الأكراد وبؤس الجغرافيا
حسين عبد العزيز
الجغرافيا السياسية لا تستشير أحداً، وتفرض منطقها وحضورها على الجميع، حتى في أشد اللحظات التاريخية حرجاً، حين يظن بعضهم أن مكتسبات سياسية أو عسكرية هنا أو هناك يمكنها أن تتجاهل قوتها وكينونتها، وربما عطالتها الداخلية. هذا هو واقع الوعي السياسي الكردي في منطقتنا، وفي سورية خصوصاً منذ بدء الثورة واستحالتها إلى أزمة، حين أغفلوا حقائق الجغرافيا، وأغفلوا الاعتبارات والمقاييس التي تفرضها، ومنها المقاييس المحلية والإقليمية لمسألتهم القومية.
لم يعِ الأكراد أن قضيتهم محكومة بالجغرافيا الميؤوس منها، وأن الدول الإقليمية الأربع التي يتوزعون فيها لا تسمح بقيام دولة كردية، أو حكم ذاتي أقرب إلى الدولة. وأخطأ حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يشكل القوة السياسية الكبرى للأكراد السوريين مرات: حين رفض الانضواء تحت الثورة، ونيل حقوقه ضمن حقوق المواطنة الجامعة. وحين مارس عملية تغيير ديمغرافي بالقوة في مناطق ذات إرث عربي عميق. وحين أصرّ ويصر على إقامة فيدرالية في بيئة محلية وإقليمية لا تسمحان بإقامتها. وأخيراً حين أعلن وذراعه العسكرية خوض معركة عفرين. لم يقرأ الحزب حقيقة المواقف الدولية من هذه المعركة، وطبيعة التحالفات الإقليمية الدولية القائمة وتداخلاتها، فلم يدرك أن الروس سيتنازلون لتركيا عن عفرين، لأسباب متعلقة بالمسار السياسي الذي يخطونه، ولأسباب مرتبطة بطبيعة التنافس مع الولايات المتحدة. ولم يدركوا أن الولايات المتحدة لن تخوض معركة عسكرية، وإن كانت جانبية، مع تركيا لأجل عفرين. ولم يدركوا أن الاتحاد الأوروبي يميل إلى الخيار التركي العسكري، وتحويل هذه المنطقة مع منطقة درع الفرات إلى مقصد للاجئين السوريين في تركيا، وإزاحة ستارة قاتمة على العلاقات التركية الأوروبية. ولم يدركوا أخيراً أن النظام السوري سيخذلهم.
أدى فائض القوة العسكرية لدى الأكراد في سورية، مع وفرة قومية في الوعي، إلى حالة من العمى السياسي، فضربوا عرض الحائط الأبعاد الإقليمية الدولية للصراع السوري بأشكاله
لم يعِ الأكراد أن قضيتهم محكومة بالجغرافيا الميؤوس منها، وأن الدول الإقليمية الأربع التي يتوزعون فيها لا تسمح بقيام دولة كردية، أو حكم ذاتي أقرب إلى الدولةالمتنوعة، إلى درجة أنهم نسوا أن دورهم مربوط ومصنوع ضمن الحسابات الدولية، ونسوا أيضاً أن الولايات المتحدة ليست قوة مطلقة قادرة على فعل كل شيء، وأنها تقبل أن يحققوا إنجازات ذات حدود محلية، ولا تقبل أن يحققوا مكاسب تتجاوز الأبعاد المحلية.
بعبارة أخرى، اعتقد الأكراد أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على تحقيق حلمهم في بناء كيان سياسي وجغرافي، وهذا وعي زائف، فواشنطن تستخدم هذه القضية لربط الأكراد بهم مباشرة، ضمن عملية التبادل الوظيفي للأدوار. وفي الإعلان الأميركي إن عفرين ليست مشمولة بمناطق التحالف الدولي دلالات سياسية تكفي لمن يرغب في قراءة المشهد الدولي للصراع السوري، فهذه المنطقة خارج الاهتمام الأميركي، بغض النظر إن كانت مهمة للمشروع الكردي أم لا.
سيطرة الوحدات الكردية على مناطق جغرافية واسعة مليئة بثروات طبيعية أدى إلى امتلاك حضور اقتصادي، هو الأول من نوعه في تاريخ الأكراد السوريين، وترافق ذلك مع حضور عسكري أميركي على الأرض لا أحد يستطيع الاقتراب منه، ثم ترافق ذلك مع هيمنة إدارية/ سياسية مطلقة على الأرض التي تشكل في الوعي الكردي أهمية كبرى. وليس مصادفةً أن التوزيع الجغرافي للإدارة الذاتية في سورية يتطابق مع مفهوم الكومونات الذي رافق المخيلة الماركسية لحزب العمال الكردستاني خلال نضاله في الثمانينات.
من هنا، يمكن فهم تمسّك الأكراد بالأرض، ومنها أرض عفرين، وعدم التخلي عنها مهما كانت قيمتها. ويعولون في عدم التخلي عن هذه المدينة إلى مقومات الصمود التي تمتلكها عفرين، كونها تحتوي كثافة كردية عالية، وقاعدة لتدريب المقاتلين، فضلاً عن وعورة تضاريسها. وفي حال استطاعت الوحدات الكردية عرقلة فصائل المعارضة والقوات التركية وإنزال خسائر بشرية في صفوفهما، فإنها قد تحصل على تدخل دولي لصالحها. وتدرك أنقرة هذه المعادلة جيداً، وهو ما يفسر ربما بطء العمليات العسكرية، إما لتعبيد الطرق المؤدية إلى المدينة وتنظيفها وإحكام السيطرة عليها، أو لانتظار تبلور صفقةٍ ما مع واشنطن، يحصل الأتراك بموجبها على حصةٍ تعوّضهم عن مدينة عفرين.
في كل الأحوال، كشفت معركة عفرين مأزق القضية الكردية، ومأزق الأطراف المحلية والإقليمية والدولية في التعامل معها، ومأزق الأكراد أنفسهم في التعاطي مع قضيتهم التي هي قضية الشعب السوري كله في نيل حقوقه وحريته. وواضح أن معركة عفرين مبكرة جداً في الصراع المحلي الإقليمي ضد التطلعات الكردية، وستكون المراحل المقبلة أكثر عنفاً، وربما تساهم في إعادة إرباك المشهد العسكري السوري، إذا لم يتم التعاطي مع المسألة ضمن اعتبارات الحقوق الكردية، واعتبارات مصالح دول المنطقة.[1]