#عزيز الحاج#
خلال الحرب العالمية الأولى تنادى علماء الدين الشيعة وقبائل نهر الفرات إلى الجهاد بجانب العثمانيين ضد القوات البريطانية.
الاستعمار العثماني احتل العراق أربعة قرون، لم تشهد غير بعض الإصلاحات في عهد مدحت باشا وفي أواخر العهد العثماني. لكن فضيلة العثمانيين عند المجاهدين العراقيين كونهم مسلمين ودولة الخلافة برغم ممارسة منهج تمييز طائفي ضد الشيعة في مجرى صراعات وحروب مرت بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية. أما الإنجليز، فكانوا غرباء وكفارا، وحاملي قيم وتقاليد معادية للإسلام، ولذا كانت محاربتهم من فروض الدين؟
وهكذا، وكما كتب مثقف عراقي معروف، قرر فقهاء الشيعة الوقوف إلى جانب المسلم التركي الجائر والخاسر، وزج أبناء طائفتهم في حرب غير متكافئة محسومة النتائج سلفا. فدفع الشيعة الثمن.
وبعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة، التي كانت من نتائج ثورة العشرين، التي قامت بها قبائل الفرات الأوسط، وبدفع من رجال الدين، اتخذت القيادات الشيعية، والقيادات الدينية خاصة، مواقف التشنج والرفض من كل التدابير التي اتخذت لبناء أركان دولة حديثة، من انتخابات المجلس التأسيسي، فالتجنيد الإجباري، فالمدارس الحديثة، التي طالبوا بعدم إرسال أبناء الشيعة إليها، كما رفضوا وظائف الدولة، وطالبوا بخروج القوات البريطانية حالا، وعارضوا الاتفاقيات العراقية – البريطانية التي فرضها الأمر الواقع. وهكذا، دفعت القيادات الدينية الشيعية وكثرة من ساسة الشيعة جماهير الشيعة ومثقفيها للانكماش عن الوضع الجديد، بما فيه دخول وظائف الدولة، التي كان قبولها معرضا لفتوى تحريم الزوجة! وهذا ما استغله الفريق المتعصب من ساسة السنة، ممن تربوا وتخرجوا في المعاهد العسكرية العثمانية، لتبرير ممارسة نهج طائفي مقنع برغم أن الدستور كان ينص على عدم التمييز.
وفي الثلاثينات كانت قبائل الفرات الأوسط الشيعية في تمردات مسلحة دائمة بتشجيع من رجال دين كبار: منها ما كان مبررا لحد كبير كتمرد سوق الشيوخ عام 1935، ومنها ما كانت نتيجة استخدام رجالات الحكم للقبائل لتصفية حساباتهم في الصراع على السلطة، وأعني خاصة محور علي جودت الأيوبي وجميل المدفعي بمقابل محور رشيد عالي الكيلاني وياسين الهاشمي. وبسبب هذا الصراع على السلطة، باستخدام القبائل الشيعية، وبمباركة بعض كبار رجال الدين في النجف، انقسمت القبائل عامي 1935 و1936 على نفسها من موال لياسين الهاشمي ومن موال للمحور الآخر. وكان زج رجال دين كبار، كالشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، خطأ كبيرا في انحيازه أولا للهاشمي، مما جلب عليه نقد العشائر الأخرى ونقد مثقفين شيعة كالمرحوم جعفر الخليلي الذي ذكر في كتابه الموسوم (هكذا عرفتهم، ص 236) عن لقائه مع الإمام كاشف الغطاء وهو يناقشه عن تاييد الهاشمي، فقال: قلت له ليس لديَّ اعتراض أن تمضي في تاييد من تريد من الساسة لو كنتَ سياسيا. أما وانك زعيم روحاني فلا يسوغ لك بأي وجه من الوجوه ان تميل الى جهة دون جهة وأنت في هذا المركز من الزعامة الروحية. وكان العلامة كاشف الغطاء قد عرف المعضلة فترك التدخل في السياسة.
وهكذا استطاع ساسة سنة، ومنهم من المدرسة العثمانية، تسخير الشيعة لأغراضهم السياسية [ ياسين الهاشمي أثناء حكومته منع خروج المواكب الحسينية في الشوارع]. وأستدرك للمقارنة بين تلك المواقف المتشنجة ذات العواقب الضارة وبين مواقف معظم نخب السنة بعد سقوط صدام، ولفترة طويلة نسبيا، وصدودهم عن النشاطات السياسية من انتخابات وكتابة الدستور، ولجوئهم للتحامل وإدانة الاحتلال والمحتلين. والنتيجة؟ النتيجة ما حصل من إضعاف لدورهم في الحياة السياسية، كما حصل شيء مماثل، من قبل، للدور الشيعي.
فهل اتعظوا؟ لا يزال كثيرون يعتبرون القوات الأميركية أصل البلاء ولا يتساءلون عن دورهم هم!
ومعظم ساسة الشيعة اليوم، هم أيضا لم يستوعبوا تماما دروس تجارب الأسلاف السلبية وذلك على ضوء ما نشهد من ممارسات وسياسات. نعم، لقد ظلم الشيعة كثيرا، ولكن الظلم كان عادلا في تعميم نفسه وبدرجات مختلفة. واليوم فإن الأحزاب الشيعية تمسك بمقاليد الحكم مع الجبهة الكردستانية، فيكفي الحديث عن المظلومية والحاكمية، وعليهم الانطلاق من مبدأ المواطنة لا من قوقعة الطائفة. نعم الظروف معقدة، والطبقة السياسية عموما لم تبرهن على كونها لدى مستوى المسؤوليات، والأعداء متعددون. ولكن هذا لا يبرر محاولة الاحتكار، وانتشار الفساد، وتهاوي الخدمات.
وبصدد مظلومية الشيعة في العهد الملكي، فنحن نعرف أن فيصل الأول عمل على تصحيح الوضع لصالح مشاركة شيعية أكبر في عتلات الدولة، ولكن رحيله المفاجئ عرقل مواصلة الإصلاح، رغم أن الوصي عبد الإله حاول في السنوات العشر الأخيرة من العهد الملكي مواصلة نهج فيصل الأول، وذلك بإسناد تشكيل أربع حكومات لساسة من الشيعة. كما نعرف أن عبد الكريم قاسم كان فوق جميع نزعات التمييز الطائفي والديني، خلافا لما مارسه النظام البعثي في عقده الأخير من تمييز منهجي، طائفي وعرقي.
أما ماذا كان رد فعل الأحزاب الشيعية التي تمكنت من الساحة بفضل الأميركيين والإنجليز: رفع شعار الحاكمية للشيعة في الخطب الدينية والسياسية، وظهور أمثال مقتدى الصدر ومليشياته التابعة لإيران وصراخه اليومي باسم مقاومة الاحتلال، وصراعات القوى، والتشبث بعباءة المرجعية، وسن دستور مهلهل ومتناقض مختلف على تفسيرات بنوده، ويقوم تشريعه على أحكام الشريعة المناقضة للديمقراطية. ومحاولة الالتفاف على هدف الدولة المدنية والديمقراطية سلوك تنهجه كل أطراف الإسلام السياسي أينما كانت. فإخوان مصر مثلا تظاهروا بأنهم مع هدف الدولة المدنية ولكنهم سرعان ما أضافوا بمرجعية إسلامية. ونتذكر رئيسا سابقا لمجلس النواب العراقي حين قال إنه سيضرب كل قانون لا يتطابق مع أحكام الشريعة بالقندرة [الحذاء]، مبرهنا على عظيم إيمانه بالديمقراطية!
لقد تراجع مبدأ المواطنة لصالح القواقع المذهبية والعرقية والحزبية والشخصية، وهذا وباء تساهم فيه مختلف القوى وليس الإسلاميون الشيعة وحدهم.
حقا، لم يستوعب معظم ساسة العراق تجارب الحركة الوطنية وتجاربهم، وتجارب أسلافهم نفسها. فوا أسفا! ولنا عودة لاحقا في هذا الكتاب.
* الفصل الأول من كتاب: رحلة مع تحولات مفصلية، ينوي المؤلف نشره فيما بعد.[1]