مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الثالثة) زِرْياب: الموسيقي العبقري والمغنّي البارع
د. أحمد الخليل
للكرد منذ القديم تعلّق شديد بالغناء والموسيقا، وحسبنا دليلاً على ذلك أن من أشهر المقامات الموسيقية التراثية مقام يسمّى ( كُرد )، وآخر يسمّى (نهاوند)، وما نهاوند إلا من مدن الكرد العريقة.
ثم لا يخفى أن مدينة ( حلب ) هي موطن الموسيقا الأصيلة في بلاد الشام، ومن أشهر الذين حافظوا على ذلك التراث الموسيقي الأصيل مطرب وملحّن يدعى ( بكري الكردي )؛ هذا ما جاء في كتاب ( حلب: لؤلؤة التاريخ ودرّة بلاد الشام ). بل إن الخبير بالموسيقا إذا تتبّع الأغاني والموسيقا العربية والتركية والفارسية لوجد العديد من أقطابها هم من أصول كردية، ولوجد أيضاً أن روح الموسيقا الكردية تسري في عدد غير قليل من تلك الأغاني.
والآن دعونا ننتقل إلى أعماق التاريخ الإسلامي، إلى العصر العباسي الذهبي، لنتعرّف سيرة الموسيقي والمغنّي الكردي العبقري ( زرياب ).
بحث عن الهوية
عاش زرياب بين عامي (160 – 230 ﮪ)، والمؤسف أن الأخبار عن بدايات زرياب قليلة، وذاك القليل نفسه لا يخلو من غموض، ومعظم الذين كتبوا عنه اعتمدوا ما ذكره المقّري في كتابه ( نفح الطيب )، ولا يتطرّق المقّري إلى أصل زرياب، وإنما يكتفي بذكر أنه مولى أمير المؤمنين المهدي (والد هارون الرشيد)، وأن اسمه أبو الحسن علي بن نافع، ثم ينقل تلك الرواية التي تربط بين لونه ولقبه، فيقول:
” زرياب لقبٌ غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شُبِهّ بطائر أسود غَرِد عندهم “.
لكن المقّري لا يذكر اسم بلاد زرياب. وبناء على هذا الخبر جاء أحد الفنانين ورسم لزرياب صورة جعله فيها إفريقي السحنة.
وينقل الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام: العصر العباسي الأول) ما رواه المقّري، ويضيف أن زرياب فارسيّ الأصل؛ والمعروف أن كثيرين من المؤرخين القدامى عدّوا الكرد فرساً تارة وعجماً تارة أخرى. وعلى سبيل المثال يتحدّث الجغرافي ابن رُسْته في كتابه (الأعلاق النفيسة) عن مدينة ( حُلوان ) فيقول:
” وأهلها أخلاط من العرب والعجم من الفرس والأكراد “.
ويقول ابن رُسته عن مدينة ( قرماسين = كرمنشاه):
” أكثر أهلها العجم من الفرس والأكراد “.
وهذا أمر أشرنا إليه سابقاً، وحلّلنا أسبابه خلال حديثنا عن أسرة البرامكة.
وينقل الزركلي في كتابه ( الأعلام ) عن المستشرق بروفنسال أن زرياب ولد في الجزيرة. ويستبعد الزركلي الرواية التي تربط بين لون زرياب واسمه، ويذكر أن (زرآب) في الفارسي معناه ماء الذهب، وعرّبوه بكسر الزاي وإبدال الألف ياء، ويرى أن هذا التفسير هو الصحيح. والفارسي المذكور هنا هو الكردي بالطبع؛ لأن اللفظة كردية جملة وتفصيلاً. على أن الباحثة الألمانية زيغريد هونكه حسمت الأمر في كتابها الشهير ( شمس العرب تسطع على الغرب )، فنصّت بوضوح أن زرياب فتى كردي.
زرياب في قصر هارون الرشيد
وتبدأ كتب التاريخ بتسليط الضوء على زرياب وهو في حضرة الخليفة هارون الرشيد ببغداد، ونحن بدورنا سنعتمد ما ذكره المقّري بهذا الصدد.
وخلاصة الخبر أن زرياب كان تلميذاً لمغنّي الخليفة إسحاق الموصلي، فتعلّم منه أصول صناعة الموسيقا والغناء، وكان ذكياً طيب الصوت، ففاق أستاذه، وإسحاق لا يشعر بذلك، إلى أن جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنّ غريب مجيد للصنعة، لم يشتهر مكانه إليه، فذكر له تلميذه زرياب، وقال:
” إنه مولى لكم، وسمعت له نزعات حسنة، ونغمات رائقة لصيقة بالنفس، وأحدس أن يكون له شأن “.
فقال له الرشيد:
” هذا طَلَبَي، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده “.
وأحضر إسحاق زرياب، فلما كلّمه الرشيد أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب، وسأله عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أُحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثرُ ما أُحسنه لا يحسنونه، مما لا يحسن إلا عندك ولا يُدّخَر إلا لك، فإن أذنت غنّيتك ما لم تسمعه أذن قبلك. فأمر الخليفة بإحضار عود أستاذه إسحاق، فلما أُدني إليه العود لم يتناوله، وقال: لي عود نحتَه بيدي، وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو الباب، فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه.
فأمر الرشيد بإدخال العود إليه، ولما تأمّل الخليفة العود وجده شبيهاً بعود إسحاق، فقال له:
” ما منعك أن تستعمل عود أستاذك “؟
فقال زرياب:
” إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنّيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي “.
فقال له: ” ما أراهما إلا واحداً “.
فقال زرياب:
” صدقت يا مولاي، ولا يؤدي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده، ومن جنس خشبه، فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يُكسبها أناثة ورخاوة، وبَمُّها ومَثْلثَها اتخذتهما من مُصْران شبلِ أسد، فلها في الترنّم والصفاء والجَهارة والحدّة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها “.
فاستبرع الرشيد وصفه، وأمره بالغناء، فجسّ الأوتار، ثم اندفع فغنّاه:
يا أيّها الملكُ الميمونُ طائرُهُ هارونُ، راحَ إليك الناسُ وابتكروا
فأتمّ النوبة، وطار الرشيد طرباً، وقال لإسحاق:
” والله لولا أنّي أعلم من صدقك لي، على كتمانه إياك لما عنده، وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل، لأنزلتُ بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه، حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً “.
الأستاذ الغاضب .. والتلميذ الهارب
بعد أن اكتشف الخليفة عبقرية زرياب الموسيقية، وأبدى إعجابه الشديد به، سُقِط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد وغلّب صبرَه ، فخلا بزرياب وقال له:
” يا علي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فَتّانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها، وقد مكرتَ بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك، وقصدتَ منفعتك، فإذا أنا قد أتيتُ نفسي من مأمنها، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدّمت شيئاً على أن أُذهِب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخيّر في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة، لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وأساعدك لذلك بما تريده من مال وغيره. وإما أن تقيم على كرهي ورغمي، وتكون السبب في سقوط شأني عند الخليفة، فخذ الآن حذرك مني، فلست والله أُبقي عليك، ولا أدع اغتيالك، باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقضِ قضاءك “.
فكر زرياب في التهديد الذي وجّهه إليه أستاذه، إنه تهديد صريح بالقتل غيلة، وماذا يمكن أن يفعله شاب فقير مغمور في مواجهة رجل كثير المال، عريض الجاه، واسع النفوذ، يماثل في أيامنا هذه ما يمكن أن يسمّى وزير الثقافة والفن؟!
واختار زرياب الفرار، وفضّل النجاة بنفسه من الاغتيال، فخرج من بغداد لوقته، وأعانه إسحاق على ذلك سريعاً بمال وفير، فرحل ومضى متوجهاً نحو بلاد المغرب، واستراح قلب إسحاق.
وتذكّر الخليفة الرشيد زرياب بعد فراغه من أمور كانت تشغله، فأمر إسحاق بإحضاره، فقال له إسحاق:
” ومَنْ لي به يا أمير المؤمنين؟! ذاك غلام مجنون، يزعم أن الجن تكلّمه وتطارحه ما يُزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يَعْدِله، ما هو إلاّ أن أبطأتْ عليه جائزة أمير المؤمنين وترْك استعادته، فقدّر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مُغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى خيراً في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لَمَم [جنون] يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه “.
فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال:
“على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير “.
زرياب في البلاط الأموي بالأندلس
اختار زرياب الرحيل إلى المغرب، وقضى وقتاً قصيراُ في بلاط زيادة الله الأول الأغلبي أمير القيروان (في تونس)، حتى دعاه الحكم الأول حاكم الأندلس بعد أن اتصل به خبر مهارته. فسار زرياب وأولاده إلى الأندلس، ونزلوا من البحر في ميناء الجزيرة، لكنه علم بوفاة الحكم، وتولية ابنه عبد الرحمن الأوسط (سنة 206 ﮪ)، فضاقت به الدنيا، ولم يدر إلى أين يتوجه.
لكن سرعان ما أرسل عبد الرحمن إلى زرياب ينبئه بأنه منفّذ وعد أبيه، وكتب إلى عمّاله أن يُحسنوا استقباله، ويُسهّلوا له طريق الوصول إلى قرطبة. وعندما وصل زرياب بعياله إلى قرطبة أنزله عبد الرحمن في دار فخمة، ثم استقبله بعد أن استراح من عناء السفر، وبالغ في إكرامه، وقرّر له راتباً شهرياً قدره مئة دينار، وقرّر لكل من أولاده الأربعة عشرين ديناراً. وأغدق عليه وعلى أولاده الأرزاق، فأجرى عليه ثلاثة ألاف دينار في كل سنة: ألف لكل من عيدي الفطر والأضحى، وخمسمئة لكل من عيدي النَّوْروز والمِهْرجان؛ عدا ما خصّص له من الشعير والقمح، وما وهب له من الضياع والدور والبساتين التي قدّرت بأربعين ألف دينار.
ولما سمع عبد الرحمن غناء زرياب أُعجب بمواهبه، وقدّمه على جميع المغنّين، وازداد إعجاب الأمير به، حتى إنه كان يُجلسه إلى جانبه، ويستمع إلى غنائه، وإلى ما يقصّ عليه من أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء. ولم يلبث أن ملك زرياب قلب عبد الرحمن، حتى إنه أمر بأن يفتح له باب خاص يستدعيه منه متى أراد.
زرياب يزيد في العود وتراً
زاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العودُ بأربعة أوتار على الصنعة القديمة، فزاد عليها وتراً أخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة. وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلاً من مرهف الخشب، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفّته على الأصابع، وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إيّاه. وأبدع زرياب في تنسيق الألحان، حتى توهّم أن الجن هي التي تعلّمه؛ ولا عجب فقد ورث هذا الشعور من أستاذه إسحاق الموصلي الذي ورثه عن أبيه إبراهيم الموصلي.
وكان زرياب واسع الثقافة، عالماً بالنجوم، وبقسمة الأقاليم السبعة، واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعّب بحارها، وتصنيف بلادها وسكّانها، مع ما سنح له من فكّ كتاب الموسيقا، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها.
أثر زرياب في المجتمع الأندلسي
وجمع زرياب إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة، وطيب المحادثة، ومهارة الخدمة الملوكية، ما لم يُجِده أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوماً به.
فمن ذلك أنه دخل الأندلس وجميع من فيها من رجل وامرأة يُرسل جُمّته [شعر مقدّم الرأس] مفروقاً وسط الجبين، عامّاً للصدغين والحاجبين، فلما رأوا تسريحته هو وولده ونسائه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم، واستحسنوه.
ومما تعلّمه الناس بالأندلس من زرياب تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرش جلود الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سُفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية، إذ يزول الدهن وغيره عن الأديم بأقل مسحة. وأخذ عنه أهل الأندلس أيضاً لبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به.
وهكذا سرعان ما فرض زرياب نفسه على المجتمع القرطبي، وحقّق ذلك بفضل فنه وثرائه الذي أثار دوياً في العالم الإسلامي الشرقي، حتى إن أحد المغنّين في بغداد أعرب عن خيبة أمله قائلاً:
” إنه بينما يسير زرياب في قرطبة في كوكبة من الفرسان، ويملك ثلاثين ألف دينار من الذهب، أكاد أنا أموت من الجوع “.
طريقة زرياب في تخريج المغنّين
كانت لزرياب طريقة فريدة مع المبتدئين من تلاميذه؛ فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والإهزاج تبعاً لما يرسمه زرياب له.
وكان زرياب إذا أراد أن يعلّم تلميذاً أمره بالقعود على وسادة مدوّرة، فإن كان ليّن الصوت أمره أن يشد على بطنه عمامة؛ لأن ذلك يقوي الصوت، فلا يجد متسعاً في الجوف عند الخروج من الفم. فإن كان لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته أن يضمّ أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع، يُبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه.
وإذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته : يا حجّام، أو يصيح: آه، ويمد صوته، فإن سمع صوته صافياً ندياً قوياً، لا يعتريه غُنة ولا حُبسة [ثقل في اللسان] ولا ضيق نفس، أشار بتعليمه، وإن وجده غير ذلك أبعده.
وإلى زرياب يرجع الفضل في تعليم الجواري الغناء في عصره، وكانت له جوار أحسن تأديبهن، وعلّمهن الغناء والعزف على العود، ومن هؤلاء غِزلان وهُنَيدة، ومنهن منفعة التي اشتهرت بفرط جمالها، وقد أعجب بها عبد الرحمن، فأهداها زرياب إليه، فحظيت عنده.
– – –
وصفوة القول أن زرياب لم ينقل إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقا وضروب الغناء فقط، وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي كان المشارقة ينعمون به، فكان بذلك من أهم عوامل التواصل بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه في ذلك العصر.
وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة.
د. أحمد الخليل
[1]