=KTML_Bold=إشكالات الترجمة وتأثيرها في بناء الهويات الثقافية=KTML_End=
لم يكن التحوّل نحو الثقافة في القرن العشرين تحوّلًا اعتباطيًا أو منفصلًا عن التحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى الأخرى، فقد أدى الانعطاف الكبير نحو الثقافة، ما سُمّي بالتحوّل الثقافي Cultural Turn، إلى إحلال الثقافة محلّ الطبيعة في النقاشات المعاصرة، فكل ما كان يُنسب إلى الطبيعة، أصبح يُنسب إلى الثقافة. كانت لهذا التحول أسباب علمية وسياسية واجتماعية عدة. فقد شهد القرن تطورات صناعية وتكنولوجية وساهمت العولمة في تأسيس تجمعات اقتصادية كبيرة. ونفى العلم باكتشافاته الحديثة وجود فروق في القدرات الذهنية على أساس العِرق أو الجنس، ووُجد أن الاختلافات بين الأفراد والجماعات هي أميل إلى أن تكون اختلافات ثقافية.
أما الأسباب الاجتماعية والسياسية، فنجد آثارها في اندلاع الثورات المختلفة حول العالم. فمن جهة، نجد احتجاجات الأمريكيين الأفارقة الذين خرجوا لمقاومة التمييز والاستعباد المُمارس باسم التفوق “الطبيعي” للإنسان الأبيض. وهناك أيضًا الحركات النسوية، التي انطلقت في أماكن عدّة مطالبةً بالمساواة، وبإسقاط النظام الذكوري الذي يمارِس هو الآخر هيمنته باسم التفوق “الطبيعي” لجنس الذكر. إضافة إلى فظائع النازية المرتكبة باسم التفوق “الطبيعي” للعرق الآري. كما شهدت البلدان العربية المستعمَرة حركات احتجاجية عدة من أجل الاستقلال والتحرر. وقد جاء التحول الثقافي في المنطقة العربية رغبةً في إيجاد حلٍّ للخلافات الثقافية بين التيارات الحداثوية والتقليدية، وللصراعات الثقافية المرتبطة بوجود أقليات في المجتمع، من أجل توكيد الهويات الثقافية والحفاظ على التماسك الاجتماعي.
وعلى الرغم من أهمية التحوّل الثقافي وحصافة غايته، كانت لهذا التحول نتيجة غير متوقعة. فبدلاً من أن يكتفي هذا التحوّل بالقضاء على الكراهية والعنصرية والتمييز، كرّس من ناحية أخرى الاختزالية الثقافية وأدى إلى نشوء صراعات ضمن الهوية الواحدة. فقد شكَّل هذا التحوّل بيئة خصبة لولادة مزيد من الهويات والخصوصيات الثقافية وتكاثرها وتشابكها. لم تعد الهوية الثقافية مفهومًا نقيًا رتيبًا مغلقًا وأحاديّ البعد كما كان في السابق. ولم يعد في الإمكان قصر موقعة الذات على خصوصيات عذراء أو مكونات هوياتية نقية (كاللغة أو الجنس أو الإثنية).
أصبحت الهوية الثقافية مركّبًا مؤلَّفًا من عناصر ثقافية عدة. وبسبب تكاثر الهويات بشكل كبير، تداخلت هويات وتشابكت فيما بينها، وانشطرت هويات أخرى وتنافرت فيما بينها. وأصبح المرء يعيش حالة صراع هوياتي مستمرة مع اصطدام أنظمة توليد المعاني والأنظمة الخطابية.
عند هذه النقطة، تبرز أهمية الترجمة الثقافية التي تسعى لخلخلة الهويات الثقافية التي تزعم التماسك والتجانس والنقاء، واختراق المعطيات الثقافية الساكنة، وكسر الدوائر المغلقة. تبرز أهميتها ضمن اللغة الواحدة وبين لغتين أو أكثر بحسب تقسيم جاكوبسون Roman Jakobson، بوصفها أداةً للتأليف بين الهويات الثقافية وفضاءً لإنتاج ذوات هجينة ثقافيًا. غير أن فضاء الترجمة الثقافية مكتنَف بإشكالات عدة تفرضها، من جهة، “طبيعة” الهويات الثقافية التي لا تنطوي على تناقضات جوهرية ذاتية، ومن جهة أخرى، علاقة الهويات الثقافية بعضها ببعض التي تجعل من الفضاء عينه ميدانًا للصراع وأفقًا رحبًا لعلاقات القوة. فبقدر ما تكون الترجمة أداة للتواصل والتبادل والتلاقح، تكون ميدانًا للسيطرة والهيمنة والإخضاع. وكثيرًا ما استُخدمت الترجمة أداة للسيطرة الكولونيالية، ولولا جهد المفكرين والمترجمين في إماطة اللثام عن طرائق توظيف الترجمة لغايات الهيمنة الثقافية وإبراز علاقات القوة الكامنة في النص والتي من خلالها تسيطر ثقافة قوية معينة على ثقافة أخرى أضعف منها، لتفاقم التأثير الكولونيالي لهذه الترجمات وحافظت على قيمتها.
في هذا السياق، في تداخل الهويات الثقافية المتعددة والفروع المعرفية المختلفة، وفي خطر استخدام الترجمة وسيلةً للسيطرة والقمع، تُطرح أسئلة كثيرة؛ علام تقوم الترجمة بوصفها وسيلة لمقاومة الهيمنة الثقافية وأداة للتغيير الاجتماعي؟ ما الجهد الذي ينبغي للمترجم أن يبذله في مواجهة خطر التشويه والابتلاع، أي حين تبتلع اللغات الكبرى لغات صغرى، ما أسماه لوي – جان كالفيه (Louis-Jean Calvet) بالالتهام؟
تقتضي مناقشة موضوعات الترجمة الثقافية وقوفًا لازمًا على مفهوم الهويات الثقافية ومفهوم الثقافة الذي خضع لتغيرات وتطورات كثيرة عبر التاريخ، وتحوَّل إلى مفهوم أنثروبولوجي ينطوي على كثير من الموضوعات المختلفة. فبسبب إحلال الثقافة محل الطبيعة، سادت الاختزالية الثقافية في الفكر المعاصر ورُدَّت الأمور والقضايا كلها إلى الثقافة. وبسبب تداخل الثقافة بالسياسة، أصبحت الثقافة أشد خطورة من السياسة في حالتها الصرفة، ما أتاح للسياسة أن ترتدي الزي الثقافي، وأن تنجز أجنداتها باسم الثقافة. وإذا قبلنا بأن الهوية متخيَّلة في عمقها، كما يرى بندكت أندرسون (Benedict Anderson)، فكيف تُبنى هذه الهوية المتخيَّلة ثقافياً؟ ما تحدّيات بناء هذه الهوية؟ ما تأثير الانتماءات الفرعية في بناء هذه الهوية؟ كيف تُشرِّع هذه الهوية الثقافية نفسها عاطفيًا ووجدانيًا؟ وكيف تتحول هذه الهوية الثقافية إلى أيديولوجيا وسياسة ثقافية؟ ما الفرق بين الهوية الثقافية المتخيَّلة والأيديولوجيا الثقافية السياسية الهادِفة والعارفة بذاتها؟ ومن ناحية أخرى، هل يمكن المواءمة بين الخصوصيات الثقافية وإيجاد مشتركات ثقافية يمكن من خلالها بناء ما بات يُعرف ب “الذكاء الثقافي”؟
وبالعودة إلى الترجمة الثقافية، وللخروج من دائرة المفاهيم الثنائية التي ظلت الترجمة حبيسة في داخلها مدة طويلة – أمانة أو خيانة، إمكان أو استحالة – والتي أثبتت عقمها وعدم واقعيتها، قد نسأل، هل تمكن صياغة نظريات واستراتيجيات ترجمة قادرة على ردم الهوة بين هذه الثنائيات؟ وما الذي يحدّد هذه الاستراتيجيات؟ وما علاقة موقف المترجم بهذه الاستراتيجيات؟ ما موقف المترجم؟ وهل يُعرب المترجم عن موقفه من كل ترجمة، أم أن هناك موقفًا عامًا يتبناه المترجم مسبقًا؟ وهل يتسنى للقارئ معرفة موقف المترجم؟ كيف تتطور العلاقة بين المترجم والقارئ؟ وما المعايير التي يحكم من خلالها القارئ على المترجم؟ هل يستطيع المترجم أن يعطّل قناعاته ورؤيته وذائقته في الترجمة؟
وكالات[1]