طارق حمو
مراد قره يلان، رئيس لجنة الدفاع في منظومة المجتمع الكردستاني، وفي تحليل له حول العقلية التي تحرك الدولة التركية وتضع لها استراتيجيات التعامل مع الشعب الكردي، قال بأن تركيا اليوم تسيّرها ذهنية الاتحاد والترقي، وليس العثمانية الجديدة، كما هو شائع!.
البلاد يديرها تحالف مكون من حزب العدالة والتنمية (#AKP# ) الإسلامي التوجه، وحزب الحركة القومية (MHP)، (وهو حزب فاشي تماماً، كما ينبغي القول دائماً)، ظهر للعلن بداية عام 2016 على انقاض “عملية السلام” بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. وهذا التحالف هو الذي يضمن الأغلبية البرلمانية المطلوبة لحزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة وقيادة البلاد. وهو، كذلك، من يٌبقي رجب طيب أردغان والمجموعة الأوليغارشية التي تدرو في فلكه، وتحتمي بسلطته، على سدة الحكم. والشرط الأوحد والأهم لحزب الحركة القومية للبقاء طرفاً في التحالف، وبالتالي تحمل حركة الانشقاقات والتشظي في قياداته وقواعده، لأنه “أصبح دمية في يد أردوغان”، هو تعميق الحكومة لحربها الشاملة ضد الشعب الكردي في داخل وخارج تركيا، وتجيير كل امكانيات وقوة الدولة لصالحها، لتحويل هذه الحرب، على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى نفير عام و”تعبئة وطنية”، يتم تسويقها رسمياً بوصفها “استكمال لعملية الاستقلال الوطني”، وحماية لتركيا من “خطر الزوال والاندثار” !.
ما نشاهده الآن من مظاهر الحرب الشاملة ضد الشعب الكردي في عموم المنطقة، هو البند الأهم في “كشكول” تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية الفاشي. الشرط الوحيد في هذا التحالف هو المضي قدماً في قتل وتهجير وإبادة الكرد واحتلال مناطقهم، وإحداث تغيير ديمغرافي فيها، وعدم التفكير مطلقاً في إجراء أي حوار مع حزب العمال الكردستاني، ضمن أية صيغة من صيغ الحل والتسوية السياسية. حزب الحركة القومية يرى في هذا الشرط ترجمة لحقيقة وجوده وممارسة عملية و”طبيعية” لبرامجه في التطهير العرقي وإبادة الشعب الكردي، وبالتالي، تنقية الدولة من القوميات غير التركية، وصولاً إلى “الحل النهائي” للقضية الكردية!. وحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، يجدان في التمسك بهذا التحالف، ومواصلة شن الحرب ضد الكرد، وجعلها أولوية و”مسألة وجود”، طوق النجاة الوحيد الذي يضمن بقائهما في السلطة، بعد التراجع الواضح في شعبية الحزب، وتردي الوضع الاقتصادي تحت حكمه، وانتشار الفقر والبطالة، فضلاً عن تخوف أردوغان ورهابه من محاكمته وحاشيته إذما خسر الانتخابات ووجد نفسه خارج قصر (دولمه باهجه)، حيث فتح ملفات الفساد العائلي، وقضايا دعم حكومته للإرهاب الإسلامي في سوريا وليبيا، إضافة لمسؤوليته عن حملات مطادرة المعارضين، وتكميم أفواه الصحفيين وتقييد وسائل الإعلام وقمع الحريات العامة.
إذن فأساس التحالف بين الحزبين يقوم على محاربة الشعب الكردي والقضاء على أية حقوق أو صيغ إدارة يقوم عليها أو يتشارك فيها الكرد. وهذه الأساس، كما ذهب قره يلان، هو من صميم فكر وذهنية جمعية الاتحاد والترقي، ولا يعتبر من ركائز السلطنة العثمانية البائدة، والتي كانت قائمة على أساس الإسلام السني وفكرة الخلافة، وكانت تعترف بهويات الشعوب وبمناطقها الجغرافية: حيث لم تكن ثمة غضاضة من ذكر اسم الكرد كشعب، وكردستان كمنطقة جغرافية معلومة ومحددة. فجمعية الاتحاد والترقي هي التي كانت الاطار القومي المتعصب، والتي اختارت لنفسها الفكر الفاشي المسلح، وراهنت على ممارسات المحو والابادة والتطهير العرقي لتحقيق دولة العنصر التركي الصافي. هذه الجمعية التي تزعمها ثلاثة من مرتكبي المجازر الجماعية، من المجرمين بحق الانسانية: جمال باشا السفاح(1873 1922) وطلعت باشا(1874 1921) وأنور باشا(1881 1922)، الذين شاركوا في إبادة الشعوب الأرمنية والسريانية واليونانية وإزالتها من خارطة تركيا الحديثة، كمرحلة أولى لتتريك الأناضول وتنقية الجمهورية الوليدة من بقية العناصر التي لا تنتمي إلى الأرومة التركية. وما يطلقه المسؤولون الأتراك من تصريحات حالية هي عبارة عن علامات/ملامح مأخوذة من استراتيجية متكاملة وموضوعة قيد التنفيذ. عبارات من مثيل: السعي لتوسيع تركيا وتمددها في إطار التمسك ب”الميثاق الملي”، والحديث عن ولايات ليبيا والحجاز ومصر وحلب والموصل، هي من صميم مطالب جمعية الاتحاد والترقي، لكنها هنا تظهر بلبوس آخر، فهي مطعمة بالصبغة الدينية، وتحمل شعار “العثمانية الجديدة”، مراعاة لجماعات الإسلام السياسي من الإخوان المسلمين والجهاديين التكفيريين، الذين يٌراد لهم أن يكونوا الأدوات التي ستنفذ وتطبق هذا المخطط على أرض الواقع. والهدف هو كل مساحة جغرافية في المنطقة تقلصت وانكمشت فيها سطوة وحضور الدولة ومؤسساتها، وحلت الجماعات الإسلامية المسلحة محلها لتقيم الإمارات والولايات التي تحكم فيها الشريعة، لتكون، تالياً، نواة للخلافة المنشودة: التي ستديرها تركيا (بوصفها وريثة السلطنة العثمانية)، وسيحكمها الخليفة الموعود: أردوغان (بوصفه رئيس تركيا، ومرشد الإسلام السياسي)!.
المراهنة التركية الآن، وضمن استراتيجية “تركيا الكبيرة” و”الوطن الأزرق”، هي على الفوضى وانعدام القانون لتثبيت الوجود وتحقيق التغلغل، وفرض الأمر الواقع عبر الأدوات التنفيذية المسلحة من المنظمات الإسلامية التكفيرية الخارجة على القانون، والأحزاب والقوى والشخصيات السياسية المأجورة، من تلك المسيّرة والمدارة من دوائر الحرب التركية. ومن هنا نجد الحضور العسكري والاستخباراتي التركي عبر الجماعات الجهادية التكفيرية الإرهابية، أو ميليشيات المرتزقة السوريين من أعضاء (الجيش الوطني) والتدخل في مناطق الصراعات في كل من ليبيا والصومال وسوريا والسودان وأثيوبيا وآذربيجان، ومؤخراً اوكرانيا.
الحرب التي تشنها الدولة التركية بقيادة تحالف العدالة والتنمية والحركة القومية ضد الشعب الكردي في داخل وخارج تركيا، تأتي ضمن مخطط متوافق عليه بين طرفي هذا التحالف، وهذا المخطط هو البند الأهم في استراتيجية حربية توسعية كبرى تعتمد على نشر الفوضى والتخريب في عموم المنطقة. والعنوان الظاهر والمسوق لهذه الاستراتيجية هو: “العثمانية الجديدة”، أي إدارة تركيا (بوصفها وريثة السلطنة العثمانية، ويحكمها حزب إسلامي) لدولة خلافة كبيرة، تضم كل ولايات السلطنة العثمانية السابقة، لكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. فالحرب ضد الشعب الكردي (المسلم بأغلبيته)، والتوسع في الدول المضطربة التي انهارت فيها مؤسسات الدولة، وتشهد حروباً أهلية وتوحشاً فظيعاً، وتوطيد الحضور بالاعتماد على جماعات إسلامية إرهابية ومرتزقة مجرمين خارجين على القانون، يحمل نزوعاً استعمارياً قومياً تركياً، هدفه التوسع ونهب الثروات وتفتيت الدول وإدارة الحروب الأهلية والمحاورية بحسب مصلحة الدولة التركية، التي ترتدي هنا، وعبر أردوغان وحزبه، قناع الإسلام السني، وتوهم جمهور الإسلام السياسي بأنه قناع يخفي مشروع الخلافة/ مشروع الجميع: العثمانية الجديدة!.
الهجوم التركي العسكري على مناطق تواجد قوات حزب العمال الكردستاني في اقليم كردستان العراق، منذ أبريل 2022 بشتى الأسلحة الحديثة، واستخدام الغازات الكيميائية المحرمة، وشن الحرب على الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرق سوريا، والقصف والقنص اليومي، بغية التخريب والترويع، واستهداف قوات مقاومة سنجار (YBŞ)، ومواصلة حالة العزلة المشددة على الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، ومنع محاميه وأهله من لقاءه لسنوات، واعتقال رؤساء ونواب ومسؤولي حزب الشعوب الديمقراطي، ووضع اليد على البلديات التي فاز بها، إنما هي جزء من ذهنية الإبادة والتطهير العرقي والسياسي لجمعية (الاتحاد والترقي الجديدة) التي يشرف عليها اليوم شخصان هما: رجب طيب أردوغان ودولت بغجلي.
إن الحديث عن “الميثاق الملي” وولاية الموصل وكركوك وحلب وأدلب واحتلال عفرين وتهجير الكرد منها واستبدالهم بمهجرين آخرين غرباء، وقطع مياه دجلة وفرات عن سوريا والعراق، ونشر القواعد العسكرية وشبكات التجسس في بلدن تقع في آسيا وأفريقيا، وتجنيد القوى السياسية لخدمة سياسة التوسع والتمدد التركية، لهي جزء من مخطط جمعية (الاتحاد والترقي الجديدة) في تغذية الاضطرابات، ونشر الفوضى، وإدامة الصراع والحروب الأهلية، لكي تستفيد منها تركيا، فتتمكن وتتغلغل وتمسك بكل الأوراق والملفات، فتكون هي صاحبة الحضور الأبرز، والكلمة الفصل، والقرار النهائي. وبهذا فإن تضحيات الملايين، ومن ضمنهم الأدوات في جماعات الإسلام السياسي ومرتزقة (الجيش الوطني)، في كل “الولايات” التي يراد لها أن ترتبط بانقرة المحكومة من تحالف جمعية (الأتحاد والترقي الجديدة) بقيادة أردوغان وبغجلي، ستذهب سدى، ولن تحقق أي فائدة للمشروع المتخيل في الخلافة الإسلامية، كما لن تكون نواة لأي مشروع وطني محلي ديمقراطي، بل هي في الحقيقية ستكون ضمن الأثمان الكثيرة الباهظة التي سيدفعها دائماً الآخرون، لترجمة مشروع “تركيا الكبيرة” إلى واقع معاش: حيث رؤية العلم القومي التركي في القواعد العسكرية وعلى أبنية المؤسسات المحصنة، الموجودة في إمارات وولايات متناحرة غارقة في الفوضى، كانت في السابق دولة موحدة، أما الآن فهي مناطق نفوذ، وأوراق للتفاوض لتحقيق المكاسب للدولة القومية التركية…[1]