خالص عزمي
في نهاية الاربعينات من القرن الماضي وعدنا والدي بسفرة سياحية الى شمال العراق؛ ان كان النجاح حليفنا جميعا؛ ولما تحقق ذلك؛ بر بوعده فانطلقنا نحو المناطق التي لم نرها من قبل من تلك المصائف المدهشة؛اذ ما ا كدنا نستقر في بيت استأجرناه في صلاح الدين؛ حتىغادرنا في اليوم التالي الى مصيف سره رش لنمتع انفسنا بمناظر خلابة قل نظيرها؛ وبعد ان تجولنا قليلا في انحاء هذا المصيف؛ اخذنا طريقنا الى شقلاوة لنتناول الغذاء في احدى (الكبرات) على سفح جبل سفين؛وبعد استراحة بسيطة؛ سارت بنا السيارة الى موقعين رائعين شلال كلي علي بيك؛ ثم شلال بيخال؛ هنا كنا نريد البقاء مدة اطول الا ان الوالد رغب في ان يصل الى راوندوز باقرب وقت ممكن؛ وفعلا فقد وصلناها وتجولنا قليلا فيها؛ ثم مررنا بالبلدية حيث طلب والدي من السائق كاكا محمود ان يسأل عن احد الاشخاص؛ ذهب السائق ثم عاد ليقول : انه ذهب الى اربيل لمراجعة الطبيب؛ تأسف والدي لذلك وقرر العودة الى صلاح الدين من ذات الطريق؛ واثناء انطلاق السيارة؛ اخبرنا انه كان يريد الالتقاء بصديقه القاضي معروف جياووك الذي نادرا ما يبرح راوندوز المنعشة في مثل هذه الايام من الصيف.
في عام 1949 وحينما كان والدي يشغل منصب متصرف لواء الموصل؛جرى احتفال كبير في الموصل الحدباء لمناسبة افتتاح صرح المحاكم الضخم في منطقة الغزلاني؛ برعاية ولي العهد الامير عبد الاله؛ وقد طلبت مديرية المعارف من ثانويات الموصل ان تنتقي بعض طلابها للمساعدة في استقبال المدعويين وايصالهم الى مواقع جلوسهم في القاعة الواسعة من مدخل البناية؛ وكنت من بين الطلاب المكلفين بهذه المهمة الممتعة.
كان يقف الى جانبي صديقاي الحميمان كوكب على الجميل وحسن العمري؛ حينما دخل شخص مهيب؛ مبتسم الثغر؛ وقبل ان يعرفنا بشخصه؛ لاحظنا ان الاستاذ ابراهيم الواعظ رئيس المحاكم؛ أسرع الخطى وتقدم اليه مرحبا بحفاوة خاصة وهو يقول (اهلامعروف بك)؛ ثم التفت نحونا معرفا (عمكم معروف بك جياووك؛ قاضينا البارز). عندها تذكرت سفرتنا الى راوندوز......وسررت حقا بهذه المناسبة وانا ارشده الى مقعده.
ينتمي #معروف جياووك# ؛ الى عشيرة (بالكيان) ذات السمعة والنفوذ في منطقة راوندوز بشكل خاص واربيل بشكل عام؛ التحق في شبابه بكلية الحقوق في عاصمة الامبراطورية العثمانية الاستانة وعاد الى بغداد ليعمل في المحاماة لفترة وجيزة ويصدر جريدة (الحقوق)؛ ولم تجد نظارة المعارف في حينه اكفأ منه شخصية ليتولى منصب مساعد مدير دار المعلمين في البصرة عام 1913؛ وفي هذا المجال التربوي بذل قصارى جهده لتطوير الادارة في تلك الدار التي كان يرأسها كما هي العادة اداري تركي منتدب.
وما كادت الحرب العالمية الاولى تندلع عام 1914؛ حتى اصبج جياووك مع شخصيات عراقية اخرى في خندق التصدي للانكليز في منطقة البصرة؛ عندها القي القبض عليه ونفي الى بورما؛ ليمكث هناك اكثر من اربع سنوات؛ وحينما استقرت الامور في الادارة العراقية اعيد الى الوطن شأن اقرانه المنفيين الآخرين في البلاد النائية.
في العشرينات استقر في بغداد و اخذ يمارس المحاماة لفترة وجيزة؛ عين بعدها عام 1923 قاضيا لاول مرة في محكمة كركوك؛ ثم أخذ يتنقل بعدئذ في محاكم عدة مثل الديوانية والحلة والموصل والمسيب والحي وكربلاء؛ ثم اصبح نائبا لاستئناف كركوك؛ كما تولى الوزارة والنيابة ومتصرفية السليمانية ومديرية التبوغ العامة؛ وليعود ادراجه بعد كل هذه الدورة من العمل الجاد والمضني الى وزارة العدل حيث أخذ مكانه في التدوين القانوني والتفتيش العدلي.
كان معروف جياووك كثير النشاط ا في الحياة الاجتماعية والثقافية؛ ولعل من اشهر اعماله في هذه المجالات الحيوية هو تمسكه بتأسيس (نادي الارتقاء الكردي في بغداد) عام 1930 حيث انتخب معتمدا عاما له؛ في حين كان على رأس هذا التجمع عدد من الشخصيات البارزة كالعلامتين محمد امين زكي وتوفيق وهبي؛ وكلاهما من الادباء ذوي الانتاج الفكري المتسم بالرصانة والعمق في فقه اللغة والادب والتاريخ؛ كما كان يضم عددا آخر من السياسيين؛ كعلي كمال وجمال بابان وعبد العزيز بيشتيوان... الخ ثم بعدئذ انظم الى هيئته الادارية عدد آخر من الشخصيات المرموقة كعبد الله لطفي وعارف بشدري وعبد الرحيم فيلي ومكرم جمال وفائق هوشيار...الخ
لم يقتصر عمل جياووك على هذا النطاق المحلي وحسب بل تعده الى دعم مجلة (هاوار) التي اصدرها جلادت بدرخان رئيس الجمعية الكوردية المعروفة باسم (خويبون) عام 1932..؛ والتي تبرع لها وشارك فيها عدد كبير من العراقيين من غير الكورد ايضا بالمال او بالتحرير
.
لقد اسهم هذا النادي العراقي المنفتح على جميع فئات الشعب؛ بنشاط اجتماعي وثقافي وفني بارز شارك فيه عدد كبير من اقطاب الثقافة في العراق. ولو رجعت الى محاضرات ومطبوعات هذا النادي لوجدتها تنم عن ذلك الجهد الاستثنائي الذي بذله معروف جياوك وصحبه من اعضاء الهيئة الادارية في شد الوشائج المعرفية ما بين طبقات الشعب الواحد. ومما تجدر الاشارة اليه بهذا الشأن؛ ان نشاطاته الثقافية لم تقتصر على هذا النادي وحسب بل تعدته الى جمعيات ونواد ومجالس ادبية في نواحي عدة من العراق كافة دونما اي تمييز او تفريق؛ ومراجعة واحدة لصحف تلك الايام تنبيك العلم اليقين عما قدمه في تلك المجالات الاجتماعية والثقافية.
اشتهر معروف جياووك باستقامته ونزاهته وتشبثه بالحق والتزامه بمباديء الوطنية الحقه؛ والامثلة على ذلك كثيرة تفصح عنها اضبارته الشخصية في وزارة العدل؛ واضبارته العامة في وزارة الداخلية قسم الجمعيات اضافة الى ملفه الواسع في دائرة التحقيقات الجنائية الذي احتوى على جملة من بعض مواقفه المشهودة على نطاق واسع. ومما يدعم هذا القول هو ما اورده هنا من مثلين واقعيين نشرتهما الصحف و كان لهما وقعهما في المجتمع العراقي في تلك الفترة الزمنية :
الاول قضائي : حينما اصرت محكمة الجزاء الكبرى (الجنايات) في الحلة برئاسة القاضي الكبير عيسى طه وعضوية معروف جياووك وحسين كمال الدين في الثلاثينيات من القرن الماضي على موقفها من تجريم فلاح استفزه مهندس الري البريطاني بالشتيمة والاستهزاء مما افقده توازنه فرفع فأسه ونزل به على رأس ذلك المهندس فارداه قتيلا؛ اذ حكمت عليه تلك المحكمة العادلة عليه بالسجن لبضع سنوات ولم تحكم عليه بالاعدام؛ رغم تدخل الحكومة و محاولة استدعاء القضاة جميعا الذين رفضوا كل تلك التهديدات والاستقدام واصروا على قرار هم الذي اعتبرته الجهات العليا لا يتناسب اطلاقا مع الجرم المقترف.
الثاني اجتماعي حينما وقف في انتخابات نادي الارتقاء الكوردي عام 1944 (وكان عضوا في التدوين القانوني) ضد قائمة حزب هيوار بكل حزم؛ باعتبار ان الانتخابات تمت بطريقة غير مشروعة عن طريق تزوير النتائج المعلن عنها كما ادعى في حينه ؛ واستطاع باصراره وحزمه ان يلغيها؛ وان يتوصل الى صيغة مقترحة من قبل رئيس النادي توائم ما بين جميع الاطراف؛ فكان لهذا المقف المشهود اثره باستمرار النادي تحت ادارته الكفوءة كمعتمد عام وبرئاسة العلامة محمد امين زكي.
كتب معروف جياووك كثيرا من المحاضرات والمقالات والبحوث اما كتبه المطبوعة فاهمها : القضية الكوردية؛ نيابتي؛ مأساة برزان؛امثال وحكم... الخ
لقد تميز اسلوبه بميزتين اساسيتين؛ هما (اشراق البيان) و (الدقة في التحقيق والتدقيق)؛
اذ ما يكاد يتصدى الى موضوع ما حتى يشبعه بحثا وتمحيصا ومراجعة متأنية بدأب وصبر باحثا فيه عن ادق التفاصيل الفرعية التي يقتضيها البحث؛ ومن نماذج ذلك ما كتبه في معنى بارزان قوله :
(.... كلمة بارزان على ما أخال نسبة الى عشيرة (به رازي) او انها أسم جدهم الاعلى ومعناه (حامل الحق) أو (عارف الحق) او انها مقلوبة من (بارسان) اي الراويش؛ او (برزان) اي (اخوان الصفا)... وهو على كل حال أسم لغشيرة كبيرة في شمال العراق.... واني اعتقد بأنهم بالاصل من عشائر (هكاري) الخالدة في الاصل والنبل...)
لقد كان معروف جياووك قوميا كرديا ولكنه لم يكن متعصبا؛ بل كان عراقيا وطنيا صميما في كل ادوار حياته؛ في نيابته وفي قضائه وفي ادارته و في أدبه؛ و على الذين يرغبون في دراسته والبحث في مجمل نتاجه ان يعتمدوا على ابرز المصادر التي يمكنني تلخيصها بما يأتي :
1 مراجعة كل ما يتعلق بمرحلة الشباب؛ كالدراسة القانونية والعمل التربوي؛و اصدار جريدة الحقوق ثم النفي الى جزيرة بوربما اثناء الاحتلال البريطاني للبصرة عام 1914.
2 قراراته القضائية في مختلف المحاكم التي اشغلها انفرادا او مشاركة.
3 خطبه ومداخلاته وتعقيباته من خلال محاضر مجلس النواب للفترة التي كان فيها نائبا
4 آراؤه ومشاريعه حينما كان مدونا قانونيا؛ وتقاريره حينما كان مفتشا عدليا.
5 مقترحاته وقراراته الادارية حينما كان متصرفا للسليمانية ومديرا عاما للتبوغ.. الخ
6 محاضراته وخطبه ومقالاته.. الخ المنشورة للفترة من 1920 حتى رحيله في 1958.
7 محاضر جلسات الهيئة الادارية لنادي (الارتقاء الكوردي) في بغداد.
7 ما كتب عنه بعد رحيله من رثاء وتقييم وتحليل وآراء وتعليقات.[1]