*رستم محمود
يفتح الخراب الأوكراني سؤالاً كبيراً: هل كان هذا الأمر حتمياً بالضرورة! ألم يكن من سبيل ما للنجاة؟ طروحات ومنافذ وسلوكيات ومساومات وأدوات تفكير قادرة على تجاوز عتبتي الاستقطاب في الآن عينه: وقف الجنوح الإمبراطوري الروسي البوتيني من طرف، ومنع خراب أوكرانيا من طرف آخر!؟.
ماذا مثلاً لو تم إغلاق الأحجية البوتينة المركزية، والاستجابة لها منذ البداية. وذلك عبر إقرار القوى الغربية المخالفة/المتصارعة مع روسيا بوجود شروخ هوياتية عميقة في أوكرانيا، والتسليم بواقعية وجود نسبة ما مُعتبرة من سكان أوكرانيا، ذوي روابط وجدانية وثقافية وسياسية مع روسيا أكثر مما يملكون مع ما هو من المفترض بلادهم، والقبول بأن هؤلاء السكان إنما يمتدون على مساحة جغرافية ما، يشكلون فيها أغلبية شبه مطلقة، وتالياً يملكون حقاً طبيعياً وعادياً في تقرير مصيرهم، بما في ذلك حقها بتغيير شكل صلتهم وعلاقة جغرافيتهم مع الكيان الذي هم جزء منه حتى الآن أوكرانيا، أما بالبقاء داخله عبر ترتيبات ما، أو الاستقلال عنه، أو بالانضمام إلى كيان آخر، هو روسيا الاتحادية.
هل لنا أن نتخيل إجماعاً من هذه الدول الغربية وما يأتمر بها من مؤسسات دولية، بالذات الأمم المتحدة، على القبول إجراء استفتاء رسمي وشرعي ومعترف به دولياً ضمن تلك المناطق الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم نفسها، ومنذ العام 2014، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحديداً عبر الاتفاق المسبق مع روسيا على قبول النتائج المترتبة عنه، والتفاوض مستقبلاً على تفاصيل الحدود، فيما لو قرر هؤلاء الانفصال!.
ألم يكن ذلك بمثابة حل ما، متجاوز لقطبي المعادلة الصفرية في المسألة الأوكرانية، وتجاوز هذا الخراب العميم، الذي هو أسوء من كل شيء آخر دون شك.
ربما لم تكن روسيا البوتينية نفسها لتوافق على مثل ذلك المخرج. لكن، ودون شك، ليست روسيا وحدها من كانت ترفض مثل ذلك الشيء، وليست روسيا هي أكثر من كان من وما يزال يرفضها.
إذ ثمة عقيدة غربية راسخة، تعتبر الخيارات الانفصالية تجاوزاً لمساحة خطرة، تحطيماً لموقع هذه القوى الغربية الاستثنائي، المتفوق على باقي العالم، ومساً بمصالحها القومية العليا، وزعزعة لنوعية وآلية تفكيرها في العلاقات الدولية. وإن كان لا بُد من انفصالية ما، في منطقة وظرف ما شديد الخصوصية والإلحاح، فأن هذا الغرب هو الذي من المفترض أن يطرحه ويشرف عليه ويبني نتائجه، وبناء على حساباته هو، ودون ضغط من أي طرف، وفقط حينما يكون خياراً لا مفر منه.
تعود هذه العقيدة الغربية إلى عصور المراحل الأولى من عصر الاستعمار، منذ أواخر القرن الثامن عشر. حينما كان هذا الغرب يجهد في سبيل تشييد كيانات كبرى، يخلق ضمنها منظومات حُكم عمومية غير صغيرة، لتكون آلية كبرى لصالحه، يكرس عبرها آلية حكمه لهذه الكيانات/الدول التي أختلقها.
تعمقت هذه العقيدة عقب الحربين العالميتين. فهذه القوى الغربية التي انتصرت في هاتين الحربين، شكلت وأعادت ترتيب العالم حسب تقسيمات وخرائط هي الأكثر منفعة واستجابة لموقعها الامتيازي وقدرتها المتناهية في مسك خيوط وأدوات اللعبة الدولية والإقليمية، بالذات نوعية العلاقة والمصالح والحساسيات بين هذه الكيانات، وفيما بينها وبين تلك القوى الدولية. لذا صارت هذه الكيانات وخرائطها بموقع ما لا يُقبل تغييره بأي شرط.
ثمة منابع أخرى لتلك العقيدة الغربية. فمن طرف تستشعر هذه القوى الغربية بأنه في نزعات الانفصال/الاستقلال على مستوى العالم ما قد يمسها داخلياً، فيما لو شرعنت نزعات حق تقرير المصير للجماعات الأهلية والسياسية في الدول الأخرى. فحتى هذه الدول الغربية، وبكل ديمقراطيتها وبنيان اقتصادها المتين، ليست محمية من نزعات الهوية وصراعات الجماعات السرية داخل كياناتها، وتالياً عن إمكانية التفكك. قضية الكتلان في إسبانيا شاهد حاضر راهناً، ومعها المسألة الاسكتلندية داخل المملكة المتحدة، كذلك حالة إيرلندا الشمالية، والصراع البلجيكي الداخل، وهكذا داخل أي كيان من المفترض أنه أكثر رصانة واعتداداً بنفسه ووحدته الداخلية.
كذلك فإن هذه القوى الغربية تفضل التعامل مع نوعية من المؤسسات والنُخب الحاكمة للكيانات القوية والمستقرة والدائمة والكبيرة، فهذه النوعية أكثر قدرة على ضبط مجتمعاتها أولاً، وخلق علاقة مرنة مع القوى الغربية دائماً، لأنها كيانات يملك الغرب تاريخاً ونوعية من الضوابط المتعارف عليها معها منذ عقود. تفضل القوى الغربية ذلك على أية بعثرة وإعادة تشكيل لمؤسسات ونُخب حكم هذه الكيانات، تلك البعثرة التي قد تحطم نوعية الروابط الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية وديناميكيات الإخضاع التي نسجتها القوى الغربية منذ عقود، وتحتاج لعقود كثيرة لتعيد تشييدها مع الكيانات الحديثة.
لكن، ثمة ما لا يمكن لهذه القوى الغربية أن تعانده بهذه الصرامة إلى الأبد. فعالم اليوم، يشهد صعوداً لنوعية من الصراعات القائمة على النزوع الجمعي لعدد كبير من المجتمعات التي تقول بصراحة كفى للعيش سوية.
ثمة دول كانت مملوكة ومحكومة من جماعة أهلية بذاتها، لكنها راهناً صارت دولاً فاشلة تماماً، وتالياً ما عادت قادرة بسبب ذلك حُكم وضبط الجماعات الأخرى، الأكثر وضوحاً وميلاً وشجاعة للقول وداعاً. وثمة نزعات شعبوية متزايدة من كل حدة، تنزع لأن تعتبر الهوية الأهلية مصدراً للسياسة والجغرافيا، وتالياً الكيان. وثمة إرهاق في كل مكان من الدول الكبرى والحدود المفتوحة. وقبل كل شيء، ثمة الخراب العمومي الذي يحضر بقوة فيما لو لم تحضر حلول أكثر حيوية وواقعية من الخطابات الرنانة الجوفاء، حول المواطنة والمساواة المدنية وما شابه.
رئيسة وزراء اسكتلندا الراهنة تهدد بإعادة استفتاء الاستقلال عن المملكة المتحدة، ولا يبدو البرلمان ونخبة الحُكم الكتلانية الإسبانية قد تراجعت عن مطالباتها بالاستقلال. فشل العراق تماماً في فعل أي شيء بعد تحطيم استفتاء كردستان الاستقلالي، وهكذا تسير الأمور في أكثر من بقعة من العالم.
ليس في هذا الأمر أي دفاع عن سلوك روسيا البوتينية في ضمن المناطق الأوكرانية. لكن الحدث مناسبة للقول إن المجتمعات أكثر قداسة من الكيانات، وإن الخراب العمومي هو الشيء الوحيد الذي ليس حلاً، وإن الحق في المتاركة المتراضية يجب أن يعود ويحضر كفعل عادي. فعالم اليوم قائم على قرابة 200 دولة، لكنه عالم متخم بالحروب والعنف والكراهية، ماذا لو قبلنا أن يكون عالماً قائماً على 2000 دولة مثلاً!!.
غالباً سيكون عالماً أفضل وأكثر رأفة وأقل عدوانية وكراهية، لأنه ليس من شيء أسوء مما هو حاضر الآن، في كل شيء وحسب مختلف المعايير تقريباً.
*اندبندنت عربية[1]