المغنون في أورفا .. الغناء كفن جماعي
الكاتبة: وسام حسن
المصدر : كتاب Our Steppe is Vast
Kurdish epics and tribal stories from Urfa, 1906
Collected by Oskar Mann.
إن أقدم الدلائل على المغنيين الجوالين في منطقة أورفا قد ذكرها جيمس باكينغهام ، حيث قابل مغنيين كرداً في رحلته عام 1816, عندما كان يخيم في كاروان بين ماردين وأورفا. يقول:
“في المساء زارنا مغنيان من الشعب الكُردي, أحدهما كان يعزف على غيتار بدائي (ربما يقصد طنبور، المترجم), والأخر كان يغني بعض الأغاني الكردية المليئة بالحيوية التي لا تفتقر إلى الألحان الطبيعية.”
هكذا أغان محترفة يجب أن يتم النظر إليها على أنها جزء من التراث الغنائي الكردي الغني في الحياة اليومية…
شيخ بوزان برازي
لدينا معلومات عن الشيخ بوزان ، “الشاعر الدائم لقبيلة البرازية من سروج” أكثر مما نعلم عن الآخرين الذين تواصلوا مع أوسكار مانّ، وذلك ربما يعود إلى متانة التعاون وطول أمدها بين المغني والباحث. لحسن الحظ, فقد قام مان بالتقاط صورة للشيخ مما مكننا من تكوين صورة عن وضعه الاجتماعي. حيث يرتدي المغني قميصاً أبيض تحت ثوب سوري تقليدي مقلم, وحزاماً عريضاً مصنوعاً من القماش و عباءة إضافة الى غطاءَ رأسٍ بدوي وعقال, وهو الزي الذي كان سائداً في مطلع القرن العشرين والذي يبدو سميكاً كدرع. وفي يده اليسرى، ربما يحمل بوزان سيجارة أو مَبسمَ أركيلة، وهي من الإكسسوارت التي يحملها المرفهون من سكان المنطقة. يدل الزي البدوي على أن شيخ بوزان انتقل إلى العيش في المدينة بعد أن أصبح بالغاً، حيث أن سكان أورفا كانوا يرتدون الشروال مع الطربوش أو العمامة. عندما أريت صورته للذين قابلتهم من سروج قالوا أنه لا بد أن يكون من أفراد العشائر.
كتبت البعثات التبشيرية في أورفا عن الفقر المنتشر هناك وأشارت إلى أن ارتداء الثياب البالية والمتسخة كانت دارجة. أما ملابس شيخ بوزان فلا تبدو فقيرة, حتى لو كان قد ارتدى بشكل أنيق من أجل التصوير. إضافة لذلك، قام بدعوة مانّ إلى بيته وقدم له خروفاً مشوياً في إحدى الأفران في محلته. على غرار شيخ بوزان، كان الرجال من منطقة قبيلة البرازية الذين يملكون بيوتاً أو شققاً في أورفا، عادة ما يعتمدون في معيشتهم على ما يكسبونه من قطعانهم وحقولهم في قراهم.
لم يكن لقب شيخ بالضرورة يطلق على رجل ينتمي إلى عائلة الشيوخ, بل كان يطلق أيضاً على حجاج مكة أو على من يتلقون تعليماً في المدارس الدينية أو من لديه معارف تقليدية مثيرة للإعجاب (رجل حكيم). ويطلق هذا اللقب في بعض الأحيان على كبار السن من قبل أفراد عشيرتهم وأقربائهم. لحسن الحظ أن شيخ بوزان كشف عن خلفية عائلته، عند انتهائه من مديح عن إبراهيم باشا المللي.
من قال لك ذلك؟ الشيخ بوزان من عشيرة البرازية، ابن عم خليل آغا گوگ أغلو.*
No description available.
يتألف اتحاد البرازية من ما يقارب ال 12 عشيرة وقرابة 300 قرية, ومعظم أفراد القبيلة كانوا نصف رُحَّل في المنطقة الواقعة بين أورفا وجرابلس وجنوبا باتجاه الرقة. إن خليل أو خليل آغا گوكان (گوگوغلو) الذي أشار إليه شيخ بوزان في مطلع القرن العشرين، كان رئيس عشيرة شدّادان، التي تعتبر اليوم ثالث أكبر عشيرة على الحدود من الجانب التركي. كان خليل آغا يقيم في قرية صغيرة تدعى گوكان (بالتركية: اوزون خضر) بالقرب من سروج. يذكر شيخ بوزان اسم خليل آغا في الأسطر الأخيرة ليوضح مكانته, وبالرغم من درجة القرابة التي يشير إليها (ابن العم) لا يمكننا استنتاج مكانته في قبيلة گوكان. سيكون من الممتع معرفة فيما اذا كان شيخ بوزان يرى نفسه مغنيا محترفا أو فيما اذا كان هاويا لذلك التقليد. بينما كان الكثير من الرجال يفضلون الغناء في مضافات قراهم، كان الغناء المحترف يعتبر مهنة متخصصة. لم يكن زعماء ولا رجالات القبيلة يغنون في العلن لأن ذلك يعرض مكانتهم للخطر. وكان المغنون الرحالة ينتمون الى الطبقات الدنيا من المجتمع.
بوصفه فناناً، لا يمكننا تصنيف شيخ بوزان بسهولة. فهو يتنقل بين النثر البسيط والشعر الراقي. من بين أمور أخرى- وعلى عكس أيوب آغا تمر- يستخدم الشيخ المقارنات (التشبيه)على غرار المغني المُكري، رحماني بكر، الذي ذكره مان والذي كان أستاذ هذا الفن في إيران. يتميز شيخ بوزان بأنه في مجال المعارف العامة أكثر اطلاعاً من أيوب آغا تمر. فهو يشير إلى الإستراتيجيات العسكرية كحرب الخنادق، ويجعل بطله درويش يقتبس من النصوص الإسلامية المشهورة. على كل حال, ربما كان أميا بما أن المعلمين الدينيين (خوجة) و الملالي كانوا يقرأون من تلك الكتب في الجلسات التي تقام في القرى.(1) إن الترتيب الزمني لنصوصه عن زعماء قبيلة المِلّان يتبع أسلوبا غير نمطي للتقاليد الشفهية ويبدو أنها متأثرة بالأسلوب العثماني في تدوين التاريخ. علاوة على ذلك، يمكننا الجزم بأن بوزان كان يجيد العربية بطلاقة-الأمر الذي لم يكن مألوفاً بالنسبة لمغن كردي- بما أنه يقتبس من الأدب العربي الشفاهي.(2) تنتمي أغنيته في مدح ابراهيم باشا إلى فئة أغاني المدح التي خصصت أيضا لمدح شيوخ القبائل البدوية، وتظهر أنه يملك معلومات تفصيلية عن ملحمة “بني هلال” العربية. كما أخبرني ابن أخ خليل آغا بأنه كان لعائلة گوكان علاقة مصاهرة مع عائلة من شيوخ العرب من حران منذ بداية القرن العشرين. هذا النوع من الزيجات كان يتجدد مع كل جيل من أجل تمتين العلاقات بين العشائر التي لا تجمعها صلة القرابة عن طريق الدم، بحيث يمكن للمرء أن يتنبأ بأن شيخ بوزان لديه علاقات عائلية مع عرب حران.(3) ومن المعروف أن ابراهيم باشا المللي نفسه عاش في سياق ثنائي الاثنيات وثنائي اللغات، فقد كان لديه ولأفراد آخرين من قبيلته عدة روابط عائلية مع العشائر العربية.
يبرهن شيخ بوزان ولاءه الشديد لابراهيم باشا، حيث يظهر ذلك من خلال ذخيرته الفنية الموجهة لقبيلة ملّان. وهذا الأمر يدعو للدهشة لأن العلاقات بين قبيلة الملان والبرازان في عام 1906 كانت متوترة جداً. بعد زيارة مانّ لمدينة اورفا مباشرة، هاجم الباشا سروج، المركز الشمالي لسهل قبيلة برازان. على كل حال، حسب مشاهدات مارك سايكس، فإن التبعية للباشا المذكور بغض النظر عن الانتماء العشائري لم يكن أمراً غريباً. كان سايكس مندهشاً من كون الباشا تمتع بمكانةً محترمة حتى من قبل قبائل بعيدة.
(1) – بحسب علي أميري، كان الملا والخوجة يقرأان كتباً دينية مشهورة مثل ال “أحمدية” للقرويين في المساءات.
(2) – عند الحديث مع القرويين عن تجربتهم مع المغنين، كنت دائما أسألهم فيما إذا كانوا قد سمعوا الملاحم العربية. وقد سمعت عن هكذا انتقال ادبي مرة واحدة فقط، فحسب ابنة محمد اوك، وهو اسم مغني محلي (دنگبیژ) من أصل عربي، فقد كان يؤدي الملاحم العربية بالكرمانجية.
(3) – تنتمي والدة حاجم ابن أخ خليل آغا (حاجم الذي ولد حوالي 1920) الى عائلة شيخ عربي في حران.
[1]
*- خليل آغا زعيم عشائر ( أوخ و شداد و عاصيان ) من عشائر الاتحاد البرازي ، يرجح أنه ولد عام 1855 في سروج و توفي عام 1920 و دفن في مدينة رها حسب رواية أحفاده (مدارت كرد).