الكاتب #ميرزا حسن دنايي#
ليس من السهل التطرق إلى موضوع #طاووس ملك# في ظل الكثير من سوء الفهم وقلة المعرفة في مجتمعنا كما في المجتمعات المجاورة لنا، ولكنني استند في تفسيري حول طاووس ملك على ثلاثة جوانب؛ أولها روحي وديني-فلسفي، والثاني تاريخي ولغوي، والثالث خلط المفاهيم حول طاووس ملك بالمقارنة مع المجتمعات المجاورة.
- ففي الجانب الروحي والديني والفلسفي، لابد أن نعرف أن الديانة الإيزيدية لديها نظرة خاصة عن الخالق أو الإله الأعظم خودي أو أيزي، فهو الإله الواحد الأحد الذي خلق نفسه ثم خلق الكون بكل جوانبه، ولأن خودي هو الإله المطلق فهو خالق الخير والشر، لهذا ليس هناك ملاك شرير ولا ملاك عاصي، كما أن الله لديه 1001 لقب، ففي نص ديني يقول:
Sultan Êzî bi xwe pedşa ye
Hezar û yek nav li xwe danaye
Navê mezin her Xweda ye
الترجمة:
سلطان ايزي هو الإله
سمى نفسه بألف اسم واسم
الاسم الأعظم هو خودا
وإذا ما راجعنا نص ديني آخر عن تسميات أو ألقاب هذا الإله الأعظم خودي، فسوف نجد نصاً مهماً جداً، يوضح مكانة طاووسي ملك، حيث يقول النص:
Êzî, û Tawisî Melek û Şîxadî yekin
Hûn me’niya jêk mekin
Ew zû miraza hasil dikin
الترجمة:
أيزي وطاووسي ملك وشيخادي واحد
لا تفصلوه المعاني عن بعضها
هو الذي يحقق الأماني
وبما أن الديانة الإيزيدية تؤمن بتناسخ الأرواح فهي أيضاً تؤمن بتعدد صور الألوهية، لهذا يعتقد أتباع الديانة الإيزيدية أن هناك درجات أو مراتب يظهر فيها خودي، (مرتبة مطلقة، مرتبة مع الملائكة، ومرتبة مع الكون أو الأرض).
وهي كلها ضمن صفاته الألف: فتارة هو أيزي، حينما يكون الأمر متعلقاً بالسماء وألوهيته السمائية (في مكان آخر أيضا إله الشمس)، وفي صفته الثانية هو إله أو ملك الملائكة طاووس ملك، وفِي صفته الأخيرة المرتبطة بالأرض فهو آدي، وهنا يجب التنويه بأن كلمة أدي وشيخادي لا تعني الشيخ عدي بن مسافر، فالإيزيدية دائماً تتحدث عن ألوهية فلسفية متجلية بمعزل عن القديسين الذين ظهروا في تاريخهم، فهناك شيخ حسن، الإنسان، وهناك شيخسن الملاك المرتبط بالقمر، وهناك شيخ شمس الإنسان، وهناك شيشمس الملاك المرتبط بالشمس، (له علاقة أخرى مع شمشي ادد) -في العهد الأشوري، لا مجال لذكره هنا.
والخلاصة أنه من الناحية الفلسفية خودي وأيزي وطاووسي ملك كلها صفات لله سبحانه وتعالى في المفهوم الإيزيدي.
- وفي جانب أو الناحية التاريخية واللغوية؛ فإن كلمة طاووس (تاوس) جاءت من لفظ في اللغة البهلوية (استخدمها الشمسانيون قديماً)، وأيضا استخدمت في اليونانية، ولا تعني الكلمة (طائر الطاووس)، وإنما جاءت من كلمة (تيوس)، التي تعني الإله، وطاووس ملك، أو تاوس ملك - لكون حرف طاء غير موجود في الكورمانجية -، يعني إله الملائكة.
وهنا يجب القول إن الزرادشتية التي انشقت عن الإيزيدية (الشمسانية)، كسرت مبدأ وحدانية إله الشمس (الذي يتجلى فيه أيزي وطاووسي ملك وغيره من الألقاب)، ودعت الزرادشتية إلى ثنائية الآلهة (إله الخير وإله الشر) وأخذت المسيحية والإسلام هذا المبدأ من الزرادشتية - مع تغيير صفة إله الشر إلى ملاك الشر، كتطور آخر لمبدأ التوحيد في بلاد كنعان والجزيرة العربية، دون أن يحددوا بالضبط كيف يبقى الشر إلى الأبد موازي للخير-.
وعلى أية حال فإن أسوأ ما أصاب الإيزيدية في عصر الزرادشتية، أن التعاليم الزرادشتية، لكي يتم فرضها بالقوة تارة وبالفلسفة تارة أخرى، حاولت إبعاد الناس عن العقيدة الشمسانية الإيزيدية، فتم قلب صفة الآلهة، وتم تعريف تيوس (طاووس) الذي كان رمز الإله وصفة من صفات إله الخير لغاية ذلك الوقت، تعريفاً شريراً، حيث جعل من هذا الاسم صفة ملازمة للعفاريت والجن الأشرار، وأعطوا صفات طاووس ملك الخيرة إلى أهورامزدا، ولهذا تطورت الكلمة في الأدب الفارسي-الكوردي لاحقا إلى كلمة (ديوس) و(ديو). دلالة إلى العفاريت.
ورغم أن طاووس ملك ظل في الأدب الديني والاجتماعي الإيزيدي هو صفة الحكمة والخير المطلقين وليست هناك صفة شريرة ضمن صفات طاووسي ملك عند الإيزيدية، لكن الأقوام المجاورة باتوا ينعتونه بعكس صفاته الربانية الخيرة (الحكمة والخير والأبدية)، وأصبح كأنه القوة الثانية الإلهية أو الملائكية عند الآخرين -التي تدل على الشرور-.
وتاريخياً ذهب الكاتب جورج حبيب وغيره من الكتاب المنصفين مثل زهير كاظم عبود، إلى ربط طاووسي ملك مع الإله نابو، الذي كان الإله البابلي الذي يعبد في معبد إيزيدا في بابل، وهذا الربط أيضا غير بعيد عن الحقيقة إلى حد كبير، لأن نابو هو إله الحكمة وفِي نفس الوقت هو في المرتبة الثانية من مجمع الآلهة البابلية، علماً أنه اكتسب هذه المرتبة بعد أن قام حمورابي بإعلاء شأن الإله مردوخ، وهذه كانت مناورة سياسية بحد ذاتها، حيث أن الإله نابو (طاووس ملك) كان إلهاً مسالماً للحكمة والخير ولَم يكن يشجع الحروب والقتال، لذلك احتاج حمورابي إلى إله حربي قوي يضاهي الإله آشور حتى يستطيع أن يقوده إلى الحروب ويقنع الناس بشن هذه الحروب، على عكس السومريين المسالمين، الذين يعتبر نابو واحد من ميراثهم الديني، أجبر حمورابي على قبوله أيضاً، بسبب إيمان الناس به، فأصبحت الحكمة هي المرتبة الثانية في تسلسل أهمية الآلهة، ومع ذلك نجد أن البابليين كانوا في أعياد رأس السنة البابلية في الربيع، وفِي يوم الأربعاء منه بالذات، بكافة رهبانهم يأتون من بورسيبا إلى معبد إيزيدا ليقدموا للإله نابو فروض الولاء والطاعة كل سنة، وهذا التوقيت هو نفسه توقيت رأس السنة الإيزيدية، عيد الإله نابو (طاووس ملك).
- أما من ناحية إشكالية الإيزيدية مع المجتمعات المجاورة بخصوص طاووسي ملك، فمع ظهور المتصوفة ولجوءهم إلى مناطق الإيزيدية التي كانت منغلقة على نفسها ضمن الدولة الإسلامية كمجموعة بشرية مستسلمة للواقع السياسي الديني، ومع لجوء شيخ عدي بن مسافر إلى الإيزيدية، وهو الذي كان متأثراً بحسين الحلاج وأفكار الوحدانية، امتزجت قصة إبليس خطأً مع صفة طاووس ملك، دون أن يكون للإيزيدية أساساً صلة مع إبليس لا من قريب ولا من بعيد، ولكن فكر المتصوفة الذي قام ينزه إبليس ويرفع من قيمته من بين الملائكة وفق النظرة القرآنية -الكتابية، وجعله في المرتبة الثانية بعد الله في الفكر الصوفي، هذه الملازمة تم قياسها مع المفاهيم الشمسانية-الإيزيدية ونسخها أو تطبيعها داخل المجتمع الإيزيدي -غير المتعلم-، وكوسيلة سيئة للاندماج دخلت أفكار إسلامية داخل المجتمع الإيزيدي من خلال هؤلاء المتصوفة، فأصبح هناك مزيج من أفكار أعطت انطباعا خاطئاً لدى الآخرين عن علاقة الإيزيدية مع إبليس بدون وجه حق.
والمشكلة التي لا يفهمها المسلمون وغيرهم من الجوار ولا حتى المسيحيين، أن صورة إبليس وصفاته (منبع الشر الإغوائي المرخص ربانيا) لا تنطبق على طاووسي ملك (رمز الحكمة والخير الخالدين)، لكن هذا الخلط أوقع المجتمع الإيزيدي أيضا في إشكالية، خاصة مع تكرار الاتهامات في الخمسمائة عام الأخيرة، حيث أن تهمة عبادة إبليس حول الإيزيدية لا تتجاوز أكثر من خمسمائة عام، من تاريخ ديانة عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، وهذا دليل آخر حول عدم وجود ربط بين طاووس ملك (إله الشمس، إيزي، خودي، آدي) وبين إبليس في الأديان الكتابية.[1]