د .آزاد أحمد علي
نص أدبي من القرن التاسع عشر بمضون اصلاحي لمؤلف كردي غير معروف.
قبل عدة سنوات، وفي إطار احتفالية #حلب# عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006، تم تحقيق ونشر كتاب “سانحة أدب من ساحة حلب” لمؤلفه محمد خورشيد أفندي الكردي. وقد قام بتحقيق النص من مخطوطة فريدة الأستاذ محمد كمال. تبرز أهمية هذا الكتاب من خصوصية مضمونه، وعمق انتماءه إلى مجتمع ومناخ مدينة حلب الحضري والسياسي.
يتصف الكتاب بالسمات الرئيسية لمؤلفات القرن التاسع عشر، فمن حيث الشكل جاء صياغة هذا النص الأدبي النثري / الحواري إنسجاماً مع أدبيات المرحلة، والتي برزت في أجواء تتسم بضعف النتاج النثري، وبالركود الفكري المخيم على معظم مجتمعات الشرق الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، ومن ضمنها مجتمع مدينة حلب.
وبذلك ينتمي كتاب سانحة أدب من ساحة حلب إلى النصوص الأدبية الانتقالية المنبثقة عضويا من التراث، والمتدرجة نحو الأنماط الأدبية المعاصرة. فقد استمد شكله من منظومة المعارف والتقاليد الأدبية لتلك المرحلة، ويعد النص من ناحية الشكل والصياغة، صيغة جنينية لكل من الرواية والمسرح معا، وربما يصلح أن يكون أصلاً لكلا الفرعين من جهة، وأبا للنثر من جهة أخرى. فقد تداخل على صفحات كتاب سانحة ما هو نثري روائي بما هو نثري حواري. فالنص عبارة عن أحاديث وحوارات يتبادلها ثلاث شخصيات، وهم
الشخصية الأولى، الكاتب / الراوي.
الشخصية الثانية، عارف، الرجل المتنور العاقل الحريص على بلده.
أما الشخص الثالث فهو أبو عمر، رمز الجهل والغنى، اضافة الى الغباء والتظاهر.
وعلى الرغم من أن النص لم يتخلص من إيقاع النظم وفنون السجع وصناعة البلاغة، التي اعتذر الكاتب نفسه عن تواضع مستواها في نهاية المتن، لكن يظل النص في الوقت نفسه مشبعا بالأبيات الشعرية، والتي إن دلت على شيء انما تدل على طغيان ما هو شعري على ما هو نثري حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر في مؤلفات المتنورين وأدباء المشرق بصفة عامة.
لذلك نجد أن كتاب “سانحة أدب” يحتوي على مضمون غني وطريف، يرتقي ليكون في اطاره العام فالنص أحد أهم المحاولات النثرية التي سعت للفكاك من مدارات النظم والشعر
على شكل مشروع تربوي تنويري، يقوم بوظيفة التوعية والدعوة إلى العلم والحداثة ونبذ الخرافات.
ومن الملفت أنه يمدح كثيرا الصحف ودورها في المجتمع، وخاصة صحيفة الجوائب المحلية، كما يدعو بقوة إلى نشر وقراءة جميع الصحف ويعتبرها مدخلا للمعرفة والتنوير، ومعيارا للتمدن والتطور و”سر نهضة الأوربيين ومعدن جواهر المتفننين”
ثمة نزعة إرشادية مسيطرة على مجمل النص تتمحور حول الدعوة لاكتساب العلوم الحديثة، الى جانب فضح ومهاجمة الطرق الصوفية، وتخليص الإسلام من الشوائب والرياء، والعودة إلى المنابع الأصلية للإسلام، لذك يستشهد بآيات من القرآن الكريم، لدعم واسناد مقولاته وأفكاره.
مؤلف الكتاب محمد خورشيد الكردي، شخص استثنائي، وعلى ما يبدو كان واحد من الشخصيات الكردية التي تنتمي إلى تيار الإسلاميين المتنورين الإصلاحيين، لكنه لم يؤتَ حظاً من الشهرة، بل أنه غير معروف في تاريخ حركة التنوير السورية. فهو شبه مجهول ربما لخصوصية نشاطه وسلوكه الفردي، حيث يتبين من النص نفسه أنه كان من الأشخاص المنزويين في مدينة حلب، البعيدين عن العامة والأصدقاء. ومن الغريب أنه ينفرد بموقف شخصي حاد من الصداقة والوفاء: “ومن هذا القبيل أفيدك أمرا غريب، ليكون لأهل الآداب منه نصيب، وهو أني منذ حياتي أبحث عن صديق، يكون عونا لي في الشدة والضيق، فلم أجد سوى من يحتقرني إذا كان في القدر يعلوني، ويحسدني إذا كان في المرتبة دوني، وإذا غبت عنه يغتاب، وإن عاملته ساء ظني فيه وخاب، ومن أجل ذلك رضيت بالإنفراد، واعتمدت في جميع أموري على رب العباد” ص95
فمن الواضح أن الرجل شخص انطوائي ينظر ويكتب بمعزل عن جماعة منظمة، يقضي وقته في الاشتغال بالمعرفة والأدب، والإطلاع على التراث والثقافة والفقه الإسلامي، حتى جاء كتابه في المحصلة ليكون مرآة لأوضاع حلب أواخر القرن التاسع عشر، وتعبيرا عن هواجس أبناءها المتنورين والإصلاحيين.قام النص بالكشف عن أزمة المرحلة، وأهم المعضلات السياسية والاجتماعية والفكرية التي واجهتها المجتمعات الحضرية الإسلامية. كما أنه من غير المستبعد أن يعود جهل النخبة السورية بهذا المفكر والأديب، إلى أنه كان كرديا. فتم اهماله بشكل مقصود من قبل المؤرخين العروبيين .
الاطار العام لمضمون يتصف الكتاب بسمة التنظير الشامل لمعضلات المرحلة، وذلك من منظار إسلامي “ويزينها بميزان الشريعة” ص18. لذلك فالمؤلف كشخص يدرج ضمن الدعاة والمنظرين الإسلاميين، وليس من بين الذين واجهوا السلطات العثمانية، وربما لم يكن ضد بقاء السلطة العثمانية كنظام إسلامي من حيث الجوهر.
وإن البحث العميق في هذا النص الأدبي – الإرشادي المشبع بالألم والرفض لواقع مجتمع حلب، بصفته نموذجا وتعبيراً عن المجتمعات المدنية الإسلامية أواخر العهد العثماني من جهة، هو بحث وقراءة لأفكار المتنورين والإصلاحيين في مرحلة ما قبل الكواكبي وغيره من رواد عصر النهضة والأنوار المشرقية من جهة ثانية.
وما يؤكد على الشحنة السياسية والاحتقان الفكري لتلك المرحلة أن للكاتب محمد خورشيد نص آخر تم تحقيقه ونشره بنفس الكتاب وهو: “القول المبذول في تراجم النغول ” وهو نص يؤرخ لقضية سياسية في زمن جميل باشا, الذي كان والياً على حلب من سنة 1879 الى سنة 1885م ، يتناول محمد خورشيد من خلال هذا النص الأخير حالة النقمة على الحاكم العثماني، ويكشف عن الحراك الاجتماعي والسياسي النهضوي في حلب. ويشير إلى دور بعض النشطاء مثل عبد الرحمن ابن أحمد ابن مسعود الكواكبي، وعبد الرحمن آغا كتخدا وغيرهم.
أخيرا يبدو الكاتب أنه من المتحمسين ودعاة التفاعل والتماثل مع الحضارة الغربية ومدنيتها، أنه أفندي ليس باللقب وحسب وإنما ثقافة ورؤيا، إذ انه يبالغ في نقد البداوة والتخلف العشائري. وفي الجانب الآخر يبدو شديد التحمس للإمبراطورية البريطانية التي تحكم ثلاثمائة مليون إنسان حسب إحصائيته في تلك الحقبة، ولا يخفي دهشته وإعجابه من حكم امرأة لهذا الإمبراطورية العالمية، يقصد بها الملكلة فكتوريا التي حكمت بريطانيا بين أعوام(1837- 1901)م. لكنه يعيد النظر في شدة حماسه مدققا، فلا يدعو لاستنساخ تلك التجربة ونقلها كاملا، انما يخصص جزءا من كتابه لسوء أحوال ومعيشة الأوربيين ومشكلاتهم. ما هو مثير للاستغراب أن منظومة خورشيد أفندي الفكرية السياسية كانت تفتقر إلى أي مضامين قومية، سواء كانت كردية أم عربية.
في الختام يمكن التأكيد من جديد على أن هذا الكتاب وثيقة مهمة لتاريخ المنطقة الاجتماعي والفكري والسياسي، وحاضرتها الفاعلة حلب الشهباء، يجد فيها القارئ والباحث جوانب موسوعية مهمة مدرجة ضمن نص أدبي متخم بالنزعة النقدية الوعظية والإرشادية، ويتصف الكاتب بحس الغيرية والحرص على المجتمع الإسلامي بشكل عام، والحلبي على وجه الخصوص.
الكتاب : سانحة أدب من ساحة حلب.
المؤلف: محمد خورشيد أفندي الكردي.
تحقيق : محمد كمال
إصدار : فصلت، حلب 2006
عدد الصفحات: 143.[1]