د. سندس السامرائي
اعتمدت الدولة العثمانية في نظامها البريدي على وسائل مواصلات بسيطة متمثلة باستخدام (الحمام الزاجل)، فضلا عن استخدام سعاة البريد والذين يسمون ب اللغة التركية (الطاطارية – التاتارية)، إذ تتحد مهامهم بنقل البريد من مصادره إلى الدوائر المعنية بالأوامر والتعليمات، واستخدام أولئك السعاة الجمال، التي تتحمل قطع المسافات الطويلة في البراري التي تمتد قرابة 12 يوما.
وتطور النظام البريدي للدولة العثمانية، إذ أسست مصلحة البريد المركزية في عام 1840، ما انعكس إيجابيا على سرعة إيصال البريد واتخاذ الإجراءات اللازمة على ضوئه، وفي أثر ذلك أنشئت في #الموصل# دائرة البريد في عام 1878م، وحملت الموصل رقمها البريدي (367)، فضلا عن استخدام الطوابع البريدية كسياق إداري لترصين عمل البريد، ولذلك ثبت تعليمات محددة فيما يتعلق بالمراسلات البريدية، فعلى المرسل أن يدفع رسما ضريبيا إلى دائرة البريد مقابل الرسائل التي تسلم إلى مركز البريد، وكذلك يترتب على المرسل أن يكتب أسمه على ظرف الرسالة مع الجهة المرسلة إليها، وعند حصول خلل صادر من المرسل، تترتب عليه غرامة تتناسب مع حجم الخطأ المتعلق بالرسالة، وكذلك يترتب على المرسل الذي يروم استرجاع رسالته توضح أسباب ذلك مع الإقرار بعائدية الرسالة له، وينبغي على المرسل تثبيت عنوان المرسل إليه باللغة التركية فضلا عن اللغة الأجنبية (لغة إنكليزية أو لغة فرنسية مثلا) في حالة تحرير الرسالة إلى الدول الأجنبية.
وتحصر الواردات البريدية من الأموال في عهده مدير الدائرة البريدية، وتجدر الإشارة إلى أن الدائرة قد أصدرت تعليمات بعدم قبول الرسائل التي تحتوي النقود، إذ اعتمد نظام (الحوالات) وذلك حفاظا على النقود من السرقة وما شاكلها وفي حالات معينة يمكن الاتفاق مع أحد سعادة البريد لنقل رسالته دون الحاجة الى تثبيت طابع عليها وخصوصا إذا كانت الرسالة موجهة نحو منطقة قريبة ، على ان يكون ذلك بعلم الدائرة ولقاء أجره مضاعفة عن الأجرة العادية.
وكان من حيثيات العمل البريدي إرسال الرسائل ذات الطابع الخاص ، حيث توضع الرسالة في ظرف بريدي مميز عن مثيلته وتختم في ثلاثة أماكن ، مع اصطحاب الساعي عند نقله هذا النوع من الرسائل إقرارا بريديا رسميا يذكر فيه أهمية هذا النوع من البريد.
أما فيما يتعلق بكيفية إيصال الرسائل فان دائرة البريد تحدد أوقاتا معينة، ويشرع السعاة بتوزيع الرسائل حسب عناوينها ابتداء من المناطق القريبة، ثم انطلاقا إلى المناطق البعيدة، كما كان بعض السعاة يبذلون جهدا إضافيا خارج نطاق عملهم، وخصوصا في مجال إيصال الرسائل إلى مناطق بعيدة، فعندها يحق له قانونا أن يقدم طلبا إلى الدائرة يوضح فيه ذلك الجهد المناسب بغية الحصول على مكافأة مناسبة.
ومن المشاكل التي كانت تكتنف عمل دائرة البريد، هي عدم وجود طوابع بريدية مثبتة على الرسائل، فضلا عن أن البريد المنقول إلى مناطق خارج مركز ولاية الموصل، كان يتعرض أحيانا إلى هجمات اللصوص وقطاع الطرق.
أما التلغراف الذي يعد وسيلة سريعة لتأمين الاتصالات، فقد نصب أول خط منه في عهد الدولة العثمانية ما بين الموصل وبغداد في عام 1861، وكانت هناك منظومة اتصالات تلغرافية ما بين الموصل ونصيبين وماردين وديار بكر، فضلا عن وجود اتصال ضمن تلك المنظومة ما بين الفاو ، البصرة ، القرنة ، بغداد ، كركوك ، أربيل ، الموصل.
واقتصر استخدام التلغراف في بداية الأمر على الجانب الحكومي والرسمي، إذ لم يعتد أهالي الموصل على استخدامه آنذاك، ولكن بمرور الزمن عرف الموصليون أهمية التلغراف بوصفه طريقة فاعلة لنقل ملاحظاتهم وانطباعاتهم وشكاواهم إلى مراجعها الأساسية. وهذا التطور في نظام التلغراف آنذاك ، كان له الأثر في أداء دائرة البريد، إذ أصبح استخدام التلغراف في مدينة الموصل على درجة من الأفضلية، ولم تتوان دائرة البريد على إعلان أجور استخدام الاتصال بالتلغراف البالغة (10 قروش نظير تدوين عشرين كلمة) في التلغراف المستخدم في داخل المدينة، في حين تزداد الأجرة إذا كان استخدام التلغراف بين الولايات المتباعدة. وتجدر الإشارة إلى أن كادر دائرة التلغراف كان يتألف من المدير وبمعيته عدد من المستخدمين في دائرة خاصة تعرف عند أهالي الموصل باسم (التلغراف خانة).
وقد تعرضت خطوط التلغراف في مدينة الموصل في فترة الحكم العثماني الى العبث والسرقة والتخريب ، ولكن السلطات العثمانية قابلت ذلك بشدة ، إذ فرضت غرامات مالية كبيرة في حالة إلقاء القبض على العابثين ، وحددت مقدار الغرامة بقصد المخرب ، فقد فرضت (50.5) ليرة ذهبية إذ كان التخريب بغير عمد من فاعله ، أما إذا كان التخريب بقصد مسبق من فاعله فعندها يغرم بغرامة قدرها (50-200) ليرة ناهيك عن حجزهم وتأديبهم لفترة محددة.
وحول مواصفات المواصلات بين إجراء الدولة العثمانية عموما، وما يتعلق بالمواصلات بمدينة الموصل خصوصا، فإنها كانت عموما تحتاج إلى تأمين السيطرة عليها، وخصوصا في مجال تعرض المسافرين إلى هجمات الغزو والنهب والسلب، ناهيك عن افتقار بعض الطرق إلى أساسيات مهمة لتسريع النقل ما بين الموصل والولايات الأخرى.
وكانت الطرق المعتمدة في ولاية الموصل في اتصالاتها مع الولايات الأخرى على نمطين فهناك الطرق البرية والطرق النهرية، ولعل موقع الموصل الحيوي جعلها نقطة انطلاق للطرق التي تتوجه إلى الداخل العراقي، لتوسطها ما بين مركز الإدارة العثمانية في العاصمة استانبول وبين أرجاء العراق الأخرى.
وقد أظهر الوالي العثماني في بغداد مدحت باشا 1869-1872م اهتماما بالطرق البرية، إذ عمد إلى إرسال فرقة هندسية لغرض تطوير الطرق بين الألوية العراقية، ومنها ما بين الموصل وبغداد.
وتباينت أجور النقل البري على وفق السنوات، إذ أشارت أسعار النقل لعام 1838م ما بين مدينة الموصل ومدينة حلب إلى (220-300 قرش للقنطار) ، في حين كانت في العام 1860م بمبلغ قدره (200 قرش) ، وكان أسلوب النقل يجري بأسلوب القوافل ، إذ يتفق التجار المعنيون بإرسال بضائعهم مع مسؤول القافلة، الذي يتحمل بدوره المسؤولية بعد الاتفاق على المواعيد الزمنية لانطلاق القوافل، ويعرف رئيس القافلة باسم (قافلة باشي)، الذي يمتلك مواصفات إيجابية تؤهله لهذا المنصب ومن أهمها الدراية الكاملة بالطرق البرية التي تمر بها القافلة تجنبا لحالات النهب والسلب في بعض الطرق التي لا يؤمن السير فيها.
فقد قصد الحاج محمد توفيق نعمان الفخري بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج فسلك طريق الموصل الشام بيروت برا وركب الباخرة (الوابور) إلى جدة وأدى مناسك الحج وعاد من طريق الذهاب نفسه وعند وصوله الشام من الحج استأجر عربة حنتور جديدة مع ثلاثة خيول من الشام إلى الموصل وكانت أجرة النقل مقدارها (15) ليرة عثمانية وكان صاحب الحنتور حاجي على الشعراوي قد قبض نصف المبلغ أي (7.5 سبعة ليرات ونصف) نقدا والنصف الثاني المتبقي يدفعوها عند وصولهم الموصل.
أما النقل النهري (المائي) بواسطة الأكلاك فيعد من أقدم وسائط النقل الشائعة في حين كانت صادرات الموصل وبعض المدن الشمالية من العراق إلى بغداد تنقل بواسطة الأكلاك، تتكفل الأكلاك بنقل البضائع والسلع التجارية كالحاصلات الزراعية من الفاكهة والجوز والزبيب، إلى جانب نقل المسافرين وبأقل الخسائر الممكنة وقد نشط النقل النهري بالأكلاك إبان العهد العثماني، وزاد من أهمية المدن وعمل توسيع مصادر ثرواتها الاقتصادية خلال ذلك العهد، وتبلغ حمولة الكلك ما بين (5-30) طنا وهي تستخدم بطريقة خاصة في نهر دجلة من الموصل إلى بغداد، وعمل الأكلاك وتسيرها في نهر دجلة أقتصر على عدد من أهالي الموصل وكان الشخص الذي يعمل في الكلك يدعى الكلاك.
والمدة التي يستغرقها الكلك في رحلته من الموصل إلى بغداد تتراوح ما بين (6-8) أيام في فصل الصيف أما إذا كان في أيام الفيضان وعند ارتفاع منسوب المياه فلا تزيد مدة الرحلة من (3-4) أيام. ومن أهم العراقيل التي تواجه الكلاكين في فصل الصيف هي انخفاض منسوب المياه النهر وظهور العديد من الجزر فيه، وهبوب الرياح أما في أوقات موسم الفيضان فكانت المخاطر التي تواجه الكلك تتمثل في سرعة جريان النهر إلى جانب ظهور دوامات قوية فيه كثيرا ما تؤدي إلى انقلاب الكلك وغرقه فضلا عن تعرض الأكلاك إلى هجمات وتعرضات قطاع الطرق واللصوص وأغلبهم من البدو.
أما الطرق النهرية فكانت مقسمة على وفق محطات معينة في نهر دجلة الذي تمر عادة من مدينة الموصل، وتبدأ المحطة الأولى للنقل النهري انطلاقا من منطقة ديار بكر وصولا إلى مدينة الموصل، وكان أغلب العاملين فيها من سكان ديار بكر وجزيرة أبن عمر وبعض من أهالي الموصل، والمحطة التي ترسو فيها الأكلاك في الموصل تعرف ب
(شريعة القلعة).
أما المحطة الثانية تنطلق فيها الأكلاك ثانية من الموصل باتجاه تكريت وهي تحمل أنواع البضائع والسلع ويتولى قيادتها كلاكون معظمهم من أهالي تكريت، الذين كانوا قد اتخذوا من مهنة الكلاكة مصدرا رئيسا لرزقهم لقرون طويلة حتى أصبحوا يسيطرون سيطرة كلية على النقل النهري ما بين الموصل وبغداد، في حين انتظموا في جماعات مستقلة وشكلوا صنفا خاصا بهم في الموصل هو (صنف الكلاكين) واستقر في محلة باب عراق الواقعة في منطقة باب الجديد.
المحطة الثالثة وهي محطة تكريت، إذ كان الكلاكون قد اتخذوا منها محطة استراحة فيها تتوقف حركة الأكلاك في الليل ليقضون ليلتهم فيها ثم ينطلقون ثانية في الصباح باتجاه بغداد حتى ترسو هناك على ضفتي دجلة في منطقة الكاظمية عند شريعة الأعظمية بعدها يقوم الكلاكون بعملية تفريغ حمولاتهم وبيع أخشاب الأكلاك إلى سكان بغداد لاستخدامها في بناء البيوت أما الظروف فكان بعضها يباع في بغداد وتستخدم في نقل المياه أو في حفظ التمور في حين يتم إعادة بعضها الآخر لاستخدمه مرة ثانية.
وأورد السيد محمد توفيق نعمان الفخري أن هناك مشروع نقل مائي من البصرة الى الموصل عكس اتجاه مجرى النهر لشركة أهلية مساهمة وأول عبّارة وصلت الى الموصل لنقل البضائع والأشخاص والخيول عام 1870م وكان المرسى الذي خصص لها في محلة باب الطوب الواقعة بين الجسر المتنقل القايغات على الأبلام وجامع مجاهد الدين (جامع الخضر عليه السلام) وقد تأييد لي بأن بيت الحاج طالب المعروفين بتجارتهم للخيول مع الهند بأنهم كانوا ينقلون خيولهم بهذا الطراد الى البصرة ثم يشحنون خيولهم من البصرة الى الهند بواسطة البواخر الكبيرة وبنفس الطريق كانوا يجلبون الأثاث الخشبية الكبيرة ومن ضمنها المرايا.[1]