#عزيز الحاج#
الفصل الرابع – فلسطين – راح تتقسم، والله حرام!
ما من قضية عادلة في المنطقة ارتبطت بمجمل أحداثها منذ الثلاثينيات، وما من قضية عادلة أساءت لها نخبها القيادية وأصدقاؤها المزيفون من ساسة العرب، كقضية الشعب الفلسطيني، الذي انتهى مصيره إلى التشرد والمخيمات وانقسام القيادات على الأراضي الفلسطينية التي تحت سلطتها.
في بداية الصبا، في منتصف الثلاثينات، كنت أستمع، مرة، لأغنية سلامة الأغواني فلسطين الحبيبة.. راحت تتقسم والله حرام.
وفي أواخر الثلاثينات كان العراق مشغولا بدرجة نشيطة بالقضية، وقد حل في العراق مفتي فلسطين الراحل الحاج أمين الحسيني ليصبح لولبا لنشاط سياسي ضد بريطانيا، وباتجاه الميل للمحور الفاشي، وذلك بوهم أن ألمانيا وإيطاليا الفاشيتين سوف تدعمان حقوق العرب وحقوق الشعب الفلسطينية بوجه خاص. وكنا قد توقفنا لدى تلك المحطة فيما سبق.
كانت مواقف القيادات العربية من حاكمة ومن معارضة ضد أي حل للقضية الفلسطينية غير قيام دولة فلسطينية عربية. ولما تقدمت بريطانيا عام 1939 بمشروع دولة فلسطينية عربية يكون اليهود فيها ربع السكان ويتمتعون بحكم ذاتي، فإن المشروع جوبه برفض فلسطيني وعربي شامل. وهكذا ضيعت الأوهام والمزايدات تلك الفرصة التاريخية التي كانت ستجنب الشعب الفلسطيني والمنطقة تعقيدات القضية وتشابكاتها التي نعاني منها اليوم.
وفي عام 1946 حلت ببغداد ودول عربية أخرى لجنة تحقيق أنجلو – أميركية حول مصير فلسطين، جوبهت في العراق بموجة احتجاجات وإضراب عام، رافقته مظاهرات شيوعية خلافا لرأي الأحزاب العلنية الخمسة، وهو ما سبب توترا ساخنا بينها وبين الشيوعيين. وطلبت الدول العربية من بريطانيا الدخول في مفاوضات معها حول القضية الفلسطينية قبل انعقاد اجتماع الأمم المتحدة في سبتمبر 1946، ولكن الحكومة العراقية عادت وأعلنت أنها لن تتفاوض مع اليهود ولا تعترف بأية صفة رسمية للهيأة الصهيونية العالمية في فلسطين، ولا محل من الإعراب لليهود على طاولة المفاوضات، كما رفض العراق التفاوض مع أميركا واعتبرها متطفلة على القضية. وقد فشلت المفاوضات التي جرت في لندن، مما دفع ببريطانيا لقرار عرض القضية على الأمم المتحدة. وفي مارس 1947 اتخذ البرلمان العراقي قرارا دعا للذهاب للأمم المتحدة لإعلان استقلال فلسطين كدولة عربية، وفي حالة الفشل، فإن دول الجامعة ستنفذ القرارات السرية التي اتخذتها في بلودان من قبل والقاضية بإعادة النظر في العلاقات الاقتصادية والسياسية مع بريطانيا والولايات المتحدة. ولكن هذا القرار لم ينفذ بعد صدور قرار التقسيم. وفي أيار 1947 قررت الجمعية العام للأمم المتحدة تأليف لجنة تحقيق دولية موسعة ضمت دولا مثل: السويد والهند وإيران وبيرو وغواتيملا وتشيكوسلوفلكيا ويوغوسلافيا وغيرها، ولكن القيادة الفلسطينية الرسمية رفضت التعاون معها، مع أنها كانت قد اتصلت بلجنة التحقيق الأنجلو – أميركية، وطلبت من الدول العربية مقاطعتها في 30 -11- 1947.
بعد قرار التقسيم أعلنت الحكومات العربية أنها ماضية لإحباط قرار التقسيم! والحيلولة دون قيام دولة يهودية والاحتفاظ بفلسطين عربية مستقلة موحدة. كما تقرر توزيع بعض السلاح على رجال فلسطين للمقاومة.
نعرف التطورات اللاحقة بعد لك من حرب عربية في فلسطين وهدنة بعد هدنة لتنتهي الأوضاع إلى هدنة دائمة رفضها العراق وسوريا وحدهما. وبسبب كل تلك المزايدات والسياسات الخاطئة خسر الفلسطينيون مساحات واسعة حتى من الجزء المخصص لهم بموجب قرار التقسيم.
عند صدور القرار الدولي كان اليهود في فلسطين قد شكلوا أكثر من ثلث السكان، ولم يكونوا أقلية صغيرة، وكانوا أقوى تجاريا واقتصاديا ولهم حلفاء أقوياء في العالم. وهؤلاء الحلفاء لم يكونوا في الغرب وحسب، كما اعتاد الإعلام العربي القومي واليساري عرض الأمر، بل كان ستالين من أقوى داعمي قرار التقسيم ومعه حكومات الكتلة الشرقية. ومن يقرأ تصريحاتهم في مجلس الأمن والأمم المتحدة، خصوصا خلال الحرب العربية، فسوف يجد أن الحملة الشرقية على العرب كانت لا تقل سخونة عن الحملة الغربية بل وأحيانا أشد.
القضية الفلسطينية كانت ولا تزال وسيلة متاجرات ومزايدات في أيدي معظم الحكومات العربية والقوى السياسية عامة. وقد استخدمت الأحكام العرفية عام 1948 باسم الحفاظ على مؤخرة الجيوش العربية المحاربة لضرب قوى المعارضة في الدول العربية وتقييد الحريات. ولم تستخدم أوصاف واتهامات بالخيانة في الساحة السياسية العربية كما حصل ويحصل باسم فلسطين. تحولت القضية إلى ذريعة لتأجيج مشاعر العداء ضد اليهودي واليهود ودينهم رغم وجود شرائح واسعة من يهود فلسطين والعالم مع الحق الفلسطيني في دولته المستقلة بجوار الدولة العبرية. ونذكر أن الحكومة العراقية قررت طرد كل موظف يهودي من دوائر البرق والبريد ثم نظمت مسرحية قضية عدس، الذي اتهم بالتهريب لإسرائيل. وفي 1950 طالب نواب حزب الاستقلال بترحيل يهود العراق ومصادرة أملاكهم. وأصدرت الحكومة لائحة قانونية لمجلس النواب في 2 مارس لإسقاط الجنسية عن اليهود الراغبين في الهجرة لإسرائيل، وقد صادق المجلس على اللائحة. ومع ذلك فلم يترك العراق في نهاية العام سوى 23 ألف نسمة من مجموع حوالي 200 ألف. فعمدت المنظمات الصهيونية لعمليات تفجير في الأحياء السكنية وأماكن العبادة اليهودية مما أثار الرعب فاشتدت المزاحمة على الهجرة. إن نسبت عمليات الإرهاب للعراقيين خصوصا كانت الصحافة القومية، كجريدة اليقظة لسلمان الصفواني تنشر يوميا مقالات تحريض وتهديد ضد اليهود.
باسم القضية الفلسطينية أيضا أعدم قادة الحزب الشيوعي فهد ورفاقه. وباسم القضية قام الراحل جمال عبد الناصر بانقلابه العسكري على الملكية ليقيم أول نظام شمولي في العالم العربي برغم أنه، أيضا، قام بإصلاحات اجتماعية لصالح الفلاحين والشعب عامة، ولكن على حساب تصفية الأحزاب والحريات، والدخول في مغامرات، خارجية.
في العراق، كان القوميون، ممثلين في حزب الاستقلال، يرفعون شعار دولة فلسطينية عربية. ويشحنون الشارع ضد يهود العراق. وكان اليسار مع شعار دولة فلسطينية ديمقراطية موحدة. وشكل الشيوعيون اليهود عام 1946 منظمة ضد الصهيونية باسم عصبة مكافحة الصهيونية. ووقف الحزب الشيوعي من التقسيم في بداية الأمر موقفه المتمسك بشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية الموحدة رغم الحماس السوفيتي لقرار التقسيم. وكان وزير خارجية الاتحاد السوفيتي غروميكو قد ألقى خطابا أمام الجمعية العامة في 14-05- 1947 [كتاب عزيز سباهي عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي] ورد فيه أنه إذا ساءت العلاقات بين عرب فلسطين ويهودها لحد استحالة إنشاء دولة عربية – يهودية مشتركة، فلا مفر من التقسيم إلى دولتين عربية ويهودية.
الشيوعي العراق لم يؤيد التقسيم فورا كما يرد في تاريخ الوزارات للحسني. فقد ظل متمسكا بسعار الدولة الديمقراطية الموحدة وكان هذا أيضا موقف فهد في السجن والذي لم يتفق مع التحليل السوفيتي عن وجود قوميتين يهودية وعربية في فلسطين. ولكن التأييد السوفيتي استغله قوميو حزب الاستقلال والإخوان المسلمون لشن حملة عدائية ضد اليسار واليهود، والتحرش بالمظاهرات الشيوعية، من عمالية نقابية وطلابية وغيرها. وعندما نشبت الحرب في فلسطين [شاركت فيها سبع دول عربية وهي دول الجامعة عهد ذاك] صدرت مقالات جريدة الأساس التي كان الشيوعيون يشرفون عليها في دعم الحرب، ولكن هذا استمر لمدة قصيرة. وكانت المقالات بقلم المرحوم زكي خيري الذي كان قد انضم مؤخرا للحزب حين كان في سجن الكوت مع فهد. ولم يؤيد الحزب قرار التقسيم إلا في 6 تموز 1948 مطالبا ب إقامة دولة عربية ديمقراطية مستقلة في الجزء العربي من فلسطين. وواضح لي تماما أن ذلك الموقف لم يجر بعد تحليل متعمق، وإنما بدفع وتأثير من الحزب السوفيتي. وبعد بيان الحزب صدر- بمبادرة من الشيوعيين السوريين واللبنانيين- بيان رباعي شيوعي عربي [سوريا ولبنان وفلسطين والعراق] مشترك في أوائل أكتوبر، داعما للقرار الدولي.
إن دعم الشيوعيين للتقسيم أدى لحملة صاخبة جديدة ضد الحزب الشيوعي، شنها اليساري الديمقراطي عزيز شريف [انضم فيما بعد للشيوعي] وكامل الجادرجي. فنشرت في الصحف العراقية جملة مقالات إدانة لموقف الشيوعيين. وأذكر أنني رددت بتوقيع مستعار على مقالات كامل الجادرجي في صحيفة علنية [اعتقد كانت العصور لسليم طه التكريتي].
والآن هل كان الحزب محقا في دعم قرار التقسيم وقد صار قيام إسرائيل أمرا واقعا ويحظى بشرعية الأمم المتحدة؟ أعتقد كان الموقف من حيث المبدأ صحيحا وإن كان يعني سباحة ضد التيار العام السائد وإحراجا وعزلا للحزب في حينه. ربما تكتيكيا كان يمكن تأخير قرار التأييد لإعلانه مع نقد مجريات الحرب العربية غير المهيأ لها، وكيفية استغلال الحكومات العربية لها ضد الحريات العامة. ومهما يكن فإن إسرائيل أصبحت واقعا لا يمكن تجاهله وإنما التعاطي معه بما يحقق أكبر قدر من الحقوق الفلسطينية بدلا من الحروب الفاشلة، وخاصة كارثة 5 حزيران 1967 التي أدت لخسران ما تبقى من فلسطين، إضافة إلى أراض عربية غير فلسطينية، وضم القدس الشرقية لإسرائيل.
واليوم، فإن السياسات الفلسطينية والعربية لا تزال تتخبط في هذا الميدان وصارت القضية أداة مزايدات دول إقليمية أخرى كإيران وتركيا الأردوغانية، وتحولت قوى فلسطينية بإرادتها لتكون أداة لحسابات سورية وإيرانية، بينما يستمر التعنت الإسرائيلي في موضوع الاستيطان الذي صار وقفه هو شرط شروط الفلسطينيين لعودة المفاوضات.
إن الملاحظ أن الدعايات العربية خلال العقود المنصرمة لا تحمل غير أميركا المسئولية، رغم دور الاتحاد السوفيتي وكتلته في التقسيم. وعندما وقف أيزنهاور بقوة ضد العدوان الثلاثي عام 1956– طبعا انطلاقا من حسابات أميركية خاصة – ظل عبد الناصر يشن حملاته على أميركا ومعه دول عدم الانحياز ويمتن العلاقات أكثر مع الكتلة السوفيتية.
لقد أقر جورج بوش في مطلع ولايته الثانية بمبدأ الدولتين، وأعارت دبلوماسيته أهمية استثنائية لقضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، وكانت وزيرة خارجيته زائرة شبه دائمة للمنطقة. وقد توجت الجهود في المفاوضات الثلاثية باتفاق انابوليس مع نهاية 2007 حيث بحثت جميع جوانب القضية. وأوقفت إسرائيل الاستيطان عشرة شهور دون أن يستأنف الجانب الفلسطيني للمفاوضات لإحراج الإسرائيليين وتشديد الضغوط عليهم لتنفيذ ما اتفق عليه. ثم حدث التبدل الرئاسي الأميركي وطرحت إدارة أوباما شرط وقف الاستيطان للشروع بمفاوضات جديدة، مع أن المفاوضات كان يجب استئنافها من حيث انتهى اتفاق أنابوليس. وهكذا دخلت القضية في مأزق مستمر، وازداد التدخل الإيراني من خلال حماس وحزب الله، وكان لمحاولة تديين القضية بالحدث المستمر عن المقدسات في القدسدور كبير في تسهيل استخدام القضية لغير صالحها، حتى أن إيران تسمي فيلق التدخل الإرهابي خارج الحدود باسم فيلق القدس. وكان صدام قد أعلن في التسعينيات عن تشكيل جيش القدس، مدعيا أنه ضم عدة ملايين، ثم ذاب فجأة!
بعد صراع طويل تمت مصالحة شكلية بين السلطة الفلسطينية وحماس الذي لا يعترف لحد اليوم بحق إسرائيل في الوجود. أقول هي مصالحة شكلية للتناقضات الحادة في المواقف المبدئية، ولسلوك حماس المعادي للديمقراطية والعلمانية وارتباطاته السورية والإيرانية. ويبدو أن القيادات الفلسطينية تضع اليوم كل البيض في سلة استصدار قرار دولي بقيام الدولة الفلسطينية المنشودة. فهل سوف تنجح؟ وأية دولة ستكون وبأية ركائز ووفق أية سياسات، فيما لو اعتمد قرار بشأن التأسيس وبلا فيتو أميركي؟! أم أن قصف إسرائيل بالصواريخ ومشروع انتفاضة جديدة هو الطريق؟ أم نتائجهما عكسية ؟!
أجل، لقد استغلت هذه القضية العادلة أسوأ استغلال سياسي من أطراف كثيرة في المنطقة، وبلغت الدعاية باسم فلسطين منذ الثلاثينات فالتقسيم خاصة والحروب المتتالية درجة أن صارت القضية في أعماق وعي ولاوعي المواطن العربي بحيث يسهل استخدامه باسم القضية لغايات لا تدخل في حق الشعب الفلسطيني المستباح. وكان يكفي إقحام اسم إسرائيل وفلسطين في ظروف معينة، وخصوصا عند اشتداد السخط الشعبي على الجور والضيق المعيشي، لكي يمكن لهذه الفئة العربية الحاكمة أو تلك تصريف السخط الشعبي وصرف نظر الجماهير عن مطالبها العادلة في الحرية والحياة الكريمة. وهذه لعبة اليوم أيضا لمواجهة الانتفاضات العربية وصرف وجهتها عن مطلب الديمقراطية إلى حمى صراع خطابي، أو تحرش مصطنع مع إسرائيل. وإن ما حدث مؤخرا بعد ضرب عناصر حماس لإسرائيل بصواريخ من سيناء، وهياج الشارع المصري للمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي وإلغاء معاهدة كامب ديفيد مع أن الانتفاضة في أيامها الأولى لم ترفع أي شعار أو لافتة لهما علاقة بذلك. ولكن الناصريين والإخوان والساسة المزايدين ينتهزون الفرصة للكسب السياسي والمتاجرة ولحرف النضال الجماهيري- هذا إن استطاعوا.
إن فشل الحرب العربية الأولى كان لأسباب إستراتيجية دولية ولموازين قوى لغير صالح العرب والفلسطينيين. صحيح أن الجيوش العربية لم تكن على القدر اللازم من الكفاءة والاستعداد برغم بطولات قامت بها وخصوصا القوات المصرية والعراقية. ولا كان الفشل بسبب دور كلوب باشا رغم انه كان دورا سلبيا. الفشل كان محتما لأن مجمل الأوضاع الدولية كانت ضد الحرب العربية، ولأن إسرائيل كانت قد أصبحت واقعا فعليا وقانونيا بموجب القرار الدولي، فضلا عن الخبرة العسكرية لدى المقاتلين الإسرائيليين وعدم جدية بعض الدول العربية. وأما شعارات قطع العلاقات مع الدول المسندة لإسرائيل، وكان يقصد بها بريطانيا وأميركا، وقطع النفط عنها فكانت لمجرد المكابرة والمزايدة لأنها كانت شعارات غير عملية في تلك الظروف العربية والدولية.
المأمول أن يستفيد الوطنيون الفلسطينيون قبل غيرهم من كل تلك التجارب الطويلة والمريرة والقاسية، وان يتوصلوا لصيغ الحلول الأقرب للواقعية، والتي يمكن أن تحقق أخيرا هدف الدولة الفلسطينية المستقلة، التي نأمل أن تكون ديمقراطية.
أخيرا، وعن تجربتي الشخصية، فقد انجرفنا في حركة القيادة المركزية نحو التطرف في الموضوع الفلسطيني أيضا ليقترب من مواقف القوميين؛ فقد رفعنا شعارات تصفية الكيان الصهيوني وإقامة الدولة الديمقراطية الفلسطينية الواحدة. وأدنا تأييد الشيوعيين لقرار التقسيم، ودعونا لحرب شعبية وعسكرية لتحقيق تلك الأهداف غير الواقعية. وقد حملت معي لليونسكو خلال عملي فيها طويلا ذلك التطرف، وساهمت بدور سلبي في المواقف العربية عند النقاشات حول التعليم والثقافة في الأراضي المحتلة وحول الممتلكات الثقافية في القدس. وكادت المنظمة الدولية تتصدع عام 1974 عندما فرضنا سلسلة قرارات ضد إسرائيل، كان منها ما لا يخص العرب أصلا. وأكثر من ذلك فإن كثيرين من الوفود العربية للمؤتمر العام في نيروبي عام 1976 اصطدموا بالوفد الفلسطيني نفسه لمرونته واعتبروا موقفه ميوعة وتفريطا تحت ضغوط غربية!!
إن مواقفي راحت تتغير تدريجيا بعد اتفاقية أوسلو التي أيدتها مع التأكيد على أنها اتفاقية الحد الأدنى التي فرضتها موازين القوى. وكنت في موقفي قريبا من موقف الراحل محمود درويش حين قال عن الاتفاقية لا ترضيني ولكنني لا أعارضها. وقد انتقدت فيما بعد رفض الراحل ياسر عرفات لمشروع صفقة بيل كلينتون عام 2000 ، التي كانت ستعيد حوالي 90 بالمائة من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب 5 حزيران 1963، مع حل مرحلي للقدس مقبول من الطرفين. عاد عرفات من أميركا ليعلن رفض الصفقة، وربما ندم فيما بعد. ومع الزمن راحت القيادة الفلسطينية تنزل من سقف المطالب. وهكذا خسر الفلسطينيون تلك الفرصة بعد خسران الفرصة الأكبر عام 1939 حين رفضوا مشروع دولة فلسطينية عربية مستقلة مع حكم ذاتي لليهود. وإنصافا فإن للإعلام والشارع العربيين والغوغائية السائدة في المنطقة ومزايدات الحكومات دورا كبيرا في دفع القيادات الفلسطينية نحو تلك المواقف التي ثبت عدم خدمتها للحق الفلسطيني.
وأعود، وكما كنت قد ابتدأت به في الكتاب، لأقول إن السياسة فن الواقع ومنهج خذ وأعطني وليس منهج إما كل شيء وإما رفض أي شيء ولو كان لصالح القضية ولو جزئيا. ولست هنا كما في كل مقالاتي وكتبي في موقع من يتصدى لإعطاء الدروس وأنا الذي اقترف في حياته السياسية أخطاء كبرى. ما أسجله هنا من أفكار أو مقترحات هو واجب أؤديه بكل تواضع كمثقف تهمه المصالح العامة، عراقية أو عربية؛ مثقف حريص على الاستفادة من تجارب أخطائه وأخطاء الحركات الوطنية العربية وغيرها. ويكفيني راحة ضمير لو كانت في هذه الطروحات أشياء مفيدة للآخرين.
****
[ ملحق:
كان نور الدين محمود قائد القوات العراقية في الحرب، ولعب عبد الكريم قاسم وضباط آخرون دورا عسكريا جيدا وأعني بالمعايير العسكرية. وأما ما أثير عن أن الجانب العراقي ترك القوات المصرية وحدها محاصرة في الفالوجة وما تعرضت له من خسائر فادحة، فقد يكون مفيدا أن نورد ما يخص الحدث من مذكرات المرحوم فاضل الجمالي كما ورد في الجزء الثامن من تاريخ الوزارات العراقية.
يقول الجمالي في كتابه [ ذكريات وعبر ص 47 ]:
استدعاني السيد مزاحم الباجه جي [كان رئيس الوزراء] إلى ديوان مجلس الوزراء، وكلفني بمهمة السفر إلى القاهرة للتداول مع المرحوم النقراشي، رئيس وزراء مصر آنذاك...حول المساعدة التي يمكن للجيش العراقي أن يسديها للجيش المصري، وقد خولني أن أعرض على النقراشي باشا ما يلي:
1- وضع الجيش العراقي في فلسطين تحت القيادة المصرية لتتصرف به كما تتطلبه المصلحة؛
2– مساعدة الجيش العراقي بعتاد لطياراته.... وذلك لكي يتوفر غطاء جوي للجيش العراقي إذا أراد التحرك ؛
3- إقراض الحكومة العراقية مليون جنيه لشراء العتاد الذي يحتاج إليه الجيش العراقي إذا أريد منه الحرب..
وكان رد مصر على ما تقدم:
إن مصر لا تتحمل مسؤولية الجيش العراقي، وإن مصر لا تستطيع تقديم العتاد للطائرات العراقية. وإن مصر ليس لديها قانون إعارة وتأجير كي تسلف العراق مليون دينار للحرب الفلسطينية.... إزاء كل ذلك طلب النقراشي باشا أن يقدم [العراق] طائرات فيوري للجيش المصري إذا شاء أن يساعد مصر لا أن يطلب العتاد لطائراته.
بعد تلك المقابلة أبرقت إلى الباجه جي أقترح عليه الحضور إلى القاهرة، فجاء ووزير الدفاع المرحوم شاكر الوادي إلى القاهرة وتم الاتفاق على أن يقدم العراق لمصر ثلاثا من طائراته الفيوري.. وهكذا كان...]
ملحق:1
عندما اشترطت القيادة الفلسطينية عام 2009، بعد تسنم أوباما للرئاسة، وقف الاستيطان شرطا لعودة التفاوض، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي العمالي السابق، أولمرت، مقالا في واشنطن بوست ترجمته الشرق الأوسط في عدد 20-07- 2009. ويقول المقال إنهم بحثوا في أنابوليس خارطة طريق لكل النقاط الجوهرية. أما موضوع المستوطنات، فكان دوما يعزل بحثه لمفاوضات سرية نظرا لحساسية الموضوع إسرائيليا أيضا. يقول أولمرت: حتى اليوم، لا يمكنني أن أستوعب سبب عدم قبول القيادة الفلسطينية العرض بعيد المدى وغير المسبوق الذي قدمته لهم. وكان اقتراحي يتضمن حلا لجميع القضايا المعلقة: التفاهم حول الأرض، والترتيبات المدنية، والقدس، واللاجئين. ويضيف: يجب رفع بناء المستوطنات من على الأجندة العلنية، ونقلها لحوار منفصل، كما كان في الماضي. وفي تصريحات لمحمد دحلان في 5 مايو 2010 ، أشار إلى أن إسرائيل قررت سرا وقف بناء 1600 وحدة استيطانية في رايات شلومو.
**
ملحق2 :
نبيل عمرو، الذي كان مستشار ووزير الراحل ياسر عرفات، كتب مؤخرا أن أي قرار من الأمم المتحدة بدولة فلسطينية لن يكون عمليا وإن صار قانونيا. وكان قد وجه عام 2002 رسالة للراحل عرفات، منتقدا رفض عرفات لمشروع الدولة الفلسطينية الذي قدمه له بيل كلينتون. قال نبيل عمرو في رسالته:
ألم نرقص طربا لفشل كامب ديفيد [حيث كان الحوار الثلاثي الفلسطيني- الإسرائيلي – الأميركي عام 2000 – عزيز]؟ ألم نلق الطين على صورة الرئيس كلينتون، الذي تجرأ على تقديم دولة فيها بعض التعديلات؟ ألم نفعل ذلك؟ هل كنا صادقين في ما فعلناه؟ لا، لم نكن، لأننا، بعد عامين من الدم، صرنا ندعو إلى ما رفضناه بعدما تأكد لنا استحالة تحقيقه....؛ و كم من مرة رفضنا ثم قبلنا، ودائما كنا لا نحسن القبول ولا توقيت الرفض. كم مرة كان المطلوب أمرا نستطيع تحقيقه ولم نفعل، وحين أضحى مستحيلا صرنا نوسط طوب الأرض، كما يقال، كي يعاد طرحه علينا من جديد ... [ صحيفة الحياة في 29 سبتمبر 2002 – مقال العفيف الأخضر بعنوان: لكنها ثورة حتى الهزيمة![1]