الإمارات الكوردية :
سبق لنا القول إن الكورد بعد الميلاد أقاموا دويلات صغيرة وإمارات شعبية متفرقة هنا وهناك على أرض كوردستان، وقد كان المرء يصادف إمارة كردية في هذه المنطقة أو تلك وكانت كل إمارة ذات سيادة مستقلة ترى نفسها أفضل من سائر الإمارات ولا تقبل الانضواء تحت لواء إمارة أخرى وكانت كل إمارة مرتبطة بدولة ما من الدول في المنطقة، ولم يفكر أمراؤها في توحيد إماراتهم وصوغها في دولة كبيرة موحدة، إن الإمارات كثيرة جداً وسوف نتحدث عن الإمارات الكبيرة او الإمارات التي أدت دوراً بارزاً سياسياً واجتماعياً في التاريخ الكوردي.
إمارة أردلان :
إمارة ” أردلان ” أسسها ” بابا أردلان ” التي دامت ” 650 ” خمسين وستمائة عام.
عندما اجتاح المنغولين منطقة ” كوردستان ” لم يواجه ” بابا أردلان ” هجومهم بالقتال بل لجأ إلى سياسة التفاهم ولذلك اتسعت إمارة “أردلان ” في ” شارزور” و “هورمان” ثم استولى على كل المنطقة، وكانت غايته من ذلك ان يؤسس دولة قومية، وفي النهاية استطاع أن يحقق بعض رغبته إذ أنشأ دولة قومية إقليمية امتد سلطانها أمدا طويلا.
في القرن الرابع عشر في العراق نشأت دولة ال ” جلايرين “، استولى الجلايرون على القسم الغربي والشمالي من إمارة ” أردلان ” إلا أن أمير إمارة أردلان “ميرحسن” استطاع أن ينتزع ما أخذه الجلايرون ويضمه إلى إمارته في القرن الخامس عشر، وجعل ” زاب الكبير” حدوداً شمالية لإمارته وأنشأ في قلعة “رواندوز” مركزاً للجنود.
في عام 1549 م هاجم العثمانيون بجيش كبير “رواندوز” فدارت رحى حرب ضارية بين القوات العثمانية والقوات ال ” أردلانية ” لكن العثمانيين أخفقوا في حربهم ولم يحرزوا أي انتصار، إلا أن العثمانيون في عام 1864 م أسروا أمير أردلان ” أمان اُللَّه ” فانتهى أمر الإمارة.
إمارة بادينان :
تأسست الإمارة البادينانية على الأرض الواقعة بين “الموصل” ونهر ” دجلة ” ونهر ” الزاب الكبير” وكان يحدها من الغرب ” إمارة بوتان “ومن الشمال” إمارة هكاري ” ومن الشرق ” إمارة سوران” وكانت مدينة آميدية- العمادية ” عاصمة الإمارة البادينانية، وكانت حدود هذه الإمارة تشتمل على مدن ” زاخو ” و”أكرا” و ” دهوك “.
كانت الدول الكبيرة الإقليمية تحاول دائماً بث الفرقة وزرع الخلافات بين الأمراء الكورد ولم تكن ترغب في التئام شملهم خشية أن تتوحد إماراتهم في دولة واحدة. بعد وفاة أمير بادينان ” الأمير إسماعيل ” وضع أمير ” سوران ” الأمير محمد يده على إمارة بادينان، فصارت الإمارتان دولة واحدة، لذلك كانت إمارة ” سوران ” إمارة قوية في المنطقة.
إمارة سوران :
كان “كلوس” مؤسس إمارة سوران رجلاً ذكياً نابهاً ذائع الصيت، وفي عهد الأمير “مصطفى” ازدهرت الإمارة وتحسنت أحوالها وفي عام 1813 م تخلى الأمير مصطفى عن منصبه وسلّم الإمارة إلى ابنه اللبيب الفطن الحر “محمد” وكان الأمير محمد يلقب ب ” باشايي كور ” وقد وضع خطة من بندين لبناء إمارته :
1- تسوية أمر الحرب وحل الخلافات الداخلية.
2- العمل في سبيل توسيع رقعة الإمارة.
في عام 1816 م أي بعد ثلاث سنوات من تأسيس الإمارة أقام مصنعاً للأسلحة في ” كاولان Kawlan ” القريبة من رواندوز وكان المصنع ينتج السيوف والبنادق والقذائف والمدافع وعجلات المدافع وغير ذلك، ثم أنه أعلن عن استقلال إمارته، ثم بدأت الإمارة في العمل لتوسيع حدودها، ونظم مجموعة كبيرة من الجنود تضم ثلاثين الف عسكري ” 30000″ منهم 10000 عشرة آلاف فارس” خيّال” وعشرون ألفاً من المشاة ” 20000 “.
في عام 1833 م اتسعت حدود الإمارة اتساعاً كبيراً حتى وصلت إلى ” الجزيرة ” شمالاً وإلى ” الزاب الصغير ” جنوباً وإلى جزيرة ” بوتان ” من الجهة الأخرى.
ولتسيير شؤون الإمارة وتدبير أمورها وضع نظاماً، ووضع خطة للميزانية تتألف من ثلاثة بنود :
1- الأموال والممتلكات الخاصة بالأمير.
2- أموال الدخل والجباية.
3- الأموال العامة والإدارة و وسواهما.
كانت الدولة العثمانية لا تكف عن شق هجماتها على إمارة سوران ولكنها كانت دائماً تبوء بالخذلان ولا تصل إلى غاية، وفي عام 1836 م شنت هجوماً كبيراً بكثير من الجنود والعتاد على الإمارة بقيادة رشيد باشا. .. فاحتدم القتال وحمي وطيس الحرب، وحاصرت القوات العثمانية ” القلعة ” وقطعت عنها الزاد والماء فوقعت ” القلعة ” في يد الغزاة وأُسِر الأمير محمد وأٌرسل إلى استانبول، إلا أن السلطان محمود الثاني عفا عنه وسرحه، غير أن العثمانيين كمنوا له في الطريق وهو عائد من استانبول وقتلوه غيلة وغدراً وفوّضوا إمارته.
إمارة بابان :
في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، كانت الإمارة البابانية تؤدي دوراً بالغ الأهمية في سياستها مع العثمانيين، وكان مبعث ذلك قوات بابان العسكرية وسيطرتها. لقد عاشت الإمارة البابانية منذ ثلاثمائة عام قبل الآن، كانت تتألف من جنوب الإمارة السورانية الواقعة في منتصف ” السليمانية ” ومن قسم من كوردستان الشرقية وفي الغرب من جميع أوساط ” كركوك ” وكان قسم من وسط ” شارزور ” أيضاً واقعاً في حدود الإمارة البابانية، وكانت عاصمتها ” قلاجولان ” وأخيراً في عام 1784 م بدأ حاكم قرية “ملكندي ” إبراهيم باشا باسم “سليمان باشا ” بوضع خطة لإصلاح وتعمير المدينة أطلق عليها اسم ” السليمانية ” التي صارت عاصمة للإمارة، وفي عهد هذه الإمارة كانت الأعباء والمشاكل الداخلية أكثر من مشاكلها الخارجية فأصابها ذلك بالضعف.
وفي عام 1639 م تصالحت إيران والدولة العثمانية واتفقتا على اقتسام إمارة بابان حسب معاهدة ” قصر شيرين ” ومنذ ذلك اليوم بدأت الإمارة تتأرجح بين الانتقال إلى الفرس والعثمانيين فتكون طوراً بين العثمانيين وطوراً بين الفرس، ثم أنها استعادت قوتها في عهد الأمير ” عبدالرحمن باشا ” ونالت استقلالها. وفي عام 1822 م عبّأت الدولة العثمانية قوة كبيرة تحت إمرة ” أحمد باشا ” وأرسلتها لمهاجمة عاصمة الإمارة ” البابانية ” السليمانية ” وفي هذه الحرب قتل من العثمانيين زهاء / 500 / خمسمائة محارب، وبعد معارك دامية وطاحنة وقعت المدينة في يدهم وصارت الإمارة في ” خبر كان “.
إمارة هكار :
إن هكار وسط جبلي، وتقع إمارة هكار بين بحيرة وان ومدينتي ” وان ” و ” خوشاف ” وعاصمتها مدينة ” جوله ميرك”، ولأن إمارة هكار تتوسط بيئة جبلية استطاعت أن تحافظ على وجودها وتحمي نفسها من الأعداء، وكانت تغدو أكثر قوة كلما مرت الأيام. كانت الدولة العثمانية تخشى من وجودها فكانت ترسل جنودها حيناً بعد آخر إلى قوى هكار وتفسد فيها وتهجّر منها العمال والمتنورين وبسبب هذه الهجمات الجائرة كان الناس يلوذون بإمارة ” هكار ” وقد تجاوز عدد المسلحين فيها أكثر من / 40 / أربعين ألفاً.
وكانت “إيران” أيضاً على حذر منها وتخافها، وتغير عليها بقوات عسكرية كبيرة ولكن الإمارة استطاعت دحر القوات الغازية من الدولتين : الإيرانية والعثمانية دائماً وترد الغزاة على أعقابهم، وقد تعاظم بأسها في عهد الأمير “مصطفى باشا” الهكاري، وعلى الرغم من انهيار “الإمارة” فإن العثمانيين لم يستطيعوا السيطرة على المنطقة برمتها وظل الأمر كذلك حتى بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 م وحتى يومنا هذا.
إمارة بوتان :
كانت مدينة ” الجزيرة ” عاصمة للإمارة البوتانية وهذه المدينة تقع على ضفاف نهر ” دجلة ” وهذه الحالة تضفي على موقعها أهمية كبيرة فقد كانت ممراً ومعبراً لقوافل تجار دياربكر الموصل، وبغداد استانبول، وهذه الإمارة في التاريخ الكردي تجسيد للحركة الفكرية، وأهل الفكر والأدب والفن، فقد خدمت خدمة جليلة في مجال الأدب واللغة والارتقاء بهما. وفي غضون أعوام 1400 م و 1570 م كانت مدينة ” الجزيرة ” قد غدت ينبوعاً ثراً للمعارف والفكر، ومن مدارس الجزيرة تخرج علماء كبار ومثقفون مشهورون وفي منطقة “الجزيرة” و “هكار” فلاسفة وشعراء وكتاب وأدباء مثل “أحمد خاني” و ” فقي تيران ” و “ملاي جزيري “، إن ملحمة أحمد خاني ” مم وزين تتبوأ مكانة سامية بين الآداب العالمية ن والعائلة البدرخانية أيضاً ساهمت مساهمة كبرى في مضمار اللغة والأدب والفنون الفكرية، ففي عام 1898 م أصدر أبناء هذه العائلة مجلة ” كوردستان ” وفي أعوام 1930 1954 م أصدروا مجلة “هاوار” و ” روزا نو ” و ” روناهي ” ولاسيما أن جلادت بدرخان وضع الحروف الأبجدية وقواعد اللغة الكردية، وفي عام 1821 م أخذت أسرة ” آريزان ” مقاليد الحكم في الجزيرة. في القرن التاسع عشر كانت كوردستان موزعة بين الإمارات ،وكان لإمارة ” بوتان ” ومعها العشائر الكوردية مواقف نبيله إزاء الطامعين والغزاة وقد جرت بين إمارة ” بوتان ” و ” سوران ” و ” بادينان ” و ” بابان ” محاولات وأحاديث لتوحيد هذه الإمارات واستقلالها، ولكن الدولة العثمانية سرعان ما عرفت الحقيقة فأرسلت جيوشها لمهاجمة جميع الإمارات، وفي هذا الهجوم أزالت الدولة العثمانية الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به الإمارات، ثم أرسلت إليها موظفيها المحتلين، وعينتهم حكاماً.
بدليس وخاناتها :
” بدليس ” مدينة قديمة غارقة في القدم ولها في كوردستان قيمة ” استراتيجية ” قبل وصول المسلمين إليها ومجيء أتراك الأناضول كانت ” بدليس ” مثل جسر بين الكورد والأرمن والأشوريين والعجم. وكانت طرق القوافل والتجار تمر بها من الشرق والغرب وبعد وصول أتراك الأناضول إليها شاركوا في هذا النوع من التعامل.
ولهذه الأسباب فقط أصبحت مدينة ” بدليس ” في مجال التجارة والفن والثقافة والأدب والتعلم مركزاً في كردستان.
ففي أعوام 1200 م 1800 م بشكل خاص وصفت في بدليس مسافة / 21 / كم من الطريق لتسير عليها قوافل التجارة الآتية من الشرق والغرب.
في ذلك العهد كان في بدليس / 8 / ثمانية حمّامات كان بعضها مصنوعاً من المرمر و / 4 / اربعة مساجد و / 8 / ثماني مدارس علمية ودينية وأدبية.
في ذلك العهد يتعلمون فيها الترجمة والفلك والفلسفة والأدب والشريعة ” الدين ” والفن والصناعة، كان فيها خانات ” بيوت لإيواء القوافل ” واسعة ذات بابين تضم أكثر من / 100 / مائة حانوت ومحلات للصناعة.
وكان في بدليس أكبر وأغنى مكتبة. ظهر في بدليس علماء ومتنورين كبار، منذ أيام ” إدريس البدليسي ” وحتى عهد ” شرف خان البدليسي” لم تكن الآداب والثقافات الكوردية وحدها قد وصلت إلى درجة رفيعة بل كذلك كان الأدب الفارسي والعثماني قد بلغ تلك المكانة في بدليس. للبدليسيين : إدريس وشرف خان كتب ومؤلفات قيمة باللغة الفارسية ول ” شكري ” باللغة التركية. كتب عبدالخان قرابة / 70 / سبعين كتاباً بخط يده، وفي عهده كانت مكتبة “بدليس” إحدى المكتبات الفنية الكبيرة الموجود في بلاد فارس والدولة العثمانية.
ألّف إدريس البدليسي كتاباً بعنوان ” ثماني جنات ” يضم / 80000 / ثمانين ألف بيت.
في عام 1597 م انتهى شرف خان البدليسي من تأليف ” شرف نامه ” باللغة الفارسية الذي يتحدث فيه عن الكورد ويروي تاريخهم، وهو عمل رائع خالد.
انتصر العثمانيون في معركة ” جالديران ” بعون من إدريس البدليسي، ثم بدأوا رويداً رويداً يتوغلون في أرض كوردستان وقلّصوا سلطة الإمارات الكوردية حتى احتلوا كوردستان بأكملها.[1]