ما يجمع الشعوب من مشتركات في التاريخ يجب صنعه بالعمل في حاضرنا
يوسف خالدي
لا حرية لأي فرد في أي وطن، إن لم تكن الجماعة التي ينتمي إليها حرة في تقرير مصيرها، وهذا القرار يعود لها فقط وليس لأي جماعة أخرى كبيرة كانت أعدادها أو قليلة.
تعتبر سوريا إحدى دول بلاد الرافدين والمقصود بهذا المصطلح هو، الأراضي الواقعة بين ضفتي نهري الفرات ودجلة وما جاورها من أراضي لتشمل اليوم، أرض العراق وسوريا وتركيا وإيران.
أثبتت الحفريات الأركولوجية والدراسات المتعددة في مختلف الاختصاصات والتنوعات، أن هذه المنطقة مرت بمرحلة ما قبل الصيد، ثم شهدت مرحلة الصيد وأبدع سكانها حينما استطاعوا تدجين النباتات البرية وبعض أنواع الحيوانات لأول مرة في مناطق شمال شرق العراق الحالي، وفي جبال زاغروس وشرقي الأناضول، أي المناطق التي تم تسميتها لاحقاً بكردستان، لتسمى تلك الحقبة من الزمن بعصر الثورة الزراعية، حيث شهدت تلك المناطق خطوات البشر نحو المدنية من خلال عثور العلماء على أولى القرى الزراعية التي أقامتها الجماعات البشرية التي استقرت في بيوتها جماعات الصيد في جرمو وحموكر وحسونة والعبيد.. الخ، كمقدمات مهدت لنشوء دولة المدن في سومر.
وما أن أهلّت الألف الثالثة ق.م وفي ربعها الأول حتى استطاع الإنسان التوصل إلى اختراعه للكتابة التي أتت في البداية كحاجة ملحة لتلبية أغراض ومتطلبات معبد الإله ونوابه من البشر لحصر أعداد الهدايا التي كانت تقدم للإله والمعبد.
إن توصّل العلماء إلى فك رموز تلك الكتابات التي جاءت على شكل مسامير، كان يقوم الكتبة بغرزها في قطع مسطحة أو أسطوانية من طين الغرين المتجمع حول ضفتي نهري دجلة والفرات، وفرت لنا كبشر اليوم إمكانية التعرف على سكان تلك المناطق، أسمائهم صفاتهم، لغاتهم مناطق سكناهم، حيث أصبحنا نعلم اليوم وبشكل يقيني، أن هؤلاء أطلقوا على أنفسهم في القسم الجنوبي والوسط من أرض العراق اليوم سومر (الأرض المنخفضة)، وعلى جوارهم في الشرق إيلام، وفي الشمال سوبارتو (الأراضي العليا). خلفوا لنا نصوصاً كتابية عن أسماء مدنهم وأسماء القبائل والأقوام، وشواهد عن نشاطهم وحروفاً مكنتنا من التوصل إلى اللغات التي كانوا يتحدثون بها.
كما تقدم لنا الأساطير معتقدات سكان تلك المناطق وطرق تفكيرهم واعتقادهم، وعن العلاقات التي كانت تربط تلك الشعوب بعضها ببعض، (أسطورة إنمركار وجلجامش.. الخ).
نعلم بأن السومريين كانت تربطهم علاقات تجارية تعود إلى العصر ما قبل الكتابي، كما نعلم بأن ما كان يربط تلك الشعوب، المعتقدات الدينية، وعلاقات المصاهرة والزواج، ونعلم أيضاً بأن مفهوم العالم بدأ يتوسع في أذهانهم كلما تطورت وسائل التواصل والانتقال باختراعهم للعجلة ومدى نجاحهم في استئناس الحيوان للركوب، أو لنقل الأحمال التجارية.
نعلم أيضاً أموراً كثيرة عن الحروب التي كانوا يخوضونها والحملات العسكرية التي بدأ الأكاديون الذين بدؤوا يفدون إلى أرض الرافدين من البادية (السورية) بعد تشكيل أول ملك حكمهم ثم حكم المنطقة (سارغون الأول) بعد أن تغلب على دول المدينة السومرية وملكهم لوكال زاجيري وإخضاع سومر لسلطة الأكاديين وقدمت لنا النصوص لغتهم بأنها كانت مختلفة عن لغات سكان سومر وإيلام وزاغروس وسوبارتو.
سقطت دولة أكاد وتفككت دولتهم المركزية وحل حكم الجوتيين مكان الحكم الأكادي، ثم عاد السومريون إلى حكم سومر وعاد السكان المحليون إلى حكم مناطقهم من خلال إعادة استرجاعهم لاستقلالية ممالكهم، بعد عودة السومريين من خلال أسرة أور الثالثة إلى حكم سومر.
علمنا من النصوص أن أكاد كانت لها علاقات مع شعوب زاغروس من إيلاميين وجوتيين ولولوويين وسكان سوبارتو الحوريين في الأناضول وشمال شرق سوريا الحالية، راوحت بين الحروب والحملات العسكرية والزواج والمصاهرة والتحالفات، كما مارس الجوتيون هذا الدور لمدة تزيد عن القرن، وبحلول الألف الثانية، بدأت عناصر بشرية جديدة بالدخول إلى المنطقة أطلقت عليهم نصوص أسرة مملكة أور الثالثة اسم العموريين الذين كانوا قد بدؤوا في الدخول إلى تلك المناطق إما سلماً أو عنفاً وبقوة السلاح.
أسس هؤلاء العموريون عدة ممالك عمورية على أنقاض ممالك السومريين والحوريين بعد حروب استمرت طوال المدة التي حكمت خلالها سلالات عمورية أرض الرافدين، من خلال عواصمهم الثلاث، بابل – آشور- ماري، إلى أن تم إسقاط هذه الممالك العمورية وتأسيس شعوب زاغروس والأناضول لثلاث ممالك قوية حكمت المنطقة لقرون طويلة وهي مملكة كاردونياش – ميتاني- حاتوشا. إضافة إلى ممالك الإيلاميين.
سقطت مملكة ميتاني على يد الحثيين ثم أكمل عليها الآشوريون الذين كانت قوتهم قد بدأت بالتصاعد، ثم استمرت الحروب والصراعات بين آشور والحثيين، وبين الحثيين والمصريين، إلى أن سقطت حاتوشا العاصمة بفعل غزوات شعوب البحر.
قام بعض ملوك الحوريين بتأسيس دولة أورارتو التي حكمت معظم المناطق التي كانت تحكمها ميتاني وحاتوشا، واستمر الصراع بينها وبين آشور إلى أن تعرضت بلاد الرافدين للغزو السكيثي الكيمري، تأسست بعدها دولة ميديا التي أخضعت بلاد الرافدين لسلطة ملوكها بعد سقوط مملكة آشور، ثم الدولة الإخمينية بعد قضائها على مملكة بابل، ثم غزوات الإسكندر وحكم السلوقيين لبلاد الشرق القديم لثلاثة قرون ونصف، ثم تشكل الدولة الأشكانية وحكمها للمنطقة لمدة تزيد عن خمسة قرون، ثم الدولة الساسانية التي واصلت حروبها مع الرومان الذين حلوا مكان اليونانيين، ثم سقوط الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية بعد دخول العرب بدينهم إلى المنطقة فاتحين.
كان حكم العرب من خلال السلالة الأموية والعباسية قصيراً، وكانت جيوشهم عاجزة عن مسك الأرض وإخضاع سكان إمبراطوريتين تكاد تشمل معظم أراضي الشرق القديم، الأمر الذي ألزم حكام هاتين السلالتين على الإقرار بحكم السلالات المحلية الوطنية لأراضي ممتلكاتهم، مع تكليفهم ببعض الالتزامات اتجاه الدولة المركزية.
لم تختلف الأوضاع في ظل دولة الخلافة الإسلامية حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول
حيث كان الخلفاء قد أقروا وعلى مراحل بسلطة أسر من أقوام أخرى كالإيرانيين ممن عرف بعضهم بالفرس والبويهيين والكرد، ثم الخزر والسلاجقة الترك والمماليك يضاف إلى هذه الكيانات السياسية، كيانات أخرى أصغر سميت بالإمارات وكانت أشبه بالمستقلة في سلطاتها عن المركز في بغداد. ولم تختلف الأوضاع كثيراً عن الأوضاع السابقة في العهدين الصفوي والعثماني.
ما الذي يمكن فهمه من حركة التاريخ هذه وتدفقه نحو الأمام؟ وما العنصر الذي يمكن تسميته بالثابت وما هو المتحول والمتغير في هذه الحركة؟
الثابت هو أن الأرض لم تتغير وبقيت الجهات والمواقع في أماكنها، كذلك الشعوب استمرت في وجودها.
على الرغم من أن سردنا لحركة التاريخ هذه، قدّم لنا صورة سوداوية عن العلاقات التي كانت تربط شعوب الشرق القديم بعضها ببعض، حتى كاد يخيل لنا بأن تلك الشعوب أمضت كل أوقاتها في الحروب، إلا أن الأمر في حقيقته لم يكن كذلك، ففترات السلم والرخاء المادي كانت أطول بكثير من فترات الحرب.
إن تلك الحروب لم تكن بقصد إبادة الشعوب، وإنما كانت تقاد ويتم خوضها لأسباب تتعلق برغبات الملوك في الحصول على ألقاب العظمة، وعلى الثروات وعلى قوة العبيد.
تلك الحروب ورغم اتسام بعضها بسمة الترحيل القسري والتهجير، إلا أنها لم تكن تهدف إلى تغيير طبيعة السكان الديمغرافية، وإنما تهجير بعض الجماعات التي كان ملوك الدولة المغيرة يخشون من قيامهم بالثورة على حكمهم.
أكثر تلك الحروب والمنازعات كانت تنتهي بتوقيع معاهدات سلام وتبعية الملك أو الحاكم المحلي لسلطة الملك الغازي، وما إن كانت قوات ذاك الملك تعود إلى الوطن، حتى كانت تلك البلدان والممالك، تعود إلى استقلالها.
الغالبية العظمى من تلك الحملات وكانت متبادلة، لم تكن تنتهي إلى فرض ديانة وعقيدة الملك الغازي ومملكته على شعوب الممالك المغزية، فمجمعات الآلهة في بابل وأكباتانا وبرسبوليس وحاتوشا وميتاني وحتى آشورونينوى وجوتيان وسومر وطيسفون وأنطاكيا كانت تعج بتماثيل آلهة تعود لبلدان عديدة.
إن الولاء كان يقدم من قبل الممالك التي كان يتم غزوها من قبل حكامها المحليين لسلطة الملك وحده وليس لسلطة الدولة في أغلب المشاهد.
السمة الأكثر تجذراً في حركة التاريخ هذه تقدم لنا عبراً ودروساً لم تستفد منها النخب التي تحكم اليوم دول المشرق، وأغلبها تحكم كيانات مصطنعة ليست من صنع شعوب المنطقة وأشكال الحكم فيها تختلف تماماً عن أصالة التقاليد المشرقية التي عرفتها جميع الممالك وهي:
أن الشعوب سواء كانت أصيلة في المنطقة، كالسومريين وشعوب زاغروس والأناضول وهضبة إيران، أو التي عرفتهم المنطقة لاحقاً، توفرت لهم جميعاً ظروف حكم فيها كل شعب لفترة من الزمن، ثم انتقال السلطة من هذا القوم إلى قوم آخر لفترة أخرى من الزمن.
شعوب الشرق هذه من عاش منهم تحت سلطة دولة مركزية في دولة إمبراطورية حكمت شعوباً متعددة، أو شعوب عاشت في ممالك صغيرة، حافظت على وجودها عبر أساليب متنوعة. ولم يتعرض أي منها إلى إنكار لوجوده.
كما أن حكام الدولة المركزية في دول الإمبراطورية المتعددة الأسماء على مر التاريخ تجنبوا سياسة إبادة الأقوام المحلية، وهذا ما لم تستطع الدول القومية التي أنشأتها إرادة الدول الاستعمارية من الحفاظ عليه، حين أصبحت هذه الأوطان ملعباً لرغبات ومطامح سياسيين باتوا يرون أن أرض هذه الدولة المصطنعة، هي دولة العرب أو الترك أو الفرس وبدأ حكامها ونخبها الفاسدون بحجب الحقيقة التي عاشتها شعوب الشرق عن أعين الأجيال عبر خلق تاريخ مصطنع مزيف لهذه الدول القومية المصنعة، وراء حجاب أحادية قومية الدولة واللغة والدين. إلا أن التاريخ قدم ولا يزال يقدم لنا الدرس وراء الدرس، بأن لكل شعب حظه في العيش حراً وكريماً، وإن ما كان يجمع بين هذه الشعوب، لا زال مستمراً وأن المشتركات في الحياة لا نجدها فقط في التاريخ، وإنما في حاضر يجب صنعه بالعمل على أن تعيش هذه الأقوام إما جيراناً متحابين متعاونين مستقلين، أو شركاء متعاونين في السراء والضراء وفق مقولة أرسطو، الوطن شركة والجميع مساهمين في هذه الشراكة وأضيف بقولي: لا حرية لأي فرد في أي وطن إن لم تكن الجماعة التي ينتمي إليها الفرد حرة في تقرير مصيرها. وهذا القرار يعود لها فقط وليس لأي جماعة أخرى كبيرة كانت أعدادها أو قليلة.
يوسف خالدي باحث في التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة[1]