويت.هذه السياسات الرعناء ليست غريبة على هؤلاء العروبيين، قصيري النظر الذين لا يرون أكثر من أمام أقدامهم. لو كان صدام حسين يعرف سيكولوجية الإنسان الإيراني، قط لا يغامر بإعلان حرب هوجاء عليه، بكل بساطة، أن الفرد الإيراني، معروف بالتأني و طول الصبر على عوادي الزمن، الذاكرة العراقية تختزن الكثير من فرائد الأدب الحكيمة عن فراسة الإيرانيين هناك مثل شائع بين العراقيين يقول: الإيراني يذبح الإنسان بالقطن. بما أن الطاغية صدام كان بعيداً عن كلما هو عراقي فكان يجهل كل شيء عن شعب العراق و الشعوب المحيطة به بسبب هذا الجهل وقع المجرم صدام حسين في المحذور، و طال أمد حربه أكثر بكثير مما توقعه، و جرت رياح الحرب بما لا تشتهي سفن صدام. مررت على هذا التأريخ الدموي الذي جرى تفاصيله بين العراق و إيران و الذي اكتوى بنيرانها الشعب الكوردي، حيث كان أوار الحرب يدور في مناطقه، لأن أرض كوردستان تقع على جانبي حدود إيران والعراق، التي تمتد من سواحل الخليج إلى الحدود (التركية). بالإضافة إلى وقع ويلات هذه الحرب على الكورد، كانت هناك حرب إبادة غير معلنة، على الشعب الكوردي، في كلتا الدولتين، في شرق كوردستان (إيران) و جنوب كوردستان (عراق)، أبان تلك الحرب التي دامت ثمان سنوات، كانت للأحزاب و القيادات الكوردستانية، بعض الأدوار، تلعبها حسب الظروف و المعطيات، التي فرضتها تلك الحرب، منها المفاوضات التي جرت في سنة (1983)، بين الإتحاد الوطني الكوردستاني و الحكومة العراقية، و التي لم تسفر في النهاية عن أي شيء، أود هنا أنقل كلام سمعته بعد عقد من انتهاء تلك المفاوضات في شريط فيديو، لسكرتير الإتحاد الوطني الكوردستاني، وهو يتحدث لأعضاء حزبه، عن تلك المفاوضات و الإشكالات التي كانت تعترض نجاحها، ثم تطرق فيها، إلى المدن التي كانت عليها خلاف مع الحكومة العراقية، لكن سكرتير الاتحاد الوطني الأستاذ جلال الطالباني، تطرق إلى إحدى تلك المدن، بأسلوب يحط من قدسية الأرض الكوردية التي رويت بدماء هذا الشعب المكافح. قي الحقيقة لقد صعقت في حينها عندما سمعت ذلك الكلام الغير بريء، سوف نمر عليه في سياق المقال.
بعد أن رأى صدام حسين لا نهاية للحرب في المدى المنظور، وجيشه يتقهقر في جبهات القتال، لجأ إلى ممارسة أساليبه التكتيكية لكسب الوقت الذي لم يكن في صالحه، لهذا فتح باب المفاوضات مع الإتحاد الوطني الكوردستاني، في سنة (1983- 1984)، حيث جرت جولات من اللقاءات، بين الجانبين في بغداد، والتي لم تسفر عن أي شيء يذكر، سوى المراوغة و المماطلة من جانب صدام حسين و نظامه، وفي النهاية وصل الجانبان إلى طريق مسدود، وانتهت المفاوضات كسابقاتها، و بدأ القتال من جديد بين الإتحاد الوطني الكوردستاني و جلاوزة الحكم البعثي في العراق.
كما أسلفت بعد مضي عقد من الزمن على انتهاء المفاوضات، شاهدة شريط فيديو للأستاذ جلال طالباني، وهو يتحدث في اجتماع مع عدد من كوادر حزبه عن تلك المفاوضات، حيث تطرق فيه عن الخلافات التي كانت تعتري المفاوضات مع الجانب الحكومي حول بعض المدن التي تقع في گرميان، ومن ضمن تلك المدن مدينة كفري، لكن للأسف الشديد أن سكرتير الإتحاد الوطني الكوردستاني، الذي له بصمة على التاريخ الكوردي الحديث، عندما أشار إلى هذه المدينة الأبية، كان يشير إليها بأسلوب ينم عن التهكم بها حيث قال: لقد تحدثنا في إحدى الاجتماعات مع علي حسن المجيد (علي كيماوي)، عن الحدود الإدارية للمدن الكوردية مثل (كفري مفري). في الحقيقة صعقت في حينها، قلت في نفسي كيف لشخص بهذه الثقافة و الحنكة السياسية، يخرج منه مثل هذا الكلام عن مدينة كوردستانية، التي رويت كل شبر من أرضها بدماء الآلاف من أبناء وبنات الكورد الغيارى، الدارج بين عامة الناس مثل هذا الكلام البخس يقال عن أشياء ليست لها قيمة، على سبيل المثال نقول: (خيار ميار، شكر مكر، حسن مسن، بكر مكر) الخ، هذا النمط من الكلام يقال: في حالتين فقط، أولاً في الأشياء غير ذي قيمة وثانياً في الإنسان المحقر، أما يقول هذا الكلام قائد كوردي عن أقدس مقدسات الكورد، وهي أرض كوردستان المقدسة، الذي قدم و مازال يقدم الكورد أفواج تلو أفواج من الشهداء من أجل تحريرها من براثن الاحتلال، يأتي سكرتير الاتحاد الوطني ويصفها ب (كفري مفري) لا أعرف كيف يسمح قائد كوردي لنفسه أن يصف المدن و الأرض الكوردستانية الطاهرة بهذا الوصف ال....؟!. ألا يعلم الأستاذ جلال الطالباني إن جميع الشعوب التي تناضل من أجل تحرير أراضيها من نير الاحتلال هدفها الأول و الأخير هي أن تكون سيدة نفسها على أراضيها. حتى الأحاديث الدينية أعطت الأرض درجة عالية من القداسة، هناك حديث نبوي يقول: (من احتلت أرضه لا يقبل صلاته) يرى في هذا الحديث أن المصير الإنسان الأبدي وهي آخرته وضعها الإسلام في حفاظ و ذود ذلك الإنسان عن حياض أرضه ضد الاحتلال، وألا لماذا يقاتل الفلسطينيون طوال هذه السنين ويقدمون يومياً القتلى و الجرحى أليس من اجل أرض (فلسطين) التي لو تجمع مساحتها الضفة الغربية مع قطاع غزه ليست أكبر من مساحة المحافظة التي تضم كفري وحدها دون مفري.
سنتحدث عن مدينة كوردية أصيلة وهي جوهر موضوعنا، والتي حولها دستور الإقليم، (الملغي)، إلى مفري آخر، وهي مدينة جصان الكوردية و الكوردستانية. سنذكر نبذة مختصرة عن ناحية جصان التابعة لقضاء بدره، والتي تبعد عنها (15) كيلو متر، و تبعد عن مركز محافظة كوت (واسط) حدود (60) كيلو متر، و تقع في شمالها الغربي. قبل رسم الحدود بين العثمانيين الذين كانوا محتلين لولايات موصل و بغداد و البصرة و الإيرانيين، كانت جميع هذه المناطق التي تقع شرق نهر دجلة مع المناطق الأخرى في إيلام و كرمانشاه وخرم آباد في شرق كوردستان (إيران)، تشكل وحدة جغرافية واحدة لا يفصل بينهما أي شيء، وكذلك العشائر، كانت العشيرة الواحدة تنشر قراها وأفرادها من إيلام إلى الكوت، ومن كرمانشاه إلى مندلي، لكن بعد رسم الحدود المصطنعة الجائرة، قسمت الأرض و الشعب إلى قسمين، قسم في جانب ما سميت فيما بعد بالعراق، و القسم الآخر في إيران.
تقع بالقرب من جصان بالإضافة إلى بساتين النخيل مقالع للصخور و مواقع للجص، بعد خط الحدود بين إيران و العثمانيين صارت جزء من هذه المواقع، التي تستخرج منها الجص داخل الأراضي الإيرانية. تسكن عشيرة (گچینه) الكوردية بالقرب من مواقع الجص و كانت تعمل في صناعتها لذا أصبحت كنيتها فيما بعد (گچینه) أي الجصاصة، وتعني الكلمة الذين يصنعون الجص. من عادت الكورد إطلاق اسم المهنة على الشخص أو العشيرة كلقب. في اللغة الكوردية مادة الجص تسمى (گچ)، و تسمية الگج هي الأصح. إن اللغة العربية استعارت هذه التسمية من اللغة الكوردية، لأن العربية تفتقد إلى هذين الحرفين فلذا تقلب (الگاف – جيماً) و (الچاء – صاداً) فتصبح الكلمة (جص) بدلاً من (گچ)، لتوضيح أكثر حول كيفية قلب (الگاف) و(الچاء) نشير إلى اسم الآلة الموسيقية الكوردية القديمة التي اخترعها الكورد، و عزفوا عليها منذ أيام سومر، إلى يومنا هذا، و التي تسمى عند العرب ب (الصنج)، و اسمها الحقيقي هي (چنگ). كما أسلفت أن العرب يقلبون (الچاء – صاداً) و (الگاف – جيماً) فيصبح الاسم (صنج) بدل (چنگ)، و كلمة (الچنگ) في اللغة الكوردية، تعني الأصابع الخمسة، ومن خاصية هذه الآلة يتم العزف عليها بالأصابع في كلتا اليدين. نذكر مرجعاً مهماً من مراجع أئمة اللغة العربية، وهو عبد الله بن سليمان العتيق، يقول في كتابه (لمعرفة العجمة في اللغة العربية): إن حرفا الجيم و الصاد لا يجتمعا في الكلمة العربية، و أية كلمة عربية يوجد فيها هذان الحرفان تعتبر تلك كلمة معربة و دخيلة على اللغة العربية، ك (صولجان)، و ((الإجاص)) الخ. جاءت في القواميس اللغة العربية، كقاموس (محيط المحيط) لبطرس البستاني و (لسان العرب) لابن منظور و (المحيط) لأديب اللجمي و شحادة الخوري، أن (الإجاص) دخيل على اللغة العربية لأن (الجيم والصاد) لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.
في محافظة الكوت (واسط) هناك من اعترض على عودة جصان والمناطق المستقطعة الأخرى إلى إقليم كوردستان، نتوجه إلى هؤلاء السادة الأفاضل بسؤال وهو لو يتكرموا علينا و يكتبوا لنا خمس كلمات غير دخيلة في اللغة العربية الواسعة تضم (الجيم و الصاد) كالحرفين الموجودين في اسم جصان. ليس من الضير أن نذكر النهر الوحيد الذي يخترق أراضي جصان، و الذي يسمى من قبل أهل المدينة (گلال)، وهو اسم كوردي أصيل نابع من جلالة اللغة الكوردية اللهجة (الفيلية). يوجد عندنا في مدينة مندلي نهر شبيه لنهر گلال في جصان هو الآخر منبعه من جبال كوردستان و يسمى أيضاً (گلال).
رئيس إقليم كوردستان الأستاذ مسعود البرزاني، يصرح دائماً في وسائل الإعلام الكوردستانية قائلاً: أننا لم و لن نتنازل عن أية مدينة أو منطقة من كوردستان مهما كلف الأمر. بينما دستور الإقليم الذي كان من المؤمل يعرض على شعب كوردستان للاستفتاء عليه لكنه أُجل إلى (إشعاراً آخر) بطلب تليفوني من نائب الرئيس الأمريكي اللئيم بايدن، يقول غير هذا حيث لم يشمل الدستور مناطق كوردية أصيلة مثل بدرة و جصان و مناطق أخرى في گرمیان. المواطن الكوردستاني يتساءل من قادته ما الفرق بين بدره و كركوك؟ أليست الاثنتان أراضي كوردية؟. القادة الكورد يؤكدون في جميع تصريحاتهم على كوردستانية كركوك ولا يظهرون نفس الحماس عندما يتعلق الأمر بمناطق الكورد (الفيلية) كبدره و جصان، فإتباع هذا النهج غير السليم، يضع مصداقية القادة أمام شعبهم موضع تساءل. لأن أرض جنوب كوردستان من زاخو إلى جصان لها قدسية واحدة غير قابلة للتجزئة. لذا إن رئيس إقليم كوردستان واجبه الوطني يحتم عليه أن يحافظ على وحدة أرض إقليم كوردستان، و يقع على عاتقه مسؤولية تثبيت و صيانة حدود الإقليم في دستوره القادم ليشمل جصان و توابعها، وأية مساومة على هذه المدينة السليبة، تعني لنا نحن الكورد شيء واحد فقط، وهو أن رئيس الإقليم يتهكم بالحق الكوردي و يحول دستورياً جصان إلى مصان، مثلما حول قبله سكرتير الإتحاد الوطني الكوردستاني كفري إلى مفري.
[1]