موجز عن تاريخ الكورد في حماه وحمص
#علي شيخو برازي#*
سوريا عبر تاريخها الطويل مرّت بمراحل عدة، وفي كل مرحلة كانت تحت حكم معين، والتاريخ يذكر الحاكمين ولا يذكر المحكومين، هذه حقيقة تاريخية لا بد من الإقرار بها، حمص وحماه كما المدن السورية الأخرى، تعرضتا عشرات المرّات للاحتلال والغزو، ومئات الحروب التي غيّرت الكثير من خصوصيتهما.
شعوب وأمم كثيرة استوطنت في سوريا في مراحل التاريخ المختلفة، وهذا ما يجعل هوية سوريا العرقية غير واضحة، لأنّ شعوباً عديدة ساهمت في استمرار الحضارة فيها، مثل: الفينيقيين – الآراميين– الحثيين – الهوريين – الميتانيين – الآشوريين – الرومان – العبرانيين – السريان – الفرس – العرب -السلاجقة – الكورد الأيوبيين- والترك العثمانيين، وإن استعربت هذه الشعوب خلال الحكم العربي الإسلامي.
ومن بين الشعوب الذين سكنوا سورية منذ العصور التاريخية القديمة، واستمروا على هذه الأرض حتى الآن هو الشعب الكردي، فقد سكن الهوريون والميتانيون سورية منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وهم من شعوب جبال زاغروس القديمة، وهم أسلاف الشعب الكردي.
فقد استقرّ الهوريون والميتانيون في سورية وأسّسوا فيها دولاً وممالك حكمت سوريا والمناطق المجاورة لها حقبة غير قصيرة من الزمن، فحماه وحمص من ضمن المدن السورية التي حكمها أسلاف الكورد كالهوريين والميتانيين والساسانيين.
وليس هناك هوية عرقية خالصة لأي مدينة حسب ما ورد في التاريخ القديم والحديث، فكل المدن في العالم سكّانها خليط من الأعراق والقوميات، وهذه حقيقة تاريخية يجب أن نعترف بها، فقد كانت سوريا بما فيها حماه وحمص تحت حكم الحثيين، وبعد حرب طويلة خضعت حماه وملحقاتها حتى نهر الفرات لحكم الفراعنة في القرن 18 قبل الميلاد، ثم كان الحكم مشتركاً من الحثيين والمصريين في حماه وغيرها حتى كركميش على نهر الفرات، ثم خضعت حماه وباقي المدن السورية لحكم الهوريين، وقد كانت عاصمتهم أورفا، والميتانيين الذين كانت عاصمتهم واشوكاني على نهر الخابور من 1500 – 1300 ق.م، ثم لبني إسرائيل في 1000 ق.م، إلى أن غزاها الآشوريون في 883 ق.م، وحكموها حتى 717 ق.م. ثم وقعت تحت حكم الرومان إبان حكم الاسكندر المقدوني إلى عام 64 ق.م، ودام حكم الرومان والبيزنطيين قرابة 700 عام، ثم كانت تحت حكم الساسانيين، إلى أن وقعت تحت حكم العرب سنة 637 للميلاد.
من أسماء حماه والتي تدل على وجود الكثير من القوميات في سوريا نظراً لهذه التسميات غير العربية، ولكل اسم معنى بلغة الشعب الذي سكن هذه الديار عبر التاريخ المكتوب: إيماتا – أبيفانيا – حمث، وهي من الآرامية وتعني الحصن… الخ.
“حارة البرازية في حماه”
فالوجود الكوردي في حماه وحمص قديم جداً منذ عهد الهوريين والميتانين كما أسلفنا، وهذه وثيقة تاريخية تؤكدها الآثار الموجودة في سوريا.
يقول مؤرخ حمص الخوري عيسى أسعد الذي كتب تاريخ حمص 1940عن الميتانيين: إن بعض المستندات المأخوذة من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، دلت على وجود شعب قوي، كان في شمال الجزيرة، ورث الحضارة السومرية وشاد حضارته على أنقاض تلك، وظهرت قوة هذا الشعب في الألف الثانية قبل الميلاد، إذ وجدت عدة أسماء مأخوذة من لغته الصعبة.
وأثناء الإمبراطورية الساسانية كانت حمص وحماه تحت الحكم الساساني، والمعروف أنا الساسانيين كانوا كورداً.
وقد روى صاحب الأخبار الطوال، أحمد بن داود الدينوري (ص69): إن كسرى انوشيروان أعلن الحرب على قيصر الروم لأنه لم يجبر خالد بن جبلة الغساني على رد ما أخذه من النعمان بن منذر بالغزو، فتوغل كسرى في ما بين النهرين، وهي إذ ذاك بأيدي الروم فاحتل مدينة دارا والرها وقنسرين ومنبج وحلب وأنطاكيا، وسبي أهلها إلى العراق، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب طيسفون مثل أنطاكيا دعيت الرومية، وولى أمرهم رجلا نصرانياً من الأهواز يدعى مزدفنا.
فكتب قيصر إلى كسرى يسأله الصلح، فكره كسرى البغي فرد له المدن التي أخذها، على أن يؤدي له ضريبة كل عام.
ولما قفل كسرى أصابه مرض شديد، فمال إلى حمص، فأقام بها بين جنوده إلى أن تماثل للشفاء.
فالأراضي الجبلية القريبة من سواحل بلاد الشام، خاصة التي تقع غربي مدن سورية الداخلية، حمص وحماه، من أقدم المناطق التي سكنها الكورد، فبعد زوال الدولة الحمدانية، حكمت حمص قبيلة بني كلاب العربية، وكان حاكمهم فيها شبل الدولة بن مرداس، الذي أسكن الكورد في قلعة على طريق طرابلس حمص سنة 1031 للميلاد، لحماية طريق القوافل، وسمية القلعة بعد ذلك بحصن الأكراد، وتقع القلعة غربي حمص ب 60 كم على طريق طرابلس، ولا يزال هناك قرى كوردية مثل: الحصن – وادي المولى – العامرية تل الشحم، عدا وجودهم في مدينة تل كلخ.
وفي حماه كان للكورد دوراً كبيراً في بنائها وترميم سورها وقلعتها أثناء الإمبراطورية الأيوبية، والذين سكنوا حماه وحكموها: تقي الدين عمر بن شاهينشاه بن أيوب، الذي قام ببناء مدارس كثيرة في حماه، ثم ابنه محمد الذي ازدهرت حماه بالعلم في عهده، ثم حفيده محمود، ثم ابن حفيده محمد، والملك المؤيد إسماعيل بن علي بن تقي الدين عمر الملقب بأبي الفداء، وقد سميت حماه بمدينة أبي الفداء لدوره الكبير في الأسس الحضارية للمجتمع الحموي.
وفي أثناء الحكم العثماني في القرن السادس عشر سكنت عشيرة الحسكية الكوردية في نواحي حمص، التي كانت تجمع الضرائب من تلك المنطقة لصالح السلطان.
التوافد الأخير للكورد إلى مدينة حماه ونواحيها، كان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وقد كان لوجودهم عدة أسباب، أهمها: البحث عن المراعي الخصبة، وانتقال خدمة بعض العسكريين المتطوعين في الجيش العثماني إلى حماه، ومن ثم ذهبت عائلات أخرى إلى حماه والسلمية وغيرها من القرى التابعة لحماه، حيث أقربائهم هناك ولأسباب عدة، وفي أزمنة مختلفة، وينتمون إلى عدة عشائر كوردية: زرواران شدادان شيخان ميران ومللان.
فعندما ضاقت المراعي في سهل سروج على البرازية، اتجه قسم منهم إلى محافظة حلب، وقسم إلى محافظة حماه، وسكنوا في: خربة عارف خربة القصر وبولص من قرى حماه، وهم من عائلة عبدالله آغا بن هولوخان آغا بن شمدين الشدادي، الذي سكن تلك المنطقة عام 1780 م .
وبعد ذلك سكن كلّ من حمو آغا بن أحمد آغا بن جمعة، وابن عمه باكير آغا بن جمعة، في مدينة حماه، وقد كانا من المتطوعين في الجيش العثماني، أثناء ولاية إسماعيل باشا المللي والي حماه، وهم أول البرازية الذين سكنوا مدينة حماه، وبنوا فيها حياً أسموه: حي البرازية.
في العقد الأول من القرن التاسع عشر، أرسل محمد علي باشا والي مصر في طلب أحمد آغا بن عبد الله آغا البرازي، على أن يأتي معه بأربعين مقاتل من البرازية، ليكونوا عوناً له هناك، وكان للبرازية دور كبير في القضاء على المماليك في معركة القلعة عام 1811 م، وتزوج فارس آغا بن حمو آغا في مصر من بنفشة ابنة طوسون بن محمد علي باشا.
وعندما عاد أحمد آغا من مصر، أرسل أولاد أخيه تمر آغا ومحمود السنجق وعلي بك وعبد الله وابن عمهم موسى آغا، وكانت خدمتهم في مصر والسودان، حيث قتل محمود السنجق وعلي بك في إحدى المعارك هناك.
سكنت في حي البرازية عائلات من عشيرة المللية، التي كانت متحالفة مع البرازية، وقد أتهم إسماعيل باشا المللي والي حماه وباكير آغا البرازي عام 1818 م، بمساعدة قبائل العنزة في الإغارة على حماه، ووجه صالح باشا والي دمشق قواته إلى حماه، وأصدر أمراً بإعدام والي حماه إسماعيل باشا، ونفي رجالات المللية والبرازية، فذهب باكير آغا إلى عكا وبقي فيها حتى صدر العفو عنه، ولم تعد المللية والبرازية إلى حماة حتى عام 1826 م، عندما تدخل مجموعة من الرجال البارزين ، لدى الدولة العثمانية وأثبتوا براءتهم من تلك التهمة، وفي عام 1830 م حصل رجالات البرازية على لقب (أعيان) .
أقامت البرازية علاقات جيدة مع القبائل العربية في محيطها، واكتسبت بذلك قوة واحتراماً من الجميع، وقد تعرضوا في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني في ظل سياسة التتريك، للنفي والتهجير، وصدر بحق البعض منهم حكم الإعدام، لدورهم الوطني والسياسي في سوريا.
وفي عهد الانتداب الفرنسي لعب المكون الكوردي في حماه دوراً وطنياً هاماً في كل الثورات الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، وشارك بماله وشبابه، حيث كانت مشاركة الكورد كبيرة في ثورة حماه وثورة الدنادشة، بالإضافة إلى الدور السياسي للكورد في تأسيس الجمعيات والأحزاب الوطنية في سوريا، وتقلد عدد غير قليل من أبناء البرازية مناصب هامة في الدولة، حتى نهاية الستينات من القرن الماضي.[1]