عروبة جميل محمود
هاجر اليهود الى مدينة#الموصل# منذ فترات تاريخية تعود الى العصر العباسي ، واستوطنوا مدينة الموصل في حي مغلق سمي في العرف الموصلي باسم (محلة اليهود) ، والذي يبدو من تسمياتها تظهر انهم كانوا مجتمعاً انعزاليا ، وهذه صفة لازمة لهم إذ كانوا حذرين في التعامل مع الاخرين وإضافة الى ذلك فانهم انتشروا في بعض الأقضية التابعة لمدينة الموصل ، وعملوا في مجال التجارة وصياغة الذهب والحرف والمهن المختلفة وفي مقدمتها مهنة الحياكة .
أما من ناحية تعداد السكان اليهود في مدينة الموصل فقد قدر عددهم في القرن الثامن عشر ب (400) شخص في حين تشير المصادر التاريخية ان عددهم قد بلغ (3000 ثلاثة آلاف) شخص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وقد أوضح الرحالة بنيامين الذي زار الموصل في القرن التاسع عشر أوضاع اليهود مشيراً الى وجود (450) بيتاً ، واعطى صورة سلبية عن اوضاعهم الاجتماعية التي وصفها بالفقر والجهل ، فضلاً عن تعرضهم الى الاضطهاد ، ألا انه بذات الوقت أشار الى وجود الكنيس الذي يمارسون فيه طقوسهم الدينية الى جانب مدرسة تتعلق بطبيعة دياناتهم وعلومهم .
ويبدو واضحاً ان التصور الذي طرحه الرحالة بنيامين اليهودي لم يكن دقيقاً عن أوضاع اليهود في مدينة الموصل إذ ذكر الرحالة نيبور في القرن الثامن عشر الذي زار المدينة واصفاً أوضاع اليهود بقوله ان اليهود في المدينة تمتعوا بحرية تامة في زيارة أضرحة الأولياء والقديسين في الأماكن التي كانوا يدعون أنها في زمن ما كانت لهم كنائس ، وجاء رداً على ادعاء اليهود بان المسلمين يمنعوهم من زيارة ضريحة النبي يونس ، ان التباين بين ادعاءات بنيامين اليهودي وبين حقائق الرحالة نيبور توضح ان هدف بنيامين اثارة مشكلة اليهود في مدينة الموصل الى تثبيت حقيقة تاريخية هي أنهم اصحاب الأراضي والدور في مدينتهم ومع ذلك فأنهم كانوا مضطهدين ، وهذا كلام خاطئ ودليل ذلك أنه نيبور أشار بشكل واضح الى الحرية التي تمتع بها اليهود في المدينة ليس ملكهم ، وليست لهم فيها ممتلكات عقارية توارثها عن أجدادهم وذلك لأنهم طائفة دينية هاجرت الى مدينة الموصل ، فأنهم ليسوا أبناء الموصل ليجري الدفاع عنهم من قبل بنيامين وكأنهم اصحاب الحق في هذه المدينة .
كانت أعداد اليهود في تزايد مستمر في مدينة الموصل ، اذ بلغ عددهم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر نحو (3273) نسمة ، توزعوا في الموصل وتوابعها ، ففي قضاء الموصل كان عددهم (910) نسمة ، وفي قضاء العمادية بلغ عددهم (516) نسمة ، وفي قضاء زاخو بلغ عددهم (346) نسمة ، وفي قضاء عقرة بلغ عددهم (779) نسمة ، أما في قضاء دهوك فقد كان عددهم (631) نسمة ، وفي عام 1918م فقد قدر عددهم بنحو (13.835) نسمة وهو ما يعادل (%18.3) من مجموع سكان ولاية الموصل .
وفي عام 1919م قدر ارنولد ولسن عددهم في العراق ب (86.488) ألف نسمة من مجموع سكان العراق البالغ عددهم (2.694.282) مليون نسمة ، أي نسبتهم ما بين 2% إلى 2.5% في حين قدرت قوات الاحتلال البريطاني عددهم عام 1920 في الموصل (14.835) ألف نسمة من مجموع عددهم الكلي في العراق (87.488) ألف نسمة .
لقد تعاملت السلطات العثمانية بتسامح مع اليهود إذ كان لهم تنظيمهم الديني الذي يرأسه (الحاخام) وهو الجهة المسؤولة عن تنظيم شؤونهم الدينية ، وفضلاً عن ذلك فقد تمتعوا بحرية تامة في المجال الاقتصادي إذ أصبحوا من أثرياء الدولة العثمانية ، فقد تمتعوا بالحقوق التي كان يتمتع بها النصارى ، ولعل أبرز دليل على ذلك ما ورد في بيانات الاصلاحات العثمانية ، خط شريف كولخانة (1255ﮪ/1839م) وخط همايون (1273ﮪ/1856م) ، إذ منحت اليهود مساهمة واضحة في الشؤون الأدارية ، لا بل وصل الأمر بتأمين الحق المدني لهم بأن منحوا حق التمثيل في البرلمان العثماني وذلك في سنة (1293ﮪ/1876م) ، ومن ابرز ممثليهم مناحيم ودانيال .
ومن مظاهر الحرية التي تمتع بها اليهود في الدولة العثمانية بشكل عام والعراق ومنه ولاية الموصل اصدار تعليمات الادارة السلطانية العثمانية في (1281ﮪ/1864م) الذي اتاح اليهود تنظيم شؤونهم الدينية بشكل ذاتي إذ كان الحاخام باشي في رأس الهرم الديني لليهود ، ويشرف على أداء مجلسين يهوديين احدهما ذو صفة دينية والآخر ذو صفة علمانية ، على ان يعتمد الانتخاب في تشكيل هذا التنظيم الديني ، ويتبع ذلك مصداقية الدولة العثمانية على انتخاب الحاخام باشي بصدور فرمان خاص بذلك مدى الحياة ، وتبع ذلك اعفاء الحاخامات وابنائهم ومن يعمل معهم في التشكيل الديني من دفع الضرائب الى الدولة العثمانية .
أما فيما يتعلق بالضرائب التي يتوجب على اليهود دفعها الى السلطة العثمانية ، فقد كانت ضريبة الجزية تدفع عن كل يهودي بلغ (12 سنة) فما فوق ، إذ كان يتم زيادتها سنوياً كما اعفت الحكومة العثمانية اليهود من اداء الخدمة العسكرية الألزامية مقابل دفع (بدل نقدي).
اتصفت العادات الاجتماعية في مدينة الموصل بالانغلاق بحيث استطاعوا تكوين مجتمع يهودي خاص داخل المجتمع الموصلي العام ، ولهذا السبب كانوا يتفقون على توزيع مهامهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية ، فعلى سبيل المثال وفي الميدان الاقتصادي توزعت فئات يهودية في مجال التجارة ، أولاها تجار (الجملة) الذين كانوا يوردون البضائع الى الباعة المتجولين من اليهود والنصف الآخر تفرغ للصياغة إذ كانوا على درجة من المهارة في هذا المجال .
ويشير أحد المصادر الى ان الكثير من اليهود من أصحاب المحلات وخاصة محلات لبيع المواد الغذائية والتي تسمى في تلك الفترة محل العطاريات لأن أصحابها يقومون ببيع المواد الغذائية فضلاً عن العطور والبهارات ، وهؤلاء يتركزون في مدينة الموصل وباقي المدى الأخرى ، كما عملوا في مجال التجارة وصياغة الذهب والحرف والمهن المختلفة وفي مقدمتها مهنة الحياكة، وكان اليهود يعملون على الاغلب حرفيين وصناعاً في الاعمال المعدنية الخاصة بالذهب والفضة والبعض منهم مارس أشغالا متواضعة
كاسكافية .
فضلاً عن اشتغالهم بالمقايضة مع سكان مدينة الموصل في المقايضة بشراء الملاس القديمة مقابل بيع البلور (الزجاجيات) وبيع الاقمشة والصابون والاساور ، وفي المجال الأجتماعي ، فقد كان هناك تضامن مع اليهود في تشجيع الزواج بسن مبكرة وفي حالة عدم تمكن الرجل من الزواج لأسباب مادية ، يتحرك جيرانه من اليهود ليتبرعوا بالمال اللازم لأكمال الزواج ، ويبدو واضحاً ان اليهود في تضامنهم الاجتماعي المتعلق بالزواج المبكر كانوا يريدون ويحرصون على زيادة النسل في المدينة بهدف تكوين فئة اجتماعية يهودية تستطيع امتلاك أكبر قدر من عقارات المدينة ونشاطاتها . وعلى الرغم من كافة مجالات الحرية والحقوق التي منحتها الدولة العثمانية لليهود ، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 لاقت الطائفة اليهودية من الجور والحيف ما يشيب له الرضعان في المهد جزعاً في عهد قيادة نور الدين فأنه قام بنفي عدداً من وجوههم ومن وجوه النصارى وبعض المسلمين الى الموصل وكان في نيته ان يبعثهم الى دريسم ويلحق بهم قوافل أخرى ولكن حالت دون رغبته بعض الاسباب .
وقد اتخذ اليهود من يوم السبت عطلة لاداء شعائرهم الدينية اذ يبدأون ممارسة طقوسهم الدينية ظهيرة الجمعة من كل أسبوع وبالتحديد في تمام الساعة الثانية ، فتغلق محالهم التجارية كافة ويتوقفون عن ممارسة كافة الاعمال ، فيعود كل يهودي الى منزله ليقوم بارتداء أفضل ملابسه ، فيرجع مسرعاً الى المجمع الكنسي الخاص بطائفة اليهود لأجل أقامة وتأدية المراسيم الدينية التي كانت تتواصل الى ما قبل غروب الشمس ، في حين يبدأ اليهود بتناول وجبات الطعام التي تستمر احياناً حتى منتصف الليل وفي صبيحة يوم السبت تؤدي الطقوس الدينية يتم خلالها قراءة جزء من الكتاب المقدس (التوراة ، العهد القديم) من قبل رب الأسرة ، أو أحد الضيوف ويحدث أحياناً في بعض الأوقات ان تجتمع بعض الأسر اليهودية لأداء هذه القراءات ، وتنتخب للقراءة المقاطع المأخوذة عن الأنبياء أفراد العائلة كافة ، ليكونوا أذاناً صاغية للخطبة وبعد الانتهاء من ذلك فقد يخصص اليهود بقية اليوم لتبادل الزيارات .
عن رسالة دكتوراه (الحياة الاجتماعية
في الموصل 1934 1914).[1]