الفامينية
إلهام أحمد
يتم تعريف الفامينية بشكل عام ضمن أوساط المرأة بمجموع النشاطات التي تخص المرأة، أي النشاطات النسوية التي تهتم بشؤون المرأة على وجه الخصوص، وتخوض النضال بهدف تحقيق المساواة في الحقوق وفرص الحياة المتعادلة بين الرجل والمرأة. الفامينية كمصلح يعبر عن جنس المرأة ظهر على شكل تنظيمات تنظم نفسها على شكل جمعيات وحركات ومنظمات نسائية. بالمستطاع تعريف أو رؤية الفامينية كفكر أو كطريقة للتعامل مع قضايا المرأة بشكل خاص ومستقل تهتم بتطوير طاقات المرأة ذاتها وتسعى لتحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين. والفامينية كفكر لا تعبر عن طريقة واحدة أو شكل واحد من طرق العمل والتعامل مع القضية النسوية، إنما من الممكن تعريفها كتفسير أو تعليق لإيديولوجياتٍ مختلفة بخصوص حقوق المرأة والنضال في سبيل نيلها.
لأن الفامينية لم تتكون من تيارٍ واحد أو جمعية واحدة. بل هي فكرة مشتركة بين التيارات المختلفة التي تحتوي على العديد من المواضيع التي تعارض قهر وانسحاق وإنكار المرأة وتنتقد أدوار المجتمعية الجنسوية الأبوية. حيث تتواجد تعليقات وتفسيرات وأشكال عديدة للتيارات الفكرية كالليبرالية والوجودية والاشتراكية والماركسية والايكولوجية )البيئية( والفوضوية الأنارشية والإسلامية وغيرها من المذاهب والتيارات المختلفة. فالفامينية لا تعني عداوة الرجل وإنكاره كما يقال أو يتم شرحها في الأوساط العملية الاجتماعية العالمية وأكاديميات الفكر الاجتماعي في غالب الأحيان. فالذهنية الذكورية المؤسسة للنظام الأبوي الذي يشير إلى أن الفامينية تعني عداوة الرجل ويجاهد في سبيل تحريفها عن مضمونها وجوهرها الأصلي تنبع من مدى خوف وذعر هذا النظام من تطور الفامينية ووصولها إلى وضعية قوية تهدد وجوده وكيانه، علما أن أدوات ووسائل النضال لدى الفامينيين تبقى ضعيفة و ناقصة لتستطيع تغيير المجتمع المترسخ بالسلطة الذكورية.
لقد تبين على مدى التاريخ بأن المرأة عاشت كجنس معرض للاستغلال والظلم و شتى أشكال العنف والعبودية، ومن خلال كل هذا فقد حُرمت من الإرادة والهوية الجنسية الحرة وتجزأت إلى طبقات وأصنافٍ مختلفة تعيش وتتحرك بالهوية الذكورية. واليوم بنفس النمط نشهد بأن الإنسانية أصبحت قاب قوسين بين النهج الذي يمثل الذكورة ويسعى للسيطرة على كافة جوانب الحياة واستملاكها ومن ضمنها المرأة ككائن حي لها كما للرجل حق الحياة والفكر والعمل، وبين النهج الديمقراطي المتمثل بجوهر ثقافة الأنثى التي بدأت بالظهورمع بدايات الثوررات العالمية التي شاركت المرأة فيها بزخم كبير لكنها ومع الأسف بقيت المرأة كما هي الأم التي تضحي دون أن تلقى نتيجة تضحياتها تلك سوى زيادة نسبة العبودية والتعميق فيها.
كما تعرضت المرأة لحياةٍ مليئة باللامساواة واللاعدالة والاستغلال والتفرقة والتصنيف الطبقي والجنسي والتحكم بإرادتها سواء بالعنف أو عن طريق السلم، فالعنف الذي تتعرض له أصبح من الأركان الأساسية لسيرورة نظام المجتمع الذكوري. كما مرت على الطبيعة أيضاً نفس التخريبات من خلال سيطرة وهيمنة الإنسان عليها، كالتعقيم وفقدان التوازن البيئي وما شابه ذلك. ولكن رغم كل هذا نستطيع أن نشهد في تاريخ البشرية وجود مجتمعات محتفظة ببقايا ثقافة الأنثى المتمحورة حول جوهر المرأة في أماكن مغايرة، ولكنها عاشت في أوقات ومراحل قريبة من بعضها، وقد دامت حياتها على شكل مسالم وفي مجتمعٍ لا طبقي ولا يحتوي على أي أثر من آثار الاستغلال والعنف والظلم بين أفرادها، بل كانت متلاحمة ومنسجمة مع المساواة والعدالة والكرم والجمال والإخلاص، ونظامٍ اجتماعي متكون بمقاييس ومعايير الحب والاحترام. حيث أن جميع المعطيات والبحوث التي طرحت في شتى فروع العلم التاريخي والاجتماعي حول أنظمة هذه المجتمعات الأمومية تبين أهمية ونوعية هذه المجتمعات بشكل تدريجي رغم أنها لا تزال محدودة من جهات عديدة.
وبما أن العلم لم يُنقذ من حدود براد يغما حاكمية سلطة الرجل فبدون أي شك سيتم حصر وتضييق مواقف علوم الاجتماع والتاريخ ولن يتمكنا من إبداء أية مواقف مستقلة في هذه الحالة. إلا أن المستوى العلمي والتكنيكي المتفوق، ومجادلات شعوب ومجتمعات العالم والمرأة على وجه الخصوص في سبيل التنوير والتوعية تساعد على إنشاء الظروف التي تتيح لإظهار بعض الحقائق التاريخية بهذا الخصوص. و تتحول الفامينية إلى موضوعٍ لشتى البحوث والنقاشات الأكاديمية في يومنا الراهن رغم التأخر والإهمال الطويل من هذه الناحية، علماً بأنه لم يتم تناولها كعلمٍ من العلوم الأساسية ولم يتم تحليلها بشكل محترف. وبمساهمة بعض الباحثات الفامينيات تم تنوير الموضوع بعض الشيء وفُتح السبيل أمام تطور وعيٍ مهم وذي معنى ونوعية كبيرة. لكن لا تزال هناك الكثير من النواحي والخواص بانتظار الشرح والتفسير.
إن موقف المرأة نحو هذا الانقلاب التاريخي الذي حدث في مواجهة نظام وثقافة الأنثى والوقوع على مدى خمسة آلاف عام كان على أساس المقاومة وبوضعية التصدي، حيث كانت هذه المقاومة في بعض الأحيان من الناحية الجسدية وفي أحيان أخرى من النواحي الروحية والفكرية. وعند تحليل حقيقة المجتمعات العبودية والرأسمالية السلطوية نشاهد بأن المرأة لم تُهضم ولم ترضَ بالدور الاجتماعي الذي عُيِّن لها من قبل النظام الرجولي المهيمن من صميم قلبها. وبنفس الشكل لم ترضخ وتقتنع في أعماق نفسها بتعريف العقائد السماوية التي تنظر إلى المرأة كجنس ثانٍ وتضعها موضع المال أو الملك العائد للرجل وترسّخ عبودية المرأة وكأن الله خلق المرأة ناقصة عقل وبدن، ويطلب منها أن تكون مطيعة للرجل المقنع بستار الألوهية المنزلة من عند الله. وقد بيّن القائد آبو في مرافعاته أن المرأة واجهت هذه الأنظمة الاجتماعية والعقائدية المتحكمة بكل ما لديها من طاقة وقوة داخلية ولم ترضخ أو تنسجم مع هذه المعتقدات والأحكام الذكورية في أي وقت من الأوقات، وبالإضافة لذلك نرى بأنها قد انحصرت في ميدانٍ واحد ألا وهو ميدان الحياة الخاصة أي ضمن الأوساط العائلية والمقربين من العائلة. لهذا فقد تم حبس مقاومة المرأة في هذا الميدان الخاص على الدوام ولم تتمكن من إظهارها إلى الخارج أو أن تنفتح في الميادين العامة. لأن المرأة تُركت خارج نطاق ميادين الحياة العامة بسبب حقيقة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و الثقافية التي تعيش فيها. وبناءً على هذا فقد انغلقت المرأة على نفسها في ميدان الحياة الخاصة لأنها لم تحث على تكوين الإمكانيات التي ستتمكن عن طريقها من تحقيق انطلاقة منظمة وقوية في مواجهة هذه الأنظمة.
وللمرة الأولى نضجت إمكانية خروج المرأة من نطاق حياتها الخاصة بانضمامها إلى الساحات العملية مع تطور بنية الرأسمالية التي تعتمد على منطق الكسب والربح والتي استفادت وانتفعت من إنتاج عمل يد المرأة في مطلع تطورها. وإلى جانب حياة المرأة المنزلية أصبحت صاحبة حياة عملية أيضاً. ونتيجة هذه التقربات النفعية من جهد المرأة تم تأمين انفتاحها على الحياة العامة وخروجها من قوقعة حياتها الخاصة.
كما أخذت المرأة مكانها إلى جانب الرجل في الثورة البرجوازية الفرنسية التي تطورت ضد الأرستقراطية الإقطاعية بناءً على تحرير الهوية والحقوق الطبقية. حيث كان المبدأ الأساسي لفلسفة هذه الثورة مبدأ حقوق الإنسان. إلا أننا نجد في بيان حقوق الإنسان الذي أعلن عنه آنذاك أن المرأة قد حُرمت من هذه الحقوق حتى أنه أدى إلى فتح السبيل أمام النقاش و السؤال الذي يعبر عن هذا المضمون ) هل المرأة إنسانة أم لا ؟ (.
وهنا لأول مرة تتناقض المرأة مع فلسفة الثورة إلى أن أخذت بها هذه التناقضات إلى الافتراق عن السبيل العام والتوجه نحو سبيل خاص بها. وفيما بعد تشكلت النظرية المنظمة لحقوق المرأة التي تم تسميتها بالفامينية انطلقت الحركة النسوية الفامينية في موجتها الأولى كحركة منظمة في أمريكا خلال مؤتمر سنيكا فلس عام 1848م. وكانت البداية قد تطورت من خلال جماعات الإصلاح الاجتماعي، كجماعات إلغاء العبودية، جماعات التطهير الاجتماعي، والحركات المعتدلة .وقد أدركت النساء بأنه لكي يتمكنّ من تغيير المجتمع لا بد لهن من إنشاء هيئاتهن المنظمة، وقد تجمعن حول سلسلة من القضايا من حضانة الأطفال، حقوق الملكية، الطلاق المداخل إلى التعليم العالي، والمهن الوظيفية، إلى حق الأجر المتساوي، وقوانين الحماية للنساء في العمل.
رغم أن النسوية كفكر طبقاً للكثير من الكتابات السائدة مطروحة على أنها غربية الأصل والنشأة، إلا أنها في الحقيقة وجدت تأصيلاً لها في الشرق في نفس الفترة، حيث ظهر ما يمكن أن نسميه «النسوية الأنوثية الشرقية « التي سارت على خطا مشاريع التحديث تطورا وتأثرا بالحداثة الغربية سواء في ظل محاولات التغلب على الاستعمار من خلال تقليد نقاط القوة فيه أو من خلال مقاومة الاستعمار بالعودة إلى نقاط القوة في الحضارة الإسلامية نفسها. وسواء على الطريقة التركية التي حاولت النقل المباشر للتجربة الغربية أو على الطريقة المصرية فقد تناغمت جميعها في الطرح والنقاش حول قضايا النساء في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وبدء المد الغربي الاستعماري في المنطقة.
وقد تمثلت النسوية الشرقية في تواجد تيارين يعلو خطاب كل منهما حيثما تتواجد ظروف بيئية وسياسية ملائمة. تيار تبنته الأنظمة الرسمية في كل من تركيا، إيران ما قبل الثورة الإسلامية، مصر، وتونس وهو الذي يتبنى الكفالة الرسمية لحقوق النساء في التعليم والعمل ويضع قضية السفور وقوانين الأحوال الشخصية كرمز للتحرر. وتيار تبنته الحركات السياسية الإسلامية المعارضة التي تقف بتأنٍ على حقوق النساء في التعليم والعمل ضمن شروط ويضع في المواجهة قضايا السفور والاختلاط كرمز للهوية ومقاومة النظام والغرب معاً وقد ارتفع صوت هذا الخطاب مع الثورة الإسلامية في إيران وتصاعد الحركات الإسلامية السياسية في السودان والجزائر والأردن واليمن ولبنان. الزمن الاجتماعي الذي نعيشه حاليا يعلن دوره في تكوين المجتمعية والإنسان والمرأة بشكل واضح.
ويمكن أن نسمي هذه الفترة الزمنية بالمجتمعية الأولى التي تتطور فيها الحركات الديمقراطية المتمحورة حول طبيعة المرأة المجتمعية. علماً بأن كل الحركات والتنظيمات الفامينية والاجتماعية تحت كل المسميات لم تأتِ بنتائج تُحدث التحول الاجتماعي الحر في المراحل التي ظهرت فيها، ذلك لاعتمادها على نظام الدولة المركزية وأخذها نفس المنحى للتحرر من سلطة الطبقة. لهذا كانت الحركات الفامينية في الغرب والفامينية في الشرق التي لم يظهر لها اسم واضح كحركات سوى أنها مثلت ردّات فعل على مرحلية متماشية مع تيار الحركات الطبقية العامة التي ظهرت في تلك المجتمعات، وبالتالي لم تكن قادرة على انتهاج طريق مستقل بها لتكون المؤثر الفعال في المجتمع، لهذا تراجعت هذه الحركات مع انتشار موجة الثقافة الرأسمالية التي تفرغ الحركات من جوهرها، وتحولها إلى حركات ذيلية تابعة لإمرة الثقافة الرأسمالية، كما أنها ساهمت في تغذية النظام الرأسمالي بطريقة نضالها والفكر الذي مثلته في عدم إمكانية العمل بدون دولة ونظام مركزي.
لهذا وتلافياً للخطأ الذي وقعت فيه هذه الحركات لا بد من تطوير نظام ديمقراطي مجتمعي كومونالي كأساس لتحقيق الحرية. الفلسفة والبراديغما التي يمثلها الشعب الكردي هي فلسفة التحرر خارج إطار الدولة المركزية، فالثورة التي تحققت في غرب كردستان أثبتت أن المجتمع بإمكانه أن يدير نفسه بنفسه دون
أن يعتمد على نظام الدولة المركزي عن طريق تنظيم قراه وأحياء المدن على شكل جماهيري مجتمعي يسمى بتنظيم الكومونات الاجتماعية. أي أن تأمين الحياة الاجتماعية هو البذرة الأساسية لبناء التنظيم، والمرأة التي رأت أن قضية المرأة تكمن في تأمين الحياة الاقتصادية كانت على خطأ وتفكيرها كان ناقصاً ، باعتبار قضية المرأة هي قضية ذهنية بالدرجة الأولى، فإذا لم يتم تغيير الذهنية والنظرة الدونية للمرأة لا يمكن للاقتصاد أن يحررها، التحرير يبدأ من الفكر والذهنية، التنظيم وشكله أيضا يعبر عن نوع الحرية، فإذا كانت المرأة غير منظمة من غير الممكن أن تتحرر.
حتى شكل التنظيم وهيكليته وفكره أيضا يحدد نسبة الحرية التي يحصل عليها المرء. لهذا أثبتت التجارب القديمة أن الحركات المتحمورة حول الدولة لا تأتي بالحرية، إنما البديل هو تطوير الكومونات المجتمعية الخاصة بالمرأة في كافة مجالات الحياة وحسب الحاجة. لا بد من تطوير الكومونات الاقتصادية الخاصة بالمرأة لتحسين وضعها المعيشي وإشراكها في الحياة الاقتصادية. كما أنه من الضروري جدا أن يتم تطوير كومانات تساهم في تطوير التوعية لدى المرأة كي تعيش حياتها بوعي.
هذا إلى جانب تطوير الكومونات الخاصة بالمجالات الأخرى كالصحة والطفل والتعليم والشبيبة والإعلام الخ.. من كومونات تخص الحياة اليومية.
هذه الكومونات هي التي تشرف على إدارة الحياة اليومية، حيث تزيل التطفل والاعتماد على الدولة وتجبر المجتمع على التفكير واتخاذ التدابير حول كيفية إدارة حياته اليومية وتحديد مستقبله بنفسه، كما أن نوع هذا التنظيم يحد من سلطة الدولة ويجبرها على توزيع صلاحيتها بالتساوي مع المجتمع. وتنظيم المرأة الكومونالي يساهم بشكل خاص في تطوير ذهنية وثقافة المجتمع الأنثوي في الحياة، وبتطوير تنظيمها الخاص تُزال المسافة بين الجنسين وتتحقق العدالة الاجتماعية مع إزالة الفارق الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي بينهما.
خلال الأعوام الثلاثة الماضية أثبتت تجرية الإدارة الذاتية أنها الأكثر نجاحا في إطار تحقيق الحرية، وهي القادرة على شمل كافة التجارب القديمة واستنتاج الدروس منها لتطبيق التجرية العملية الواضحة في إطار تطوير المجتمع الديمقراطي الحر.[1]