أحمد الدرزي
وقع الكرد ضحية للمشاريع الغربية بامتداداتها الإقليمية، وضحية عدم إدراك استحالة تغيير البنى السياسية القائمة، لكونها نتاج نظام دولي ما زال مستمراً حتى الآن كقوة رئيسية متحكمة في واقع الدول ومستقبلها.
ما إن تتابعت تصريحات المسؤولين الأتراك عن توجهات تركيا الجديدة بشأن إصلاح العلاقة مع دمشق، حتى أدرك القادة الكرد في شمال سوريا أنَّ هناك واقعاً جديداً بدأ بالتشكّل بعد اجتماع طهران الثلاثي في 19 تموز/يوليو الماضي، ثم لقاء سوتشي بعده في 5 آب/أغسطس بين الرئيسين الروسي والتركي، الذي ظهرت نتائجه الأولية بتزايد العمليات العسكرية التركية الاستخباراتية في الشمال السوري، واستهداف قيادات وعناصر عسكرية ومدنيين، في إشارة واضحة إلى تغير المناخ الإقليمي والدولي تجاه المشروع السياسي الذي تشكّل عام 2014.
تعرّض الكرد لظلم مضاعف بعد تقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، فقد تعرّضوا مع بقية شعوب المنطقة المتداخلة جغرافياً وسكانياً لعملية جراحية تجزيئية، بما يخالف المسار التاريخي الحضاري لتعاقب الإمبراطوريات عليها، فتشكلت مجموعة من الدول غير القابلة للحياة التلقائية، كنتيجة للحرب العالمية الأولى.
وقد حرموا، وفق التصورات القومية التي طغت على المنطقة، من إنشاء كيان سياسي جامع لهم، أسوةً ببقية الدول المُشكَّلَة، فاندفعوا إلى إنشاء كيانات سياسية، في تكرار للخطأ الذي وقعت فيه بقية الدول في محاولاتها لتأكيد نفسها، متناسيةً أنها نتاج هيمنة نظام غربي على العالم، وتمت هيكلتها بهذه الحدود خدمةً للمصالح الغربية واستمرارها، وأنَّ حرمان الكرد من كيان سياسي لم يكن عبثاً، على الرغم من اعتراف معاهدة سيفر عام 2020 بحكم ذاتيّ لهم في تركيا العثمانية آنذاك، بل لاستمرار التوتر في المنطقة، ودخولها في صراعات دموية متناوبة ومتنقلة ومانعة لعودة هذه المنطقة كمحور لحركة التاريخ خلال 5 آلاف عام.
وقع الكرد ضحيّة للمشاريع الغربية بامتداداتها الإقليمية، وضحية عدم إدراك استحالة تغيير البنى السياسية القائمة، لكونها نتاج نظام دولي ما زال مستمراً حتى الآن كقوة رئيسية متحكّمة في واقع الدول ومستقبلها بعد حربين عالميتين، على الرغم مما حصلوا عليه في العراق إثر التدخل العسكري الأميركي الواسع بعد احتلال العراق، ولكنه كان محكوماً بمصالح الولايات المتحدة التي رفعت الغطاء عن أربيل بعد محاولتها إجراء استفتاء الاستقلال 2017.
لا يختلف واقع كرد سوريا عن بقية الكرد في المنطقة، على الرغم من غياب تجربة دموية مع دمشق وفيما بينهم، وعلى الرغم مما أنجزوه، بالتعاون مع الولايات المتحدة، من القضاء على تنظيم داعش وتعزيز مشروعهم السياسي الإدارة الذاتية، إلا أنهم لم يدركوا مدى تأثير بنية النظام الدولي الحالي المانعة لأي تحولات سياسية إلا وفقاً للحسابات الخاصة للولايات المتحدة، ومعها بريطانيا وفرنسا.
من هنا يأتي الرهان الخاطئ على تعزيز المكتسبات السياسية والاقتصادية واستمرارها، من خلال وعود أميركية لم تفِ واشنطن بأيٍّ منها، بل كانت واضحة منذ بداية دخولها غير الشرعي كقوات احتلال للشمال السوري بعدم اعترافها بالكيانية السياسية للكرد السوريين، وحصرها التعاطي معهم ضمن عنوان مكافحة إرهاب داعش فقط، كذريعة للبقاء في المنطقة لمواجهة كلٍّ من إيران وروسيا والصين، وهي الدول المتحالفة التي تشكّل تهديداً متصاعداً للنظام الدولي الحالي.
وعلى الرّغم من التجارب المريرة للعلاقة مع الولايات المتحدة، إن كان بالتخلّي عن الكرد في عفرين وما تسبّب من عملية تهجير واسعة لهم بعد احتلال الجيش التركي لها عام 2018، ثم احتلال الشريط الحدودي بين تل أبيض ورأس العين، وبعمق يتجاوز 30 كم عام 2019، فإنَّ ذلك لم يوقف رهانات بعض القادة لهم على إمكانية حصول تغيير في السياسات الأميركية تجاههم، رغم كلّ مؤشرات التواطؤ الأميركي الحالية مع تركيا، من خلال تصاعد هجماتها بالطيران المسيّر.
يعيش الكرد قلقاً عميقاً جراء إغلاق الخيارات أمامهم، فالحليف الدولي الأميركي له أجندته الخاصة، وهو يعاني صراعات داخلية قد تتسبّب بالحرب الأهلية، وانكفاءً خارجياً متزايداً في كل مكان، كما أن القوة الروسية الدولية الصاعدة تتعاطى معهم من خلال أولوياتها الأوراسية التي ترتكز في نجاحها على العاملين التركي والإيراني كشرطين أساسيين لنجاح مشروعها، وهذا سيكون على حساب المشروع السياسي للكرد في سوريا وداخل تركيا وإيران. ولا يختلف الموقف الدولي الصيني عن الموقف الروسي، الذي يستند في نجاح مشروعه مبادرة الحزام والطريق إلى إيران وتركيا، بحكم الجغرافيا السياسية المهمة لكلا البلدين.
لا يختلف الأمر على المستوى الإقليمي، بل يزداد إغلاقاً للخيارات أمامهم، فإيران، أهم قوة إقليمية في المنطقة، لها أولوياتها في إخراج الأميركيين من العراق وسوريا، بل من كل غرب آسيا، إضافة إلى أولوية علاقتها مع تركيا لضرورات أمنها القومي واصطفافها بشكل تام مع توجهات دمشق السياسية.
الأمر ينطبق على الدول العربية، وخصوصاً السعودية والإمارات، ومعهما مصر، فقد انتهت عملياً سنوات الغزل والدعم للتجربة الكردية، بعد أن تلمّست بشكل واضح تضعضع القوة الأميركية وصعود الرباعي الصيني الروسي الهندي الإيراني، وأنَّ هناك نظاماً إقليمياً جديداً قيد التشكل يفترض اصطفافات سياسية جديدة تجاه سوريا وتركيا وإيران، بما يحفظ هذه الدول من تداعيات تغير النظام الدولي القادم.
ويزيد شدة إغلاق الخيارات أمامهم عدم توفر شروط نجاح أيّ مقاومة ممكنة لاحتلال تركي جديد، فالبنية العقائدية الصلبة محصورة بدائرة ضيقة من الأوجلانيين وما يترك ذلك من آثار في تفاوت المقدرات القتالية، إضافةً إلى غياب البيئة الحاضنة بالمعنى الحقيقي، جراء حسابات وحساسيات كردية-كردية، وكردية-عربية، وعربية-عربية.
يترافق ذلك مع بيئة مكشوفة للاستخبارات التركية، بحكم الاختراق الواسع الذي يسهّل الاستهداف المستمر للقيادات والعناصر ومخازن السلاح والأنفاق، إضافة إلى غياب جبهة خلفية داعمة ذات بعد إقليمي أو دولي، بما في ذلك أربيل التي تقوم بمحاصرتهم.
يشي الواقع الحالي بسوداوية المشهد أما الكرد السوريين، والكرد عامةً، في أي مشروع سياسي يتم العمل عليه، فلا النظام الدولي الحالي المنكفئ يقبل بأي مشروع وفقاً لأولوياته، ولا النظام الدولي الجديد الصاعد يمكنه أن يقبل بأي تغيير سياسي وحدودي للدول، وفقاً لثوابته المعارضة للسياسات الأميركية وأولوية إيران وتركيا فيه، ما يغلق باب الخيارات أمام أي مشروع سياسي وإمكانية استمراره، ويدفع إلى إعادة التفكير في طبيعة العلاقة مع دمشق التي بدأت بمراكمة أوراقها الخارجية، وهم لا يمتلكون ترف الوقت والخسائر تتراكم.
وقد يكون الأنجع في الوقت الحاضر التخلي عن المشروع السياسي والذهاب نحو التغيير الجذري الهادئ، بالعمل على مشروع وطني جديد قابل للولادة والحياة مع كل السوريين، فأولوية الوجود والبقاء مُقَدمة على أي مشروع سياسي.[1]