د.خالد السلطاني*
تتيح المذكرات المكتوبة، إمكانية التلاقي وجهاً لوجه مع مصائر اناس متنوعي الاهتمامات والمهن والمسارات. ويُعد بعضها، بعض تلك المذكرات، بمثابة»مستودع»لافكار، ومعارف، وتجارب متنوعة، خاضها المؤلف: صاحب هذه المذكرات، ويسعى وراء تقديمها لمتلقي كتابه. انها حياة»مضغوطة»ضمن صفحاتها المكتوبة، بكل افراحها واتراحها، نجاحاتها وحتى اخفاقاتها.
لكن الاهم في كل ذلك»رؤية»مسار حياة الشخص/ الكاتب ومتابعته، يوما بعد يوم، وهو يسرد خبرته الطويلة، مطلعاً عصارة تجربته الحياتية لنا: نحن القراء، للعلم.. وللتعّلم. وكتاب»مذكرات الاستاذ الدكتور أحسان شيرزاد: مهندساً وأكاديمياً ووزيرا»(الصادر حديثاً، والمطبوع في الاردن، عدد الصفحات: 896 صفحة من القطع المتوسط)؛ يمكن إن يكون نموذجاً لنوعية كتب السيرة، التى تحدثنا عنها تواً. فهو، اي الكتاب، ما برح يضيف لقرّائه معارف متنوعة، ويثري ذخيرتهم بتجارب مفيدة، فكاتب السيرة، ليس فقط مهندساً، كما انه ليس فقط أكاديمياً، ولا حتى.. وزيراً فحسب، (كما يصفه، وبحق، عنوان الكتاب). انه قبل كل شئ مثقف، وثقافته تلك مترعة بالحس الانساني. من هنا، في اعتقادي، مصدر الأحساس بالآلفة الآسرة التى تتشكل بين كاتب المذكرات وقارئها، الآلفة التى تشي بالتواضع، التواضع الذي يولّد البساطة، البساطة»المعجونة»بالعذوبة، الطافحة بها سرديات»شيرزاد»!.
يتحدث #إحسان شيرزاد# في مذكراته، عن مواضيع وأحداث شتى، تعكس اهتماماته العديدة. والتى في معظمها يبدو فيها»فاعلاً»رئيسياً، في تكوّنها وظهورها، وأحياناً في تاسيسها؛ وليس مشاهداً لها او شاهدا عليها فحسب. ولهذا فأن كل ما اتى في كتابه، يُعتبر وثائق هامة للاحداث التى مرّ بها شخصيا، ومرّ بها وطنه. وبالتالي فإن تلك المذكرات، هي في الواقع، تعد مرجعاً رصيناً، لا يستغنى عنه لمن ينشد التعاطي الآن (وفي المستقبل!) مع الشأن العراقي سياسياً ومهنياً واثنياً. وفي هذا الصدد يكتب د. كمال مظهر في تقديمه للكتاب، بان».. يوميات الاستاذ إحسان شيرزاد عن احداث 1968 مصدر مهم ونادر لطلبة الماجستير والدكتوراه في اقسام التاريخ في الجامعات العراقية. ينطبق القول نفسه على يومياته عن أحداث سنة 1969 الطافحة بالمتغيرات، وكذلك الحال بالنسبة ليومياته عن أحداث الأعوام 1972-1974 التى مهدت الطريق لاندلاع الثورة الكوردية من جديد. كل ذلك وغير ذلك الكثير والكثير يجعل من مذكرات الأستاذ إحسان شيرزاد حالة نادرة في مضمارها..». (ص.9).
ساتجاوز، هنا، النشاط السياسي لصاحب المذكرات، مع اني مقتنع بمصداقية ما كتبه صديقي د. كمال مظهر، بان نشاط شيرزاد السياسي»..إضافة فكرية نادرة الى المكتبة العراقية». ساتوقف، (بما تتيحه من مكوث طبيعة هذا المقال)، عند جانبين: ألاكاديمي والمهني. وهما جانبان اقرب الى قلبي شخصياً، وأحدس بانهما احب الى قلب شيرزاد أيضاً؛ نظرا للاحالات الكثيرة المبثوثة في اليوميات، والتى تتحدث عن هذا الشأن.
حصل إحسان شيرزاد على شهادة البكالوريوس، بامتياز سنة 1946من كلية الهندسة العراقية، في اول دفعة من الخريجين. ونال شهادة الماجستير في الهندسة المدنية/ إنشاءآت من جامعة ميشغان بامريكا عام 1950. كما حصل على شهادة بكالوريوس قانون من كلية الحقوق بجامعة بغداد عام 1962، وبامتياز ايضاً. وحصل على شهادة الدكتوراه في الإدارة، من جامعة كاليفورنيا للدراسات العليا (دراسة خارجية دون إقامة) سنة 1987. عين في كلية الهندسة محاضرا عام 1950، وتدرج في السلم الآكاديمي فيها، وصولاً لاعلى مرتبة علمية، حين منح لقب»أستاذ»عام 1965، بعدها نال لقب»استاذ متمرس»عام 1988. واضافة الى عمله الاكاديمي والبحثي (اذ انه نشر عدة بحوث في حقل الاختصاص في مجلات علمية)، انخرط احسان شيرزاد في العمل المهني والنقابي، طيلة عقود عديدة لحين تقاعده الطوعي مؤخراً.
عندما يتحدث احسان شيرزاد عن كلية الهندسة، هو الذي تعلم في اروقتها اعتباراً من 1942 ولحين تخرجه في 1946، (آتياً لها هرباً من الكلية الطيبة، بعد فزعه في رؤية الجثثت البشرية وإجراءآت تشريحها)، فانه يتحدث عنها ك»صديق»تربطه معها علاقة حميمية، متذكراً اسماء زملائه المقبولين الاوائل، والذي كان هو من ضمنهم.(ص.31) وكذلك اسماء الاساتذة الذين درسّوا فيها، مع ذكر جنسياتهم، التى كانت، حينذاك، عديدة ومتنوعة، تشمل الانكليزي، واللبناني والمصري والهندي بالاضافة الى العراقيين، الذين كان عددهم ستة من مجموع 13 استاذا؛ اربعة منهم على الديانة الموسوية (ص.33). ما يعكس التنوع الخلاق في المجتمع البغدادي وقتذاك. ينقلنا كاتب المذكرات عبر يومياته الى»الأجواء»التى كانت سائدة فيها حينذاك، وخصوصا في الطابق الاعلى من المبنى الواقع في باب المعظم، (والذي شغلته الكلية لعقود كثيرة، قبل ان تنتقل الى مقرها الجديد بالجادرية في سنة 1984)، حيث شغل كقسم داخلي للطلبة الدراسين من خارج بغداد. ونعرف منه عن الضوابط السارية فيه، وكذلك انواع الانشطة التى جرت وقتذاك. كما يذكر احسان شيرزاد اسماء الطلبة المبعوثين الى الولايات المتحدة عام 1949، والذي كان هو احدهم (ص.47). ونتعرف على اسماء، ستشغل، لاحقاً، مواقع مرموقة في المشهد الثقافي والمعرفي العراقي؛ مثل طلعت الشيباني، وفليب ناسي، وعلي عبد الرسول كاشف الغطاء، وحسن زكريا، ومهدي الهادي، وغيرهم. بيد إن الامر المثير، بالنسبة اليّ، ورود اسم»علي الشوك»، في تلك القائمة من المبعوثين، ضمن إختصاص. في حين يعرف الجميع بان»الشوك»، (وهو المثقف العراقي المتنور، المتعدد الاهتمامات)، صاحب اختصاص آخر، وتحديدا»الرياضيات»، التى كتب عنها وما فتئ يكتب عن ولعه بها، الشئ الكثير، بحيث، بتنا، نحن قراءه، مغرمين بها معه، مندهشين لطرق»توالد»معادلاتها المذهلة. لم اكن اعرف هذه المعلومة مسبقاً، لحين اطلاعي عليها في»المذكرات». وتشاء الصدف، إن يشير علي الشوك ذاته الى هذه المعلومة، بمقال نشره حديثا في»الحياة»اللندنية، عندما كتب».. في يوم من أيام عام 1947، او ربما 1948(يشير شيرزاد الى عام 1949، خ. س.)، كنت أتمشى وحدي في حرم الجامعة الامريكية في بيروت، وفجأة اتخذت قراراً بان أصبح كاتباً. كنت موفداً من الحكومة العراقية، مع طلبة آخرين، لدراسة هندسة العمارة، لكنني كنت مولعاً بالقراءة..»(الحياة، 8/5/2012).
ما من شك، بأن الرياضيات، كسبت في شخص»الشوك»احد مبدعيها. لكن، ما من شك ايضاً، بأن العمارة، خسرت في هذا التحول، مشروعا لمعمار، كان يمكن ان يكون مميزا، قادرا لان يضيف إضافة لافته، الى منجز العمارة العراقية، (وربما الى الاقليمية ايضاً)؛ نظرا للمؤهلات الفريدة والعديدة التى يتمتع بها هذا المبدع المتنور. نقرأ في»المذكرات»اسماً آخرا في قائمة المبعوثين، يفترض به ان يدرس»العمارة»ايضا في كاليفورنيا، وهو <إحسان حسن علي>. يثير هذا الاسم تساؤلات عدة، خاصة لدي، انا الذي اعتبر نفسي متابعاً للشأن المعماري الحداثي العراقي. والسؤال هنا، يبدو منطقياً، من هو هذا المعمار»المستقبلي»؟ ماهي انجازاته؟ في اية مدينة عمل، في اية دائرة توظف؟ انها اسئلة واردة، اتمنى ان اجد لها اجوبة مقنعة، على افتراض ان الاسم صحيح، وان الشخص المذكور لم يغير دراسته، كما فعل»زميله»علي الشوك.
لا يفتأ إحسان شيرزاد التذكير»بفضل»أناس عديدين عليه. تعلم منهم، وأخذ عنهم صفات حميدة ستكون ملازمة لصاحب المذكرات. في كثير من صفحات كتابه، ترد كلمات، مثل،»تعلمت منه»، و»اكتسبت عنه»و»احاول ان اتفهم اسلوبه»»كنت من المعجبين به»او»كان ذا شخصية مؤثرة»و»له دور مهم في مساعدتي وتوجيهي»، وغيرها من الكلمات المماثلة الزاخرة بها مفردات يومياته. ومثل هذا الإقرار الصريح، قد يكون مسوغاً للبعض في تعليل النجاحات المهنية والاكاديمية والشخصية التى حققها إحسان شيرزاد وعزوّها، الى»صدفة»وجود اؤلئك الناس، الذين قابلهم حصراً، في مسار حياته، ومهدوا له سبل تدرجه المهني والاكاديمي. لكني، اجد الامر مختلفا بعض الشئ. فليس، هنا، من ثمة حضور»لصدف»او حظوظ. انما هناك توق داخلي، واستعداد شخصي للتعلم واكتساب الخبر من اي كان. ثمة مقدرة عالية، وموهبة اكيدة لدى صاحب المذكرات، في ان يجد لدى»الآخر»<اياً كان هذا الآخر!>، ما يثيره ويتعلم منه. وهنا، في اعتقادي، يكمن»سر»نجاحات شيرزاد المرموقة. وهذا ال»اياً كان». يمكن ان يكون،»بروفيسوراً»مشهورا، او رجلاَ عادياً يمتلك حذاقة مهنية. فصاحب المذكرات، مثلاً، يتحدث بمودة عن تأثيرات صديقه»محمد مخزومي»(ابي حسن، كما يدعوه) (62)، او زميله»كمال الشاعر»(49)، اوزميله الآخر»نيازي فتو»(90) او استاذه السابق وزميله لفترة طويلة في مكتب الاستشاري العراقي»عبد الله احسان كامل»(108) او غيرهم عليه، واثرائهم مساره الهندسي والشخصي. مثلما يذكر بامتنان صداقته مع المقاول»طاهر العاني»، واعجابه بالمقاول العصامي»الآسطى عبد عزاوي»(106) او غيرهما. لا ينبغي ان ننسى، في هذا المقام، اخلاقيات صاحب المذكرات، في تواضعه واحتشامه الجمّ، التى تملي عليه مثل هذه»المجاهرات»في ردّ الجميل (اياً كان مقدار ذلك الجميل!) الى اصحابها.
شرك كاتب المذكرات قارئه في الاحساس بالابتهاج والفخر، للمنجز الهندسي/ الإنشائي المتحقق، الذي اشتغل عليه إحسان شيرزاد على امتداد نشاطه المهني، الممتد طيلة نيف وستة عقود. انه نشاط جاد، وممتع، وعالي المهنية، وفي كثير منه رائد، ومتفرد. لكنه، بالطبع، لا يخلو من قلق، القلق الابداعي للحصول على اعلى درجات الاتقان والحرفية. نقرأ في اليوميات عن احداث مفرحة، إضطلع بها احسان شيرزاد، وآخرى تبعث على الحزن. فهو على سبيل المثال، تحدث عن اوائل اعماله الهندسية في اربيل، وهو جسر خرساني في منطقة كوره. والذي يذكرة بكثير من الحنيّة المشوبة بالغبطة»..هذا العمل الذي اعتز به يعد من بواكير أعمالي الانشائية..، وهو أول جسر كونكريتي مسلح بهيكل صلب من نوعه في العراق»(ص. 87). واذ يشكر العمال الذين تفانوا معه في انجاز واجبهم، فانه، احتفالا، في اتمام اعمال الجسر، يرتدي اللباس الكوردي التقليدي، ويقرأ»المولد النبوي»لهم ولاهالي المنطقة المحتفين به وبالجسر الجديد!. يتذكر الكاتب ايضاَ، وبهلع، حادثة سقوط قالب نصب الحرية، في ساحة التحرير ببغداد، هو الذي اوكلت له الاعمال الانشائية والاشراف الفني على التنفيذ. ويكتب».. اذكر، أنه في المراحل الاخيرة للعمل، هبت رياح قوية أدت الى هدم القالب الخشبي، الذي كانت عملية ربطه قد استغرقت شهراً كاملاً. واتذكر أنه في ليلة العاصفة، وعندما كلمني المهندس حسيب صالح هاتفياً، ذهبت مسرعاً الى مواقع النصب ليلاً. وقد تطلب الموقف مضاعفة الجهود لإنشاء قالب خشبي جديد...واذكر ايضاً أنني لم انم في الليلة التى سبقت نهار فك القالب، خشية عدم تحمل النصب لثقله الكبير..»(ص. 141).
كثيرة هي المباني، التى إشتغل إحسان شيرزاد على حلولها الإنشائية. انها في الواقع، تعد، الآن، مثار إعتزاز المنجز الهندسي العراقي؛ مثل، اسس مصرف الرافدين، واسس فندق بغداد، وعمارة بير داود، وجامع الست نفيسة، وعمارة منير عباس، وعمارة عبود،، وجسور قناة الجيش، ومبنى مجلس الوزراء، والمجمع العلمي العراقي، ومبنى اتحاد الصناعات، وغير ذلك الكثير من المباني سواء المشيدة في بغداد ام خارجها، بل وحتى في خارج العراق ايضا. (ثمة قائمة بجميع المباني التى اشتغل عليها شيرزاد انشائياً منشورة في»المذكرات»في صفحات رقم (889، و890، و891).
يميل إحسان شيرزاد الى الدقة. بل هو ينزع لإن تكون الدقة المتحصلة على قدر كبير من الكمال والاتقان. وهذا الامر لا ينحصرفي الجانب المهني فقط، وإنما يشمل كل ما يمكن له ان يكون موضوعاً لانشغالاته. يثبت ذلك ألاعمال الهندسية عالية الاتقان التى انجزها، وتبرهن عليها المعلومات الموثقة الغزيرة، الحافلة بها يومياته التى نقرأها في كتابه المنشور. في مذكراته خزين من المعلومات الدقيقة، وذات الصدقية العالية. انها مرجع رصين- كما اشير سابقاً – لاحداث متنوعة. وانا، هنا، اقتطع»جزئية»من ذخيرة تلك المعلومات؛ التى قد لا تكون مثار إهتمام كثر من القراء، لكنها ذات أهمية بالغة للمعماريين، ولتاريخ عمارة الحداثة بالعراق تحديداً. اذ يعرف غالبية المعماريين العراقيين، بان المعمار العالمي الشهير»فرنك لويد رايت»، زار بغداد في الخمسينات، والقى محاضرة في جمعية المهندسين العراقية. بيد إن دقة شيرزاد وحرصه التوثيقي، لا تفوت هذه المناسبة، اذ يذكرها في اليوم والشهر والسنة؛ انها: الاربعاء 22/ 5/ 1957، ويضيف في يومياته، مسجلا بعضاً من مضمون محاضرة رايت، ويذكر بانه».. أشار في مستهل حديثه إلى ان تكليف مجلس الإعمار له بتصميم دار الأوبرا ببغداد، هو أحسن هدية له في ذكرى ميلاده الثامن والثمانين..، كما تم تكليفه في الوقت نفسه بتصميم مديرية البرق والبريد في بغداد»(ص. 148). نقرأ ايضا في المذكرات، بان»ألفار آلتو»: المعمار الفنلندي المعروف، الذي كلف في وقتها بتصميم متحف الفنون الجميلة في العوينة بوسط بغداد، القى هو الآخر في يوم الجمعة الموافق 26 تموز 1957، على حدائق جمعية المهندسين محاضرة، عن مشروعه الجديد. (ص. 148). انها معلومة هامة لجهة تحديد تاريخ الزيارة والمحاضرة، تضيف معارف طازجة الى وثائق عمارة الحداثة بالعراق.
يسرد إحسان شيرزاد يومياته بإخلاص وتواضع صادقين. ورغم مهابة الاحداث وإهميتها، التى اضطلع بها كرجل دولة مقتدر، فانها تظل غامرة بالحس الانساني؛ الذي يجعل منها إحداثاً قريبة من قبل معظم القراء، ومفهومه لديهم. وهو لا يتوانى عن كشف احاسيسه الصادقة ويعرضها امام متلقي يومياته، بصورة مباشرة وعفوية. ولهذا ندرك، نحن القراء، بسهولة ونتفهم شعوره»ألانساني»؛ وخصوصاً عندما يكتب، وهو في بعثته الامريكية».. كنت وأنا البعيد عن الاهل، ابعث برسائل صوتية الى والدتي.. ابدؤها بتلاوة القرآن الكريم،..فقد كانت – رحمها الله – تحب سماع صوتي وأنا اتلو القرآن الكريم»(ص. 50). او عندما يشير في مذكراته الى ذلك مراراً»..قرأت المولد النبوي مع العائلة، كالعادة، بالغة الكوردية»(ص,766). او عندما يسجل في يومياته»الجمعة 29/11/ 1968: في جامع الامام الاعظم، استمعت الى المقرئ الجيد الشيخ حسن أبو زايد، وقد قرأ قراءة ممتعة حقاً»(ص. 275). او عندما»يعترف»مسجلا ما يلي»الاحد 15/6/1969: ظهرت مقالة في جريدة النور حول الرأسمالية (الكومبرادورية)، ولم افهم معنى الكلمة!»(ص. 300). او عندما يكون محبطاً»الاربعاء: 1/1/1969: توقفت عن تسجيل مذكراتي لشعوري باليأس»(ص. 279)، لكنه سرعان ما يعود الى مزاجه المفعم بالامل ويكتب في مطلع عام جديد»الجمعة 1/1/1971: جعل الله هذا العام، عام خير وسلام»(ص. 355). وعن شعوره تجاه زوجته المتوفية عمّا قريب، حينذاك، يكتب في يومياته»الثلاثاء 15/3/2005: آخر يوم الفاتحة، وعند صلاة العصر ذهبنا إلى المقبرة لقراءة القرأن، والوداع. وضعي سيئ للغاية»(ص. 778). وتصل مثل تلك الاحاسيس الزاخرة بالآلفة، المشوبة بالحميمية، مباشرة الى قلب القارئ، بكونها مشاعر انسانية، قابلة للفهم والادراك؛ هي التى، يوماً، لخص فحواها بعمق»كارل ماركس»، عندما قال مقولته المجنحة»ليس من ثمة شأن انساني، بغريب عليّ!».
لا يمكن، بالطبع، عرض»مذكرات احسان شيرزاد»، في مقال واحد. فالاحداث التى تعاطي معها الكاتب، وتلك التى مرّت على وطنه، غزيرة ومتشعبة وفريدة في نوعيتها، وحتى استثنائية في أهميتها. لكني اود ان اتجرأ، وأشير الى كلمة واحدة، يمكن بها ان تحدد وتصف حال كاتبها، وهي كلمة:»المثقف». واضيف لها»العراقي». ولئن عرّف الأنثروبولوجيون»الثقافة»– بكونها <المضاف الإنساني الى الطبيعة>، بمعنى الانجازات التى حققها الانسان عبر تاريخه الطويل، فإن إحسان شيرزاد، المثقف، قد ساهم في إضافة الكثير الى معلوماتنا، ليس، فقط، من خلال اختصاصه الهندسي، وإنما عبر مختلف الانشطة التى اضطلع باداء مهماتها على اكمل وجه. انه، وبحسب رؤى المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، ليس الا»المثقف العضوي»عينه، الذي يحرص على ان تكون معارفه وعلمه وإجتهاده وقفاً على منفعة الناس ووسيلة لخدمتهم وتقدمهم، هو الذي يؤمن، كما كتب في مستهل»مذكراته»< فاما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض>.
قد يطيب لآخرين، اعتزازاً، ان»ينسب»شخصية إحسان شيرزاد الى اثنيته. وهو امر اراه مفهوماً وحتى مقبولا، لجهة نزعة الافتخار المناطقي او القومي، التى جُبل عليها الانسان. لكني ارى، في الاقتصار على ذلك، ليس من شأنه تماماً ان يرفع من قدر الرجل، أو يزيد من أهميته، هو الذي ما فتئ يدلل عبر نشاطه المتنوع والشامل، (والذي تعكسه بصدق، يومياته المكتوبة) عن انشغالاته الكثيرة والواسعة، بوسع المجال الذي يتحرك فيه ويعمل به، متجاوزاً بالطبع ضيق الانتماء الاثني وانغلاقه، الذي يسعى كثر الى»الباسه»اياه. انه، بمعنى من المعاني، يمكن ان يكون، وبجدارة، نموذجاً»للمثقف العراقي»المرموق، الذين يفتخر الوطن به، الوطن كله، الذي قدم إحسان شيرزاد عصارة تجربته، واجتهاده المهني والشخصي في سبيل تقدمه ونجاحه.
بقى عليّ، في نهاية مقالتي هذه، إن اشير الى إمرين. عندما انهيت محاضرتي، التى القيتها على اساتذة وطلبة قسم العمارة بالجامعة التكنولوجية ببغداد، في نيسان الماضي، تقدم نحوي أحد الاساتذة، وبعد أن جاملني بالثناء على المحاضرة، فتح حقيبته، وقدم لي كتاب»مذكرات إحسان شيرزاد». قد لا يكون ذلك الاستاذ (الذي، مع الاسف، لا اتذكر اسمه الآن)، على دراية تامة بمدى غبطتي وفرحي بهديته، وأنا استعيد، الآن، عبر قراءة الكتاب، مسار شخصية هذا الرجل الكريم والجاد، الذي اعرفه شخصيا، واعرف مدى حبه وسعادته بعمله، وفرحه الغامر بلقاء الآخرين. (يدلل على ذلك اللقطات العديدة المنشورة في الكتاب، والتى يظهر إحسان شيرزاد في غالبيتها العظمى، ضاحكا وبشوشاً!). والامر الآخر، هو معرفتي في وقت لاحق، عن مساهمة كريمة أحسان شيرزاد: صديقتي وزميلتي العزيزة»شيرين»، في العمل لاشهر كثيرة على اعداد هذه المذكرات وتقديمها للطبع. فشكرا لها، لصنيعها المهم والمؤثر.
لقد اتاح لنا، إحسان شيرزاد، عبر يومياته المنشورة، أن»نسافر»معه الى مواقع السنين الماضية وامكنتها، الحافلة بالاعمال الجادة والمتنوعة، كان فيها، هو»المثقف العراقي»، يعلمنا كيف يمكن للمرء ان يكون مثقفاً حقيقياً نافعا..وعضوياً!.
* مدرسة العمارة/
الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون.[1]