مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي الحلقة التاسعة عشرة شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي شهيد الفكر ( ت 586 ﮪ)
د. أحمد الخليل
سُهْرَوَرْد
سُهْرَوَرْد- وقد تسمى سَهْرَوَرْد أيضاً- بلدة كردية قريبة من زَنْجان، في شمال غربي إيران، وهي منطقة ميديا القديمة. ذكرها كل من الإصطخري (ت 346 ﮪ)، وابن حوقل (ت بعد 367 ﮪ)، وياقوت الحموي (ت حوالي 626 ﮪ)، وأبو الفداء (ت 732 ﮪ) ضمن منطقة الجبال، ويشكل شرقي كردستان وجنوبيها حوالي ثلاثة أرباع منطقة الجبال، وتقع سُهْرَوَرْد غربي هذه المنطقة، وشمالي شهرزور، على تخوم إقليم كردستان- العراق مع إيران.
وقد ذكر ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 314) أن سهرورد تشبه شهرزور من حيث ” رغد العيش، وكثرة الرخص، وحسن المكان، وخصب الناحية، بحالة واسعة، وصورة رائعة، وقد غلب عليها الأكراد “.
نشأته وثقافته
اسمه – حسبما ذكره ابن خَلِّكان وضبطه- هو يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك، وكنيته أبو الفتوح، ولقبه شهاب الدين، ولُقّب بالمقتول، وبالشهيد. وابن خلّكان هو خير من يعرف أسماء الكرد ويضبطها، فهو كردي، وموطنه قريب من موطن السهروردي، ولم يكتف ابن خلّكان بضبط كلمة (أَمِيرَكْ)، وإنما أوضح دلالتها عند الكرد، فهي تصغير لكلمة (أمير)، ذاكراً أن (الكاف) تلحق أواخر الأسماء للتصغير؛ وهذا أمر معروف في اللغة الكردية قديماً وحديثاً، مثل: مصطفى – مِصْطِكْ، خليل- خَلِّك، شيخ – شَيخكْ، وهكذا دواليك.
وقد ولد السهروردي حوالي منتصف القرن السادس الهجري، ويقع تاريخ مولده بين سنتي (545 ﮪ / 1150 م)، و(550 ﮪ / 1155 م)، وأمضى سني حياته الأولى في بلدته سهرورد، وهناك تلقّى ثقافته الأولى، سواء أكانت دينية أم فلسفية أم صوفية، ولا توجد معلومات حول تفاصيل مرحلته العلمية الأولى.
ولم يكتف السهروردي بما تلقّاه من العلوم في بلدته سهرورد، وإنما قام برحلات علمية عديدة، مثله في ذلك مثل كثيرين من طلبة العلم في عصره، فكان كثير الترحال من بلد إلى آخر، وكان كلما حل ببلد يبحث عن العلماء والحكماء فيه، فيأخذ عنهم، ويصاحب الصوفية، ويأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات ورياضات روحية، وقد قال في آخر كتابه (المطارحات):
” ها هو ذا قد بلغ سنّي تقريباً ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارِك مطّلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها، وأكثر العجب من ذلك “.
وقد سافر السهروردي وهو صغير شرقاً إلى مَراغة وإصفهان، وغرباً إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى (تركيا حالياً)، ومن أساتذته الأوائل في مراغة مجد الدين الجيلي أستاذ فخر الدين الرازي، وفي إصفهان التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا، واطمأن إلى صحبتهم، وأولع بهم، فكانوا أصدقاءه.
واتصل السهروردي بالشيخ فخر الدين المارديني، وكانت بينهما صحبة، ويبدو أثر ذلك في مذهبه المَشّائي، وسافر إلى دياربكر أيضاً، وكان يفضل الإقامة فيها، واتصل بأمير خربوط عماد الدين قَرَه أرسلان، وأهدى إليه كتابه (الألواح العمادية)، ويرى المستشرق ماسينيون أنه أسس مذهبه الإشراقي في بلاط هذا الأمير، واستقر به المقام أخيراً في مدينة حلب، وهناك كانت خاتمته المأساوية.
فكره الفلسفي الإشراقي
اليونان هم الآباء الحقيقيون للفلسفة بمعناها الدقيق، تلك حقيقة لا ريب فيها، وقد جمعت فلسفة سقراط (469 – 399 ق.م) بين المثالية والمادية، في حين طغت المثالية على فلسفة تلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م)، وطغت المادية (المشّائية) على فلسفة أرسطو (384 – 321 ق.م) تلميذ أفلاطون.
وترجع الفلسفة الإشراقية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وقد يكون أفلاطون في إشراقيته متأثراً بالزردشتية في عهدها المتأخر، وتتخذ الإشراقية عند أفلاطون صيغة فيض العالم عن العقل الأول (العقل الفعال). أما في صورتها الإسلامية فإنها تعود إلى حكمة المشارقة أهل فارس، وهي تعني (الكشف)، وبعبارة أخرى: الإشراقية الإسلامية تعني الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.
قال قطب الدين الشيرازي في مقدمة كتاب (حكمة الإشراق للسهروردي):
” إنها الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين من أهل فارس، وهو أيضاً يرجع إلى الأول، لأن حكمتهم كشفية ذوقية، فنُسبت إلى الإشراق الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها، وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف، وكذا كان قدماء يونان، خلا أرسطو وشيعته، فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير “.
ويرى الإشراقيون أن المعرفة لا تقوم على تجريد الصور، كما يقرر المشّاؤون (أتباع فلسفة أرسطو)، بل هي معرفة تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أم نزولاً.
والسهروردي من كبار مفكري الفلسفة الإشراقية، ولا يعني (الإشراق) هنا الذوق والكشف فقط، وإنما استعمله السهروردي استعمالاً خاصاً فقد ذهب إلى أن “الله نور الأنوار”، ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي والروحي، وأضاف السهروردي أن (النور الإبداعي الأول) فاض عن (الأول) الذي هو (الله/نور الأنوار)، وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها (القواهر العالية)، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها (أرباب الأنواع)، تدير شؤون العالم الحس. وابتدع السهروردي عاملاً أوسط بين العالمين العقلي (نور الأنوار) والعالم المادي، سماه (عالم البرزخ) و(عالم المُثُل)، وهذا يذكّرنا- ولا ريب – بعالم المُثُل في فلسفة أفلاطون.
ويعدّ السهروردي أول من تصدّى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، فقد أعرب في مؤلفاته عن تبرّمه بها، ونزوعه إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا يعني أنه كان صوفياً أكثر من كونه فيلسوفاً، على أنه يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا توجد عند غيره، وهو يميّز بين نوعين من الحكمة:
– الحكمة البحثية: وهي تعتمد على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وهي حكمة الفلاسفة.
– الحكمة الذوقية: وهي ثمرة مجاهدات روحية، ويحياها الإنسان لكنه لا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الإشراقيين.
ولا يرى السهروردي تعارضاً بين الحكمتين، فالإشراقي الحقيقي هو الذي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية. ويرى السهروردي أن الفكر الإنساني غير قادر وحده على امتلاك المعرفة التامة، ولا بد أن يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الروحي لا يزدهر ويثمر إلا إذا تأسس على العلم والفلسفة.
إن رؤية السهروردي هذه جعلته موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقتصر على شيخ، ولا يتقيد بفلسفة، وقد جمع بين حكمة الفرس واليونان وكهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزردشت وبين فيثاغورس وهرمس.
آثاره الفكرية
إن المصير المأسوي الذي انتهى إليه السهروردي جعل إنتاجه الفلسفي غير معروف بعض الوقت، وخاصة أن خصومه من الفقهاء حاربوا فكره ومنطلقاته الثقافية، لكن تلامذته أخلصوا لفكره، واهتموا بتتبّع أخباره وتدوين إنتاجه العلمي، وقد جاء في المصادر اسم تسعة وأربعين كتاباً له، ما بين منثور ومنظوم، وهذا دليل على غزارة علمه، وسعة أفقه الثقافي، ونذكر فيما يأتي بعضها تلك المؤلفات:
حكمة الإشراق – هياكل النور – التلويحات – واللمحات في الحقائق – الألواح العمادية – المشارع والمطارحات – المناجاة – مقامات الصوفية ومعاني مصطلحاتهم – التعرّف للتصوّف – كشف الغطا لإخوان الصفا – رسالة المعراج – اعتقاد الحكماء – صفير سيمورغ. وبالمناسبة سيمورغ هو طائر سيمرغ الأسطوري في التراث الشعبي الكردي، وكنت أسمع من الجدات والأمهات، وأنا صبي، قصصاً أسطورية حول هذا الطائر، وكن يسمّينه (سِمْلِق).
وقد قسّم ماسينيون إنتاجه العلمي إلى ثلاثة مراحل:
– مرحلة الشباب (العهد الإشراقي): الألواح العمادية، وهياكل النور، الرسائل الصوفية.
– مرحلة العهد المشّائي: التلويحات، اللمحات، المقاومات، المطارحات، المناجاة.
– مرحلة العهد الأخير: وقد تأثر فيها بالأفلاطونية المحدثة، وبابن سينا، ومن مؤلفاته: حكمة الإشراق، واعتقاد الحكماء، كلمة التصوف.
صراعات حادة!
لم يكن عصر السهروردي (القرن السادس الهجري / الثالث عشر الميلادي) عصر تسامح فكري، إنه كان عصر صراعات سياسية ومذهبية حادة، وكان حلقة من من حلقات الصراعات الممتدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين:
– أما مذهبياً ففي القرن الرابع الهجري كان أبو الحسن الأَشْعَري ( ت 324 ﮪ) قد انقلب على المعتزلة بعد أن كان منهم، وأعلن الثورة عليهم، وراح يعمل في مذهب الاعتزال هدماً وتدميراً، حاملاً لواء السنّة ضد المذاهب الباطنية والتأويلية، وسرعان ما وجد أتباع (المنقول) الحانقين على (المعقول) بغيتهم في النهج الأشعري، ولا سيما أتباع المذهب الشافعي، فاعتنق كثير من الفقهاء والعلماء الفكر الأشعري، وحمل لواءها بعض مشاهير المفكرين، من أبرزهم أبو حامد الغزالي (ت 505 ﮪ) الذي عُرف بلقب (حجّة الإسلام)، ربما لأنه حمل حملات شعواء على الفلاسفة، وحسبنا دليلاً على ذلك أن ألف لهذه الغاية كتابين هما (مقاصد الفلاسفة) و (تهافت الفلاسفة)، وعلى العموم كانت ثمة حملة شديدة من الاضطهاد والتعصب تشنّ ضد الفلاسفة والباطنية من إسماعيلية وإمامية وغيرهم من مذاهب الشيعة.
– وأما سياسياً فكان العالم الإسلامي موزّعاً بين الخلافة العباسية السنية، والخلافة الفاطمية الشيعية، وكان البويهيون الشيعة قد هيمنوا على مقاليد الأمور في إيران وكردستان والعراق (334 – 447 ﮪ)، وأبقوا على الخلافة العباسية ظاهراً، وتحكّموا في الخلفاء حقيقة، وما إن برز التركمان السلاجقة في الشرق- وكانوا قد اعتنقوا مذهب السنّة- حتى استعان بهم الخلفاء العباسيون للخلاص من البويهيين الشيعة، وهذا ما أنجزه السلاجقة، ووجدت المؤسسة السلجوقية الحاكمة أن الخط الأشعري هو خير سلاح لتحقيق الانتصار الإيديولوجي على البويهيين، بعد تحقيق الانتصار العسكري، كما وجدواه خير سلاح لمقارعة الأيديولوجية الفاطمية منافستهم القوية.
وسلك الزنكيون – وهم تركمان من أتباع السلاجقة – مسلك سادتهم، وضغط آخر سلاطينهم نور الدين زنكي على واليه في مصر صلاح الدين الأيوبي في مصر لإلغاء الخلافة الفاطمية سنة (567 ﮪ / 1171 م )، واتخاذ المذهب الشافعي بتوجهه الأشعري مذهباً رسمياً للدولة، وكان الأيوبيون الكرد قد تربّوا على الثقافة ذاتها، فكان من الطبيعي أن يكون للمذهب الشافعي بتوجهه الأشعري المقام الأول في أرجاء الدولة الأيوبية.
في حلبة المناظرة
في هذا المناخ الذي التحمت فيه السياسة بالثقافة نُظر بعين الريبة إلى كل دعوة باطنية، توجّساً من أن يستعيد أتباع الفاطميين مواقعهم في العالم الإسلامي، وكان من سوء حظ السهروردي أن حياته ذهبت ضحية هذه الصراعات السياسية بصورة مؤلمة ومأسوية.
لقد توجّه السهروردي إلى حلب، وكانت حينذاك من أهم المدن في شرقي الدولة الأيوبية، إنها كانت تحمي ظهر الدولة من بقايا الزنكيين في مناطق الموصل، ومن سلاجقة الأناضول، وكان هؤلاء يضعون العصي في عجلات الإستراتيجية الأيوبية بين حين وآخر، كما أن حلب كانت مدخل الدولة الأيوبية إلى كردستان، ذلك الخزان الذي كان يستمد منه المقاتلين من أبناء القبائل الكردية في الظروف الحرجة، لذلك كان صلاح الدين قد ولّى عليها – أقصد: حلب – ولده الشاب الملك الظاهر، وأحاطه ببطانة من الفقهاء والعلماء.
وكان من الطبيعي أن يقع التصادم بين السهروردي الفيلسوف الصوفي الإشراقي، بكل ما كان يتصف به من حماس الشباب، واعتداد بالذات، وشجاعة فكرية إلى حد التهور، وبين فريق من العلماء والفقهاء الأشاعرة الذين يعادون الحرية الفكرية، ويتوجسون شراً من عودة الفكر المعتزلي الذي يقدم العقل على النقل، ويحاربون الفلسفة، ويعادون الصوفية، خوفاً مما تشتمل عليه من باطنية، وحذراً من العلاقة بين الباطنية والتشيع؛ سواء أكان فاطمياً أم غير فاطمي.
وكان الملك الظاهر قد أُعجب بالسهروردي، بل أصبح السهروردي من أصدقائه، ونظراً لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:
– الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبياً. وهذا مستحيل.
– السهروردي: ما حدا لقدرته؟! أليس القادر إذا أراد شيئاً لا يمتنع عليه؟!
– الفقهاء: بلى.
– السهروردي: فالله قادر على كل شيء.
– الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.
– السهروردي: فهل يستحيل مطلقاً أم لا؟!
– الفقهاء: كفرت!
ويبيّن من هذه المناظرة أن السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين (الإمكان التاريخي) و(الإمكان العقلي)؛ فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمداً خاتم الأنبياء. أما الفقهاء فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني، وأحسب أنهم كانوا أعجز من التحليق في الآفاق الفكرية والفلسفية التي كان السهروردي ينطلق منها.
ثمن الشجاعة
بلى إن الجرأة العلمي كانت طبعاً في السهروردي، وكانت تلك الجرأة تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحياناً، وقد أشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى تلك الخصلة، فذكر:
” أن شهاب الدين السهروردي كان يتردد إليه في أوقاته، وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا: ما أذكى هذا الشباب وأفصحه، ولم أجد أحداً مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفّظه، أن يكون ذلك سبباً لتلفه “.
وقال فخر الدين المارديني:
” فلما فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقﮪاء، ولم يجاره أحد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكيناً عنده، مختصاً به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي ﮪذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إن أُطلق فإن يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك “.
وأفاد ابن أبي أُصَيْبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 167):
” أن الشهاب بحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلام من هو أعلى قدراً منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى قُتل “.
نهاية مأسوية
وهكذا نرى أن نقمة العلماء والفقهاء على السهروردي لم يكن بسبب الاختلاف الفكري فقط، بل لأنه كشف أمام الملك الظاهر جهلهم أيضاً، ونافسهم على مجالسة الملك وصداقته، وقد علموا- ولا ريب – أن السهروردي إذا تمكّن من قلب الملك فسيخسرون مناصبهم ونفوذهم، فقرروا كما أوضح فخر الدين أن يقضوا عليه ليس فكرياً فقط، وإنما أن يقتلوه جسداً وفكراً.
وكان صلاح الدين أحوج الناس في ذلك الوقت إلى وحدة الصف في دولته المترامية الأطراف، والتي كانت تخوض مواجهة حامية ضد الفرنج غرباً، وصراعاً خفياً ضد الزنكيين في الموصل وأطرافها، وضد السلاجقة في الأناضول، بل أحياناً كانت ثمة خلافات تحت الرماد مع بطانة الخليفة العباسي نفسه في بغداد. وكان الفقهاء والعلماء والمدرسون هم جيشه الضارب في تحقيق تماسك صفه الداخلي، فهم الذين يمسكون الجماهير من خناقها في كل عصر، ويوجّهونها الوجهة التي يريدونها.
وأحسب أن صلاح الدين – وهو السلطان السني الشافعي الأشعري- أخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار، وأرسل إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه: ” إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلَق، ولا يبقى بوجه من الوجوه “.
إذاً قد حُكم على السهروردي بالموت.
لكن كيف تمّ تنفيذ الحكم؟!
الروايات في هذا الصدد مختلفة.
ولعل أصحها هو ما أورده ابن أبي أُصَيْبعة، إنه قال:
” ولما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يُترك في مكان منفرد، ويُمنع من الطعام والشراب، إلى أن يلقى الله تعالى. ففُعل به ذلك، وكان في أواخر سنة (586 ﮪ) بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست ثلاثين سنة “.
وكأنما السهروردي قد تنبّأ بالمصير الذي سيلقاه في قصيدة جاء فيها:
أبداً تحنّ إليكمُ الأرواحُ ووصالكمْ رَيحانُها والراحُ
وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكمْ وإلى لذيذ لقائكمْ ترتاحُ
وا رحمتا للعاشقين! تكلّفوا سترَ المحبّة، والﮪوى فضّاحُ
بالسرّ إن باحوا تباحُ دماؤهمْ وكذا دماءُ العاشقين تُباحُ
– – – –
ألا إنه بقدر ما تعرف تقترب من الحقيقة.
وبقدر ما تقترب من الحقيقة تختلف مع الآخرين.
لا أقصد كل الآخرين، وإنما أقصد الآخرين النمطيين.
أولئك الذي يرتعدون هلعاً من انطلاقات الفكر الحر.
وقد دفع السهروردي حياته ثمناً لأفكاره ولفلسفته.
وليس هذا فحسب، وإنما دفع حياته ثمناً لشجاعته الفكرية.
وصحيح أنه خسر سنوات كان من المحتمل أن يعيشها.
لكنه ربح موقعاً ناصعاً في سجل الخالدين.
المصادر
1. الدكتور إبراهيم مدكور (مشرف): الكتاب التذكاري شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974 م.
2. الإصطخري: المسالك والممالك، تحقيق محمد جابر عبد العال، دار القلم، 1961 م.
3. ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.
4. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986 م.
5. السهروردي: اللمحات في الحقائق، تحقيق وتقديم الدكتور محمد علي أبو ريّان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988 م.
6. عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957 م.
7. الدكتور محمد علي أبو ريّان: أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1978 م.
8. الدكتور محمود محمد علي محمد: المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999 م.
وإلى اللقاء في الحلقة العشرين.
[1]