تاريخ يزيدية عفرين وجبل سمعان في ضوء الروايات الشفهية والمصادر التاريخية
دراساتٌ في الجغرافيا والأثنوغرافيا الشرقيتين
كتلة جبل سمعان ويزيدية سوريا – الجزء الثاني
تأليف: الأب هنري لامنس
الترجمة عن الفرنسية: الدكتور عبد الجليل العبود
بحسب إحدى سالنامات(دليل سنوي) ولاية حلب لعام 1319 هجري و1902 ميلادي, يبلغ سكان قضاء جبل سمعان 26149 نسمة بالضبط: 11596 رجلاً, و14553 امرأةً, كلهم مسلمون. ويؤكد أحدث إحصاء أُجري في عام 1324 هجري على أنَّ مجموع سكان الجبل قد انخفض إلى 25001 نسمة. أمَّا من الناحية الدينيَّة فلم يحصل أي تعديل. نقرأ في الصفحة 367: ” أهالي قضاء عموما إسلام” .
وفي تلخيصه للوضع الاِثني والطائفيّ لمدينة حلب, يتحدّث ” الدليل السنوي ” سالنامه ” الرسمي عن المجموعات المسيحيّة واليهوديّة وحتى الأجنبيّة متناسياً مرةً أخرى التطرُّق لمن يُسمَّونَ أحياناً ب “المنشقين عن الإسلام الرسميّ”. فهو يهمل الدروز والنصيريين, ولا ذكر لهم لا في المسح العام, ولا في الجداول التي تقدِّمها السناجق(السنجق وحدة إدارية أصغر من الولاية و أكبر من القضاء – مدارات كرد). بالنسبة للنُّصيرين, يبلغ عددهم بالآلاف في ولاية أنطاكية وحدَها, حيث يمثّلون الشريحة العظمى من السكان غير المسيحيين, ويأوي جبل العلاء شرقيّ معرة النعمان بعض المجموعات الدرزية قليلة العدد, ويبدو أنَّ مُحرِّر الدليل قد انحاز لعواطفه عندما أصرَّ على دمج جميع الشرائح الطائفيّة التي لا تدين لا للمسيح ولا لموسى تحت مظلة الإسلام, وفي الحقيقة, يبقى الوضع الدينيّ والإثنيّ لجبل سمعان أكثر تعقيداً ممّا تُظهره السجلات التركيّة الرسميّة.
من بين هؤلاء السُّكَّان الذين يقطنون الكتلة الجبليّة, نخصُّ بالذكر الطائفة اليزيدية الغريبة, يدَّعي يزيدية جبل سمعان أنَّ أصلهم من جبل سنجار في بلاد الرافدين , وهو المركز الأساسيّ لنشأتهم, ولا شيء يمنع من تصديق هذا القول, لكنْ يمكن أيضاً أنْ يكونوا قد اعتنقوا اليزيدية عن طريق المبشرين القادمين من وراءِ الفرات كما هو الحال بالنسبة للنصيريين.
وعن سؤالنا حول تاريخ استيطانهم في سوريا, أجابنا الأكثر انفتاحاً من بينهم وهم القره باش, سكان قرية عرشقيبار: “من قديم الزمان”, وهو الرد المعتاد على هذا النوع من الأسئلة في هذا الشرق المحافظ, والمعادي بطبعه للتقاليد الخاصة. مع ذلك يجب تسليط الضوء على هذه الخصوصيات. لسوء الحظ, لا تشير الوثائق العربيّة المكتوبة إطلاقاً إلى يزيدية سوريا.
يرى الأب دو فونكليير أنّ هذه القبائل اجتازت الفرات في وقت كانت تحتشد الأمم بمختلف عاداتها وطباعها وأصولها لتتقاسم بقايا الامبراطورية السلجوقيّة المزدهرة, وقد يكون هذا التاريخ قديماً بعض الشيء, ونعتقد أنّه يتعين علينا تحديد هجرة اليزيديين بعد الحرب الصليبية. مؤرّخو هذه الأخيرة مِمَنْ عرفوا الدروز والإسماعيليين والنصيريين لم يُظهِرُوا شكّاً في وجود اليزيديين, مع ذلك امتلك الفرنجة عدداً من المنازل في المنطقة التي تقطنها الآن هذه الطوائف.
لقد اقترحنا أعلاه تحديد الهجرة النهائيّة لسكان جبل سمعان القدامى بعد الحروب التي أنهت الدويلات اللاتينيّة في سوريا, ففي القرن الرابع عشر الميلاديّ, يَذكُرُ مؤلف كتاب تعريف المصطلح الصرفيّ (في الصفحة 180) ( ربما يشير المؤلف إلى كتاب التعريف بالمصطلح الشريف لفضل الله العمري 1301- 1349م ، مدارات كرد ) جبل سمعان بين الأقضية التابعة ل حلب, يعني أنّه كان ما يزال مأهولاً آنذاك, وكذلك الفيلسوف ابن العبري كان على علمٍ تام بوجود اليزيديين في سوريا. إذ كان يربطهم بالمانويين المطرودين من بلاد فارس والذين لجأوا إلى سوريا وفيها ربما سكنوا الأديرة المهجورة. إضافةً إلى أنّ الرجال والنساء منهم يرتدون الملابس السوداء, وكلها تفاصيل تنطبق تماماً على اليزيديين. لكن ما من دليل في بلاد فارس يسمح بوضع هذه الهجرة في عهد جستينيان الأول . فقط يشير ابن العبريّ إلى نفي المانويين من بلاد فارس وانتشارهم في البلدان المجاورة. فيما يخص اليزيديين, الروابط عشوائية والوقائع تبدو لنا مسبقة التواريخ: أصل الطائفة وأنقاض الأديرة السورية هي لاحقة للإسلام. ومن نصّ ابن العبريّ لم نعلم سوى استيطانهم في سوريا في حقبة سابقة لتلك التي كان يُكتَبُ فيها هذا المفريان اليعقوبي الشهير. وما يُؤخَذ عليه أنه لم يُجِدْ في خلق الحقيقة المادية التي يمكن ملاحظتها بسهولة من رجلٍ مثله شديد الانتباه كان يعيش في شمال سوريا. لقد اكتفى فقط بربط المسألة بنفي مانويين في عهد الامبراطور جستينيان الأول.
إذاً نحن نحدد في القرن الثالث عشر الميلادي أول وصول للمستوطنين اليزيديين إلى جبل سمعان, والذي ربما كان سببه اضطهاد عنيف أو إحدى الصراعات الأهلية التي ذَكر عنها التاريخ الأمثلة العديدة.
لهذه الجماعة, صديقة الغموض والمقدر لها بالعزلة بسبب ضعفها العددي ومعتقداتها الخاصة قدّم جبل سمعان أرضه غير المأهولة ومدنه الميتة وموقعه النائي البعيد عن المراكز الكبرى والطرق السالكة. بعد عبورهم نهر الفرات لجأوا إلى هضبة مهجورة لا أحد ينازعهم ملكيتها. وعدم اهتمام الكتَّاب المسلمين بهذه الطوائف الشاذة دينياً يُفسِّر ندرة وتكتم المصادر العربية بشأنها في تلك الحقبة. لكنَّ الوضعَ اختلف في القرن السادس عشر الميلادي مع قدوم البعثات و إنشاء المستعمرات الأوربية في حلب. منذ ذلك الحين كَثُرَ الحديث عن وجود اليزيديين في جبل سمعان, ولا مجال بعد للاعتقاد أنَّهم حديثو العهد على هذه الأرض.
تنقسم يزيدية سوريا في الوقت الحالي إلى قبيلتين أساسيتين: الشروانلي والقره باش. حسب ما أوردته مذكرات الأب دو فونكليير, القره باش هي قبيلة لاوية قلية العدد. أفرادها يرتدون دوماً ملابس قاتمة (ومنه أُطلق عليهم اسم قره باش, يعني الرؤوس السوداء), ولا يتزوجون إلا من بعضهم بعضاً خوفاً من أنْ يفقدوا أصالتهم, ويعيشون حياةً تقشفية بكل المعايير, فهم ينامون على الأرض دون فراش, ويطلقون شعرهم ولحاهم, ويمتنعون نهائياً عن الاستحمام الذي يُعَدُّ أعظم حاجة وأعظم متعة بالنسبة للشرقيين. لا يُسمَحُ لهم بذبح أي حيوان كان, وعندما يريدون ذبح خاروف أو دجاجة يلجؤون إلى شخص غريب ليس من ملتهم ليقوم بذلك.
وهناك من الشعب من يحترمهم كثيراً, فيحتفظ بقطع قديمة من ثيابهم السوداء تقديساً لهم, وأعظم قَسَمْ يمكن لليزيدي أن ينطق به هو أن يقْسُم بهذا الثوب الأسود, أو برأس من نال شرف ارتدائه. كما يُعَدُّ البكاء على موت من ارتدى الملابس السوداء جريمة كبيرة, بل هذا اليوم ينبغي إشهاره بإعداد الولائم وإقامة الاحتفالات. هذه المعلومات نفسها سمعتها أيضاً في حلب من مالكي قرى يزيدية قديمة و هم أولى الناس بمعرفة تقاليد أفراد الطائفة. وعلى الرغم من الإجماع حول المعلومات الواردة, فنحن لا نستطيع ضمان صحتها التامة, وخلال الأيام الأربعة التي قضيناها بين اليزيدية, كل ما استطعنا ملاحظته هو لون ثيابهم الأسود , وميلهم لتجنُّب ارتداء الألوان الصارخة, مع عدم الامتناع تماماً عن ارتداء اللون الأبيض.
وخلال إقامتنا في عرشقيبار عند أحد أهم وجهاء القره باش لاحظنا وجود نضد كبير من الأفرشة والأغطية لم يجد صاحب المنزل أو حتى نحن أي حرج من استخدامها. وخلال عبورنا قرى ومضارب الشروانلي لم نشهد أنَّ هؤلاء قد أبدوا احتراماً خاصاً لأبناء دينهم من القره باش. فلدى وصولنا إليهم كانوا يعاملون دليلنا رشو وهو كرديّ سنيّ من القره باش على قدم المساواة مع بغَّالنا المسيحيّ.
يسكن الشروانليون الهضاب العليا والأودية في جبل سمعان, أما القره باش فهم يسكنون سهل جومه والسفوح المطلة عليه. ومن الناحية الإدارية يتبعون كلُّهم لقضائي جبل سمعان وكلس. وفي هذه الأخيرة يشغلون على وجه الخصوص مديرية جومه.[1]