خارطة سياسية جديدة للشرق الأوسط الكبير
د. مهدي كاكه يي
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، تم تأسيس كيانات سياسية مصطنعة بصورة عشوائية في منطقة الشرق الأوسط طبقاً لإتفاقية سايكس – بيكو الإستعمارية، دون مراعاة إرادة شعوب المنطقة و وحدة أوطانها و ذلك بجمع شعوب و قوميات و طوائف متنافرة في هذه الكيانات المصطنعة و التي قادت الى الحروب و التناحرات و المآسي و الدمار و التخلف. رغم مرور حوالي تسعين عاماً على هذا التقسيم الجائر لشعوب المنطقة، بقيت هذه الشعوب، التي أُجبِرت على العيش المشترك ضمن كيانات سياسية مهلهلة، مجرد خليط من المجتمعات المتنافرة لا تربطها مصالح و أهداف و ثقافة مشتركة و في كل كيان سياسي تستحوذ قومية واحدة أو طائفة واحدة على الحكم و تعمل على صهر و إلغاء الشعوب و القوميات و الطوائف الأخرى و إلغاء هوياتها و لغاتها و ثقافاتها و تأريخها و تراثها. هذه الإتفاقية التي كانت جريمة كبرى بحق شعوب المنطقة، قامت بتقسيم كوردستان و تشتيت شعبها. بموجب الإتفاقية المذكورة تم إحتلال القسم الكوردستاني الذي كان تحت الحكم العثماني، من قِبل ثلاث كيانات سياسية مصطنعة التي تم تأسيسها في المنطقة، وهي تركيا و العراق و سورية. من الجدير بالذكر أنه تمّ تقسيم كوردستان لأول مرة في سنة 1514، عند نشوب معركة جالديران، حيث قُسّمت كوردستان بين الإمبراطوريتَين العثمانية و الصفوية و تم تثبيت ذلك التقسيم نهائياً بموجب معاهدة قصر شيرين (زهاب) التي أُبرمت بين الإمبراطوريتين المذكورتَين في سنة 1639.
العولمة و ثورة المعلومات و الإتصالات و التطورات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و الفكرية الكبرى التي يشهدها كوكبنا الأرضي، خلقت نظاماً عالمياً جديداً و قيَماً و مبادئ جديدة و غيّرت من نمط حياة البشرية و تفكيرها. منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الجيوسياسية الكبيرة و التي تحتفظ بواطنها بأكبر إحتياطي للبترول في العالم و الغنية بالمياه، تأثرتْ بدورها بهذه التطورات العالمية الكبرى و بدأت شعوبها تثور ضد الأنظمة الدكتاتورية الشمولية و ضد الظلم و الإضطهاد و الفقر و المرض و الأميّة و أخذت تُزيل هذه الأنظمة المستبدة الفاسدة. هذه التطورات في المنطقة و تطلّع الشعوب فيها الى الحرية و حقها في تقرير مصيرها، تقود الى ولادة خارطة سياسية جديدة للمنطقة و إزالة آثار إتفاقية سايكس – بيكو الإجرامية التي سببتْ الحروب و الدمار و عدم الإستقرار في المنطقة و أدت الى إستعباد شعوب المنطقة و تعرّض هويات و لغات و ثقافات و تأريخ و تراث الشعوب المُستعمرَة، مثل الشعب الكوردي، الى الإلغاء و التزوير و التحريف و السرقة. شعوب المنطقة بدأت تناضل من أجل إعادة ذواتها و هوياتها و تتعرف على تأريخها و تتساوى مع بعضها، لتعيش في تآلف و تعاون لتبني بلدانها و تتمتع سكانها بخيرات أوطانها و تؤسس أنظمة ديمقراطية، تتمتع الشعوب و الأفراد في ظلها بالحرية و المساواة و العدالة الإجتماعية و الرفاهية و التقدم و تحظى المرأة بالمساواة مع الرجل، بعيدةً عن ويلات الحروب و الدمار و العنصرية و العنف و الإرهاب و التخلف. نعم، ستنتهي معاناة الإنسان في هذه المنطقة بعد أن تسترد شعوب المنطقة إرادتها المسلوبة و تقرر مصيرها بنفسها و تبني أنظمة ديمقراطية متحضرة تحترم حقوق الإنسان و تعترف بحقوق الشعوب. تحقيق ظهور خارطة سياسية جديدة للمنطقة التي يتم رسمها تبعاً لإرادة شعوبها، سيلاقي الكثير من المصاعب و المشاكل و الصعوبات و يُسبب الحروب و الخلافات في بداية تكوين الخارطة الجديدة، إلا أنه في النهاية سيسود السلام و الوئام و التآلف بين شعوب المنطقة التي ستنهمك بالبناء و تحقيق الرفاهية و المساواة و العدالة و التقدم و ستساهم في بناء الحضارة الإنسانية من جديد.
لو ندرس الواقع العراقي، سنتوصل الى أن العراق الحالي ستنشأ منه ثلاث دول، دولة سنية و أخرى شيعية و الثالثة إقليم كوردستان الذي سيكون نواةً لدولة كوردستان الموحدة. بعد زوال النظام السوري ستضعف كثيراً القوى الشيعية الإسلاموية الحاكمة في بغداد و قد يختفي حكمها بعد زوال النظام السوري، و إلا فأنها تختفي بكل تأكيد بعد سقوط الحكم الطائفي المتخلف في إيران. هذا لا يعني إنتهاء دور الشيعة في العراق و المنطقة، و إنما ينتهي دور الأحزاب الشيعية الإسلاموية التي تستغل الدين في سبيل تحقيق مصالحها الشخصية و الفئوية و الحزبية على حساب مصالح الشعب الشيعي المظلوم، حيث أن العصر الذي نعيش فيه، قد أزال الحدود المصطنعة المرسومة لمنع تواصل الشعب الشيعي في مختلف أقاليمه في المنطقة و في النهاية سيتحرر هذا الشعب المضطهَد عبر تأريخه الدامي و تتحد أجزاؤه المختلفة لتصبح قوةً كبيرة تلعب دوراً محورياً في المنطقة و العالم. لذلك أرى أنه من الضروري جداً أن يبدأ الشيعة من الآن، و خاصة السياسيون الوطنيون و المثقفون بتأسيس تنظيمات سياسية علمانية عصرية لتحمّل مسئولية ترتيب البيت الشيعي و تحرير هذا الشعب المضطهَد عبر تأريخه الطويل و التخلص من القيادات الإسلاموية المتخلفة العاجزة عن تحقيق حرية هذا الشعب المناضل و توفير الرفاهية له و تعويضه عن المآسي و الظلم و الإبادة التي تعرض و لا يزال يتعرض لها، ليكون قادراً على مواكبة النظام العالمي الجديد و التطورات الحياتية الكبرى التي تحدث على كرتنا الأرضية.
النظام السوري في طريقه الى الزوال، حيث يكافح عبثاً من أجل البقاء. سوريا مرشحة أن تنشأ منها أربع دول، دولة سُنّية و علوية و دروزية و إقليم غرب كوردستان الذي سيصبح جزءً من دولة كوردستان. الواقع يشير بأن الشعوب المتنافرة التي أُجبرت على العيش المشترك ضمن الكيان السوري المصطنع، لا يمكنها الإستمرار في البقاء ضمن كيان سياسي واحد و أن التطورات العالمية و الإقليمية تؤكد على عجز أي شعب من الشعوب في سورية في تأسيس حكومة مركزية قوية قادرة على السيطرة التامة على كافة مناطق الكيان السوري الحالي. في الآونة الأخيرة قامت القوى السياسية الكوردستانية بتحرير إقليم غرب كوردستان و الآن تتحمل مسئولية إدارته و نأمل أن تتوحد القوى السياسية و منظمات المجتمع المدني و كافة المواطنين في الإقليم لتحقيق تحرير جميع الأراضي الكوردستانية المحتلة و الحفاظ على المنجزات التأريخية المتحققة في الإقليم.
نظام الملالي في طهران مُحاصَر من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد الأوربي و إسرائيل بسبب طموحه النووي و دوره الإرهابي و لذلك فهو في وضع سئ و يتجه مع الوقت نحو السقوط و الزوال، حيث بعد إختفاء النظام السوري ستضعف نفوذه في المنطقة بشكل كبير و يأتي دوره في الرحيل و تحرير الشعوب التي تتحكم فيها. بعد سقوط حكم الملالي في طهران، قد تتشكل عدة دول من إيران الحالية، دولة فارس و أذربيجان و بلوجستان و قد تختار السكان العرب في إيران الإتحاد مع الدولة الشيعية التي يؤسسها الشيعة في العراق، بينما يعود إقليم شرق كوردستان الى أحضان دولة كوردستان.
بعد إنهيار النظامَين السوري و الإيراني، سيأتي دور تركيا و السعودية و الدول الخليجية الأخرى. إقليم شمال كوردستان سيصبح جزءً من دولة كوردستان و قد تقوم كل من أرمينيا و اليونان بإستعادة الأراضي التابعة لها و المحتلة من قِبل تركيا و بذلك تصبح تركيا دولة صغيرة تفقد ثقلها السياسي و العسكري و الإقتصادي في المنطقة. السعودية بدورها ستنقسم الى دولة شيعية غنية، حيث تقع آبار النفط هناك الى جانب دولة سُنية فقيرة، حيث يختفي حكم آل سعود. هكذا بالنسبة الى الدول الخليجية الأخرى و الشعوب المضطهدة الأخرى التي تم إحتلال أوطانها، مثل الأقباط و النوبيون و غيرهما. كما تجدر الإشارة الى أن الشعب الأمازيغي يُشكل الأغلبية السكانية في بلدان شمال أفريقيا و سيؤسس دولته الموحدة هناك. هكذا يتم تغيير خارطة منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا و تتغير كافة المعادلات و الموازنات و التحالفات السياسية و الإقتصادية و الأمنية جذرياً في المنطقة. كما أنه من الأهمية أن أذكر بأن أكثرية أفراد المجتمعات التي تُعتبر عربية، بإستثناء سكان الجزيرة العربية، هم في الحقيقة مستعربون، على سبيل المثال سكان وسط و جنوب العراق و السوريون و اللبنانيون و المصريون و سكان بلدان شمال أفريقيا و السودانيون و غيرهم. كما أن الملايين من الناس هم مستتركون و مستفرسون و خاصة الكورد و أتوقع أن يعود الملايين من هؤلاء الى إنتمائهم الأصلي، الى أحضان قومياتهم و شعوبهم الحقيقية، بعد زوال الحكومات العنصرية الشمولية في المنطقة و تمتعهم بالحرية و الأمان.
إن معتنقي الديانات في المنطقة مثل الإيزيديون و العلويون و اليهود و المسيحيون و اليارسانيون (الكاكائيون) و الدروز و الشبك و المندائيون و الزرادشتيون و البهائيون والإسماعيليون و غيرهم سيناضلون من أجل التمتع بحقوقهم أسوةً بالمسلمين للحفاظ على هوياتهم و إحياء ثقافاتهم و كتابة تأريخهم و ممارسة طقوسهم و أداء مراسيمهم الدينية بكل حرية بعد زمن طويل من القهر و التعرض الى الإلغاء و الإرهاب و الظلم و التمييز الديني و سيحققون أهدافهم و التي تساهم بشكل رئيس في تشكيل معالم الشرق الأوسط الكبير.
يجدر هنا ذكره هو أن الشعوب المحتلة أوطانها و أصحاب الديانات المضطهَدة ستتحالف فيما بينها و تؤسس رابطة أو منظمة تجمعها للتنسيق و التعاون و التعاضد فيما بينها في مختلف المجالات لتحقيق حريتهم و الوصول الى أهدافهم. كما أنه من المفيد أن نذكر أيضاً بأن إسرائيل ستلعب دوراً كبيراً في التغييرات المتوقعة في المنطقة و ستكون طرفاً مهماً ضمن حلف الشعوب و الديانات و الطوائف المضطهدَة و بسبب كيانها السياسي المعترف به دولياً و نظامها الديمقراطي و تقدمها الإقتصادي و العلمي و التكنولوجي و قوتها العسكرية و خبرتها في الحكم و السياسة و الإدارة، فأنها مرشحة لأن تلعب دوراً إيجابياً في مساعدة الشعوب المقهورة في المنطقة، حيث أن تحرر هذه الشعوب يلتقي مع المصالح الإسرائيلية الإستراتيجية.
بعد رسم صورة مستقبلية للخارطة السياسية للشرق الأوسط الكبير لتكون مدخلاً للحديث عن مستقبل كوردستان و موقعها في خريطة المنطقة، أقوم بالتركيز على مصير و مستقبل شعب كوردستان في خضم التطورات العالمية و الإقليمية و الكوردستانية. العولمة و التقدم في المعلومات و الإتصالات و التطورات السياسية و الإجتماعية في منطقة الشرق الأوسط و التغيير الحاصل في كل من العراق و سوريا، أضعفت الدول المحتلة لكوردستان و أزالت عملياً الحدود المصطنعة بين أجزاء كوردستان.
بالنسبة الى العراق، فأن الفوضى و التناحرات الإثنية و الطائفية جعلت من الحكومة العراقية حكومة ضعيفة، تمتلك قوات مسلحة ولاء أفرادها هي للقبيلة و الطائفة و القومية، بدلاً من الحكومة العراقية. لذلك فأن تهديد الحكومة العراقية لشعب كوردستان هو تهديد ضعيف و يكاد يكون محدوداً. التهديد الذي يشكله النظام السوري لشعب كوردستان هو معدوم في الوقت الحاضر، حيث يكافح النظام من أجل البقاء و الحياة.
النظام الإيراني يعاني من الحصار الإقتصادي المفروض عليه من قِبل الدول الغربية و أن إيران معرضة للهجوم لتدمير منشآتها النووية و بسبب دورها الإرهابي، لذلك فأن خياراتها محدودة في الوقت الحاضر في الوقوف ضد حق شعب كوردستان في تقرير المصير، التي يتم تنفيذها من خلال الضغط السياسي و العسكري المباشر على حكومة إقليم جنوب كوردستان أو بشكل غير مباشر عن طريق الضغط على الحكومة العراقية لعرقلة تمتع مواطني إقليم جنوب كوردستان بحقوقه و كذلك لوقوف الحكومة العراقية ضد تحرر إقليم غرب كوردستان من الإحتلال الإستيطاني السوري، حيث أرسلت الحكومة العراقية قوات عسكرية الى حدود الإقليم الغربي في محاولة لمنع وصول المساعدات و الإمدادات الى الثوار الكوردستانيين في الإقليم و لدعم النظام السوري. كما ذكرتُ، سيصبح تأثير النظام الإيراني على شعب كوردستان معدوماً بمرور الوقت الى أن يختفي النظام نهائياً، حيث أنه يعيش خارج عصرنا و غير مؤهل للبقاء و الإستمرار في الحكم.
مما سبق، نرى أن تركيا تكاد تكون الكيان السياسي الوحيد الذي يحاول جاهداً عرقلة تحقيق حق شعب كوردستان في تقرير المصير، حيث أنها عضوة في حلف الناتو و لا تزال عنصراً من العناصر التي تقوم بتنفيذ خطط الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. نظراً لأهمية الدور التركي فيما يتعلق بنضال شعب كوردستان في سبيل تحقيق حقه في تقرير مصيره، سأتكلم في مقال مستقل لاحق عن هذا الدور و علاقة تركيا مع حكومة إقليم جنوب كوردستان بالإضافة الى مسائل كوردستانية مهمة أخرى.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]