=KTML_Bold=الثورة الشعبية في الشرق الأوسط .. آمال النصر ومحاولات الالتفاف=KTML_End=
كورداونلاين
بحلول ذكرى يوم استشهاد الرفيق رستم جودي ننشر مقالته التحليلية لثورات الشعب في الشرق الأوسط
رستم جودي: صحوة شعوب الشرق الأوسط بعد طول سبات، تم التعبير عنها بشعارات تتحدث عن ان الشعب يريد اسقاط النظام، الشعب يريد اصلاح النظام، الشعب يريد التغيير والحرية والمساواة. هذه المرة الأولى في تاريخ هذه الشعوب التي تظهر فيها على المسرح بالشعارات والأجندات التي تعبر عن مصالحها وبالتالي تكون لأول مرة ذاتية مستقلة. تُظهر اختلافها عن أجندات الدولة والانظمة. الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط هي التعبير العملي عن ربيع الشعوب. فصل الربيع هو الفترة الزمنية من فصول السنة التي تعبر فيها الحياة عن نفسها بأوضح الاشكال. والتي تسود فيه الحيوية على كل ما هو موجود وهو تعبير عن نهاية مرحلة شتاء قاسية. وشعوب المنطقة أيضا باتت تعيش ربيعها بعد أن بدأ الدم يجري في عروقها، وتظهر عليها معالم الحياة بعد فترة طويلة من الجمود. أنه التعبير العملي عن زمن الشعوب، زمن تنتزع فيه الشعوب حقها في تقرير مصيرها، زمن سقوط الرموز التي ظنت بأنها تملك الحق الطبيعي في الحكم مدى الحياة وعلى تعاقب الاجيال. رموز تمادت في التسلط والعنهجية والاستبداد الى درجة تجاوزت فيها ما كان يجري حتى في عهد الملوك المتألهين في الأزمنة القديمة. انفردت بالسلطة بشكل نعجز عن التعبير عنها من خلال المصطلحات التي اعتدنا على اطلاقها على اشكال الحكم الظالمة مثل مصطلح الحكم المطلق أو المونارشي. لقد انفردت في السلطة وفي الملك، واحتكرت كل ميادين الحياة، السياسية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية والثقافية، من خلال القضاء على كل أشكال الرقابة المؤسساتية والاخلاقية.
التطورات التي بدأت مع انتفاضة الشعب التونسي والتي جاءت بعد وفاة شاب كان قد أضرم النار في جسده احتجاجا على الفقر وتصرفات رجال الامن، تستمر من خلال ما تشهده المنطقة من احتجاجات وتناقضات واعادة الصياغة وغيرها من الامور التي تؤكد على حقيقة واحدة وهي ان رياح التغيير قد فعلت فعلتها واثبتت مرة أخرى ان العوائق مهما كانت، ما هي إلا تدابير مؤقتة غير قادرة على وقف حركة التاريخ أو اعادتها الى الوراء. وعند القيام بتناول موضوعي للأحداث والتطورات، من الممكن التوصل إلى نتائج مهمة واستخلاص دروس أهم، لابد من البحث عن دوافع التحرك الجماهيري ومواقف القوى المختلفة منه، والمآل المحتمل لهذه الاحداث ومخاطر الاحتواء وأهدافها الحقيقية والتأثير الذي تتركه الآن وفي المستقبل على سير الأمور.
بالطبع للعامل الاقتصادي دورا مهما في حدوث الثورات الاجتماعية، وهو يلعب دورا اساسيا في ما يحدث الآن في المنطقة من احتجاجات وانتفاضات. الهوة المتسعة باضطراد بين الفقراء والاغنياء وتحول أفراد السلطة على مختلف درجاتهم الى شبكة لصوص تنهب المال العام دون ان يردعها أي رادع حقوقي، ادى مع مرور الزمن الى ظهور ردود أفعال لم يعد من الممكن السيطرة عليها من خلال وسائل القمع التقليدية التي كانت تشكل عماد النظام السياسي القائم.
النظام السلطوي لا يملك مشاريع تنموية، ولا يهتم بمسألة استثمار الموارد الطبيعية في مشاريع تساهم في رفع مستوى معيشة المواطنين، فطبيعة الحكم والبنية الذهنية التي تستند إليها السلطة في هذه المنطقة، تعتبر أهم العوائق امام النمو الاقتصادي الذي قد يؤثر ايجابا على جيب المواطن ومستوى معيشته، فرغم ما تتمتع به المنطقة من موارد ورغم وجودها على بحر من البترول والغاز الطبيعي واتساع الأراضي وتوفر المياه والقوة البشرية الشابة وكل مستلزمات النمو الاقتصادي، إلا إننا نرى أن الأكثرية العظمى من سكان الكثير من دول المنطقة تعيش تحت مستويات الفقر المدقع وتعاني من المجاعة وانعدام الرعاية الصحية والتعليم وغيرها من الحاجات الاجتماعية الملحة.
من الواضح أن أحد أهم أسباب الثورة الشعبية في شمال إفريقيا ومصر هو ملاحظة الفجوة التي تزداد اتساعا فيما بين افراد السلطة وبين افراد الشرائح الاجتماعية الأخرى. فالثروة الوطنية يتم الاستيلاء عليها من قبل الدولة ولا تكتفي بذلك فقط بل تعمل على انتزاع ما يحصل عليه المواطن بجهد شاق، من خلال الضرائب ورفع أسعار السلع الضرورية والرشوة وغيرها من مظاهر الفساد التي تعتبر السلوك الاعتيادي للزمر الحاكمة في المنطقة. ففي الوقت الذي تتضور فيه الشعوب جوعا وتحرم من حق الرعاية الصحية والتعليم والتغذية، فأننا نجد في المقابل وفي نفس البلد مظاهر عيش تتجاوز المقاييس البرجوازية وتبقى كلمة الإسراف دون مستوى التعبير عن ما تقوم به الفئات السلطوية من بذخ. إذا أخذنا مصر على سبيل المثال، كيف يمكن أن نتصور بلاداً يعيش قسم كبير من سكانها تحت مستوى الفقر ويعانون من مشكلة السكن والتغذية والتعليم والأمن وكل ما هو ضروري من أجل أن يعيش الإنسان حرا كريما، في الوقت الذي تقدر الثروة التي يملكها رئيس الجمهورية وأفراد عائلته بأرقام تتراوح بين 40 إلى 70 مليار دولار أميركي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الثروة التي يمتلكها الذين كانوا يشغلون المناصب العليا في الدولة والحزب الحاكم، والتي تم الحصول عليها بدون استثناء من خلال التربح والفساد والاستيلاء على أموال المجتمع عن طريق ما يملك من صلاحيات وسلطة، سنرى أن معظم الثروة الوطنية يتم التصرف بها من قبل مجموعة صغيرة من اللصوص. أما المثال التونسي فهو أكثر إثارة للعجب، لأننا إذا ما شاهدنا السلوك الذي تحيى به العائلة الحاكمة وشبكة المصالح التابعة لها فأننا سنظن بأن معدل دخل الفرد في هذا البلد يتجاوز ما هو عليه في أكثر الدول تقدما في العالم، ولكن نظرة سطحية على الواقع الاجتماعي كافية لأن تكشف عن تناقض كبير، فهو على طرفي نقيض مع ما تعيشه الفئة الحاكمة، لأننا وعكس البذخ والثراء الذي تعيشه هذه الفئة، نجد مجتمع فقير بأكمله وشرائح اجتماعية مهمشة وعاطلة عن العمل وتعجز عن الحصول على لقمة العيش. والأوضاع في الجزائر والمغرب واليمن وسوريا والعراق وإيران وتركيا، لا تختلف عن ذلك. حتى ان دول الخليج التي تتمتع بمستويات أعلى من المعيشة نسبيا، هي أيضا تعاني من خلل كبير في مسائل توزيع العائد الوطني، حيث الافتقار إلى العدالة واستحواذ أفراد العائلات الحاكمة على القسم الأكبر من هذا العائد. إن ملاحظة هذا التناقض كان دافعا لتراكم الغضب الذي لم تتمكن أجهزة النظام في تونس أو مصر أو أماكن أخرى من أن تمنع انفجاره.
للبعد السياسي دور مهم في تصاعد الأحداث، فالنظام الذي ظل يحكم شعوب المنطقة دون منازع طوال العقود الماضية، تمكن من إلحاق ضربات موجعة بقوى المعارضة بكافة اتجاهاتها، وجردها من البعد الجماهيري. ولكنه لم يتمكن من أن يمنع الجماهير رؤية سلوكه السياسي القائم على الاستبداد في الداخل والمساومة في الخارج. فالاحتجاجات هي عمليات قام بها المجتمع المهمش الذي جُرد من حق الادارة الذاتية وحق التنظيم الذي يمثل ارادته وحق التعبير وحق الاعتقاد، فالنظام انتزع منه كل شيء وحوله الى مجرد وسيلة لتحقيق غاياته وتم ذلك عن طريق العنف الممنهج. الأنظمة في الشرق الأوسط لا تعترف بحق المجتمع في انشاء مؤسساته الخاصة، ولا تعترف بحق المجتمع في التعبير عن ذاته كجوهر، بل تراه دوما وسيلة ومادة يجب تسخيرها لغاياته الخاصة، وتعتبر ذلك حكما إلهيا مطلقا لا يمكن طرحه للنقاش. ولكن الأحداث الأخيرة أثبتت بأن المجتمع حقيقة قائمة بذاتها ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها وأن الدول والأنظمة والصيغ السلطوية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تحل محلها. اذن، فالاحتجاجات هي نتيجة إدراك الناس لحقيقة أن الدولة ومؤسساتها لا تمثل المجتمع بمصالحه وأماله ولا تتخذ من أولوياته برامجا للعمل، بل هي مؤسسات تسلطية غريبة عن حقيقة المجتمع ودورها يكمن في ممارسة الاستغلال ضده وتغريبه عن ذاته بالعنف حينا ووسائل وأساليب الخداع الفكرية أحيانا اخرى. وبالتالي فأن الهدف من الاحتجاج هو ارغام الدولة على أن تكون أكثر مراعاة واحتراما لحقوق المجتمع وأن يمتلك المجتمع مؤسسات ومنظمات خاصة به تدافع عن حقه تجاه سلطة الدولة.
فالانظمة في مصر وسوريا والعراق والخليج وشمال إفريقيا وإيران ظلت طوال العقود الماضية تقمع المعارضة بالقتل المباشر والأحكام الصورية والتعذيب والتهجير وكل الممارسات اللاإنسانية وأن ما يجري في زنزانات ومراكز التحقيق في هذه الدول من ممارسات زادت الى حد كبير عن ما كان يتم في دوائر الغستابو في العهد النازي في ألمانيا. وبالفعل تمكنت من تصفية من لم تتمكن من ترويضه وفرض الاستسلام على الآخرين الذين تحولوا الى أبواق للنظام يوفرون لممارساته الشرعية تحت اسم المعارضة. ورغم ذلك فأن الجماهير هبت، الأمر الذي يثبت حقيقة أن المعارضة تجاه السلطة في المجتمع هي طاقة كامنة موجودة دائما ولا يمكن قياسها فقط من خلال وجود بعض المنظمات، هي تعبير عن حقيقة المجتمع المستقلة عن السلطة السياسية التي لم ولن تكون بديلا عنه.
تواطؤ النظام الحاكم في المنطقة مع القوى الامبريالية وتقديم التنازلات على حساب القيم الوطنية، وملاحظة هذه السلوكيات العميلة من قبل الشرائح الأكثر في المجتمع، أدى الى فقدان الانظمة لكل أنواع المصداقية. الكثير من الوثائق السرية التي تسربت بطرق مباشرة أو غير مباشرة تظهر الى أي درجة انغرقت هذه الانظمة في مستنقع الخيانة والمتاجرة بالقضايا الحياتية لشعوبها، تظهر أنها مجرد بيادق ودمى في أيدي القوى العالمية الكبرى وخاصة الولايات المتحدة. وأن مجال سلطتها لا يتجاوز كونه دعائم تتعكز عليها تلك القوى لتنفيذ مخططاتها في المنطقة. فالرسائل المتبادلة بين من يجلس في هرم السلطة أو حتى الذين يجلسون في رأس الهرم وبين مراكز صناعة القرار في الغرب والتي نشرها موقع ويكيليكس، تظهر التنسيق فيما بين مصر واسرائيل وموافقة مصر مع بعض القوى الرسمية العربية على قيام اسرائيل بالعمليات العسكرة على قطاع غزة في نهاية عام 2009 وكذلك الرسائل المتبادلة بين الحكومات الخليجية والمسؤولين في الادارة الأميركية حول الملف الايراني وغيرها من الوثائق التي كان الرأي العام يملك قناعات حولها ولكن نشرها جاء ليثبت صحة تلك القناعة، كل هذه الوثائق ما هي إلا دلائل واثباتات على أن الأنظمة الموجودة في المنطقة ماهي إلا امتدادات للسياسة الامبريالية وأدوات لتنفيذ أجنداتها مقابل الاحتفاظ بالسلطة. أن هذا السلوك أثار دائما استياء الشارع العربي وأن الثورة التي تشهدها المنطقة ما هي إلا تحول هذا الاستياء إلى انفجار.
بالاضافة الى ما ورد أعلاه في مجال الدوافع السياسية للأحداث، هناك نقطة مهمة للغاية وهي أن النظام فقد مشروعيته تماما، لأن النظام القائم يعود الى عهد الحرب الباردة وكان يستمد مبررات وجوده من التجاذب الموجود في ذلك العهد على الصعيد العالمي. ومع انتهاء فترة الحرب الباردة فقدت الكثير من الانظمة في المنطقة الركائز العالمية التي كانت تستند إليها، فراحت تقوم البعض منها بمحاولات الترميم حتى تتناسب مع خصائص العصر وتوازن القوى الجديدة، بينما أخفقت بعضها في القيام بذلك وبالتالي فأنها تحولت إلى حالات شاذة وغريبة تعيش تناقض مع التوجه الجديد للنظام الرأسمالي العالمي.
على هذا الاساس، فأن تقييم الأحداث على أنها مفتعلة من قبل الدول الكبرى في العالم وأجهزة استخباراتها، هو تناول سطحي وبعيد عن الصحة وهو في نفس الوقت تجاهل قوة الجماهير واستصغارها وغض النظر عن بحثها عن الحرية والمساواة والعدالة واستعدادها للنضال من أجل تحقيق هذه الآمال. وبالتالي فأن الأحداث ليست عبارة عن الجانب العملي لمخطط أميركي مزعوم كما يحاول تصويرها أصحاب نظرية المؤامرة، بل هي تعبير عن رد فعل جماهيري ضد التهميش والاستخفاف والتصرفات المزاجية التي باتت السلوك اليومي لأجهزة الأنظمة الأمنية، وبشكل مستقل، كما هو في المثال المصري والتونسي عن أي تدخل خارجي. بالطبع هذا لا يعني بأن الأحداث في بعض الأماكن هي غير مفتعلة، لأنه من الصعوبة بمكان تناول الأحداث في ليبيا على أنها نتيجة مباشرة للاستياء الشعبي مع وجود هذا الدافع، إلا أننا إذا ما اخذنا بعين الاعتبار العمليات العسكرية التي تقوم بها فرنسا والولايات المتحدة وانكلترا على المواقع الليبية، سنرى بأنها مخطط يهدف الى التخلص من النظام الليبي الذي ظل طوال العقود الماضية على طرفي نقيض مع أطماع الامبريالية في المنطقة. ولكن حتى نكون موضوعيين لابد من أن ندرك أن الأنظمة الحالية فقدت المشروعية وهي عاجزة عن الصمود أمام الرفض الجماهيري داخليا والتطورات العالمية خارجيا، وبالتالي فأن مسألة التغيير باتت عملية ملحة حتى من وجهة نظر المصالح الامبريالية ولكنها تريد تغييراً تحت السيطرة بحيث لا يتعارض مع مصالحه. الغرب وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي تدخل في مناطق النفوذ السوفييتية السابقة، أسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين، القفقاس بهدف تحويلها الى مناطق نفوذ تابعة لها نظرا لما تتمتع به هذه المناطق من ثروات باطنية وموقع جغرافي، ويتم ذلك من خلال تحويل انظمة حكم الدول هناك تحويلا ليبراليا. وقد تحولت بذلك الى دول تابعة من خلال اتفاقيات ومعاهدات وخاصة في المجالات الاقتصادية والأمنية. وبنفس الطريقة فأن التوجه العام للنظام الامبريالي هو الاستفادة من الاحداث والسيطرة عليها وتوجيهها نحو اقامة نظام ليبرالي لا يتعارض مع مصالح الرأسمالية العالمية.
المشاكل الاجتماعية كانت في عداد الأسباب الأساسية للانتفاضات الجماهيرية التي شهدتها المنطقة، الفقر، التخلف، تفشي الجرائم الاجتماعية وتدني المستويات الأخلاقية وتدني مستوى التعليم، بشكل عام غياب العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص، جعلت من الحياة في المنطقة أمرا لا يطاق وخاصة بالنسبة للشرائح التي تعيش في الدرجات السفلى من السلم الاجتماعي والتي تمثل الأكثرية الساحقة من السكان. لابد أن نعرف بأن كل المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات في مناطقها مصطنعة، تعمل الدول وأجهزتها المختلفة على خلقها وخاصة الأمنية منها، حتى يتسنى لها تغيير أولويات الشرائح الاجتماعية وإضعاف اهتمامها بالقضايا المصيرية وإضعاف حساسيتها تجاه القيم الإنسانية. هناك الآلاف من الأمثلة والتي يتم التصديق عليها من خلال الملاحظة اليومية للرأي العام أو من خلال التحقيقات التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني وبعض الهيئات الحقوقية في العالم، التي تثبت وبشكل قاطع بأن نشر المخدرات وخاصة بين الشباب وتفشي الدعارة وغيرها من مظاهر الانحلال الخلقي، تقوم بها الأجهزة الأمنية في دول المنطقة.
بعض الأنظمة اعتقدت أنه بإمكانها تجاوز نقمة واستياء الجماهير من خلال تغيير الثقافة الاجتماعية وتبني القيم الغربية المستوردة، ولكن الأحداث أثبتت أن طرق النفاذ من الأزمة في هذه المنطقة لا يمر عبر محاولات نشر قيم ومعايير الحياة الغريبة التي لا تجد أساس وصدى اجتماعي. فالحقيقة الاجتماعية هنا لها شروطها الخاصة ومكوناتها التي لا تقبل التراجع أمام ما هو آتي من أماكن أخرى وخاصة التي تعترض مع مكون الأخلاق والمعتقد. فمحاولات التقليد لم تؤدي الى تجاوز الأزمة بل زادتها تعقيدا، لأنها زادت من اتساع الفجوة فيما بين الحكام والشعوب في طرق المعيشة والمبادئ السياسية والانتماء الثقافي ومراكز الاهتمام الأخرى. حالة الاغتراب هذه وجدت صداها في الشعارات التي يطلقها المحتجون التي لا تقبل بأقل من رحيل الأنظمة وإسقاطها.
البنى التسلطية التقليدية عجزت عن التصدي للثورة الشعبية وخاصة في كل من مصر وتونس. وإن استخدام العنف المفرط وخاصة في بعض الدول سوف لن يكون اسلوبا ناجحا لاستعادة زمام المبادرة والعودة بالأمور الى ما كانت عليه في السابق. للثورة أهداف واضحة وصريحة هي تجاوز الوضع القائم والنظام القائم وبناء ديمقراطية حقيقية تحفظ للإنسان حقه في الحياة الكريمة. ولكننا يجب أن نلاحظ محاولات الالتفاف والإجهاض التي تواجهها الحركة الشعبية في المنطقة. رغم الهدف المشترك لكل هذه المحاولات إلا أن مصادرها مختلفة وسنقوم بتسليط الضوء على هذه المصادر.
أولها، ما تأتي عن النظام القديم الذي يعمل على التمسك بمقاليد الأمور والحفاظ على استمرارية النظام على أساس احتواء الغضب الجماهيري من خلال القيام ببعض الإصلاحات البسيطة مثل إقالة الحكومات وتغيير بعض الرموز أو ضخ قسم من الأموال وغيرها من الأمور التي تعتبر نوعا من ذر الرماد في العيون. هذه الخطوات لم تحقق أهدافها في إخماد غضب الجماهير والالتفاف على مطالبها الحقيقية، بل تم مواجهتها من قبل الشعب بالسخرية والاستياء والتساءل عن الأسباب التي جعلت الأنظمة تمتنع عن القيام بهذه الإصلاحات طوال عقود حكمها الجائر. حتى المحاولات التي حاولت خداع الجماهير من خلال تنحي الرؤساء ولكن مع الابقاء على مفاهيمهم في الحكم، لاقت الرفض من قبل الجماهير ولم تنجح اللعبة بعد أن أرغمت تلك الصيغ على التنحي أيضا مثل رؤسائها كما حصل في مصر وتونس، الأمر الذي يؤكد على أن الحركة الشعبية يقظة وهي في المستوى الذي يمكنها من افشال اللعبة.
هناك أيضا موقف الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي الذي أثبت مرة أخرى طابعه الاستعماري والذي يرجح المصالح على المبادئ، ويتناسى المبادئ الكونية للحقوق والحريات ليتخذ من المعايير المزدوجة اسلوبا في التعامل مع الاحداث. لقد ظهر ان مستوى الاهتمام الأوربي والاميركي مرتبط بمصالحها الانانية، وليس بالمبادئ الاساسية لحقوق الانسان. هذه القوى تضع أولوياتها على اساس ضمان تدفق النفط وبقاء المنطقة ضمن نفوذها وأمن إسرائيل وغيرها من الأمور التي لا تعير اهتماما بالمطالب الاساسية للجماهير والتي تتمحور حول تجاوز النظام القديم وتأسيس نظام ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات. لم يكن للولايات المتحدة أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في مصر، نظرا لمكانتها في العالم العربي وموقعها الجغرافي على الحدود الاسرائيلية. وعندما أدركت بأن بقاء النظام هناك بات حالة ميئوس منها، أعلنت تأييدها لمطالب الشعب الى درجة انها طلبت من الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أن يتنحى. ولكن الكل يعلم بأن النظام المصري رغم كل ممارساته اللاديمقراطية والقمعية كان الحليف الاستراتيجي لها في المنطقة وكان أحد الدعامات الأساسية لتنفيذ مخططاتها. وكذلك كان النظام التونسي ورئيسه المخلوع زين العابدين بن علي من أهم حلفاء الغرب في شمال أفريقيا. واليوم رغم ما يتعرض له المحتجون في دول الخليج وخاصة في السعودية والبحرين من قمع وقتل، نجد أن موقف الدول الغربية لا يتعدى القيام ببعض الانتقادات الخجولة لأهداف دعائية. ففي الوقت الذي تقيم الدنيا ولا تقعدها تجاه العمليات العسكرية التي تقوم بها وحدات الجيش الليبي ضد المعارضة المسلحة والتي استولت على أسلحة الجيش وليس كما يريد البعض أن يقدمها على أنها تمثل مجموع الشرائح الاجتماعية في البلد، نجدها تغض الطرف عن ما تقوم به وحدات الجيش البحريني من قمع للجماهير التي تتظاهر بشكل سلمي وتخوض نضالا مشروعا ضد التهميش القائم على اسس الانتماءات المذهبية والاثنية. ولا يتم اتخاذ أي موقف تجاه تدخل الجيش السعودي أيضا لقمع المتظاهرين، مع أن هذا التدخل هو تدخل غير مشروع ويفتقر الى كل مبرر من وجهة نظر القانون الدولي. فالقوات التي تدخلت لقمع المتظاهرين في البحرين والتي تطلق على نفسها قوات الدرع الخليجي، كان الهدف المزعوم من تأسيسها هو حماية أي دولة خليجية تتعرض أراضيها للخطر احتلال دولة خارجية أخرى، ولكن ما يحدث الآن هو ليس تعرض دولة البحرين العضو في مجلس التعاون الخليجي، لهجوم خارجي، بل على العكس من ذلك هو عبارة عن تعبير سلمي للجماهير الشعبية عن مطالبها بالحرية والديمقراطية ووضع نهاية للحرمان الذي يعاني منه الشيعة، وبالرغم من وضوح ذلك لكن يمتنع الغرب عن اتخاذ موقف ينصر فيه المظلومين، على العكس من ذلك نجده يؤيد المونارشيات الخليجية رغم طابعها الاستبدادي وممارساتها القمعية. طبعا هذا الموقف السلبي ناتج عن طبيعة العلاقة بين النظام الحاكم في الخليج والدول الغربية، وحاجة النظام الامبريالي الى استخدام هذه الدول لتنفيذ مخططاتها في المنطقة وخاصة التضييق على إيران.
الاهتمام التركي بما يحدث في المنطقة ملفت للنظر، وهي تسخر كل جهودها وتستخدم كل ما تملك من امكانات في سبيل وضع مسار للتطورات بحيث تؤول الى ما ترغب به. وهي لا تتردد طوال الوقت عن تقديم نظامها كمثال من الممكن أن تقتدي به الشعوب العربية والإسلامية لحل مشاكلها. للأسف نجد أن بعض الساسة والكتاب العرب أيضا يعزفون على نفس الوتر ويتحدثون عن إمكانية الاقتداء بتركيا. وهذا بحد ذاته تناقض كبير، كيف يمكن لثورة شعبية قامت ضد التهميش والاستبداد والظلم أن تسير على خطى نظام يمارس نفس هذه الأمور وبأكثر الأشكال رجعية. ولكن لابد من التوقف على أهم جوانب السياسة الخارجية التركية، لأن هذه السياسة تتخذ من الهيمنة أساسا لها وقد استفادت من الفراغ الذي يعانيه النظام العربي لتزيد من طموحها في إعادة الهيمنة أساسا لها وقد رافق ذلك خطوات عملية. ويتم التغطية على النوايا الحقيقية هذه بالمواقف الدعائية والديماغوجية التي تظهر كما لو أن تركيا فعلا حساسة تجاه القضايا المركزية والمصيرية للشعوب العربية. ولكن اذا ما تابعنا طريقة تركيا في التعامل مع الدول الأخرى وخاصة الدول التي تعاني من الضعف في المجالات المختلفة، وبالخصوص اذا ما تناولنا بقليل من التحليل سلوكها في دول أسيا الوسطى التي تأسست على أنقاض الاتحاد السوفييتي وكازاخستان وآذربيجان، وما تقوم به في جنوب كردستان، سنرى بأنها وبالتوازي مع ما تقوم به من استثمارات، تسعى الى التغلغل الى مراكز صنع القرار من خلال تشكيل مجموعات ضغط من المنتفعين والمرتشين وقامت المجموعات التابعة للاستخبارات التركية بمحاولات انقلاب في بعض الدول مثل أذربيجان وأوزبكستان.
إن الدعاية الموجهة التي تتحدث عن إمكانية أن تتحول تركيا كنظام نموذجي يتم على اساسه اعادة صياغة النظام السياسي العربي بعد تجاوز الأنظمة القديمة، ما هي إلا محاولة للإلتفاف على الثورة وإجهاضها من خلال تقديم أناس يتقاسمون القيم والمصالح مع تركيا، على أنهم يمثلون طموحات الشعب ولكنهم في الأساس لا يمثلون سوى صمام أمان للقوى الامبريالية وحليفتها في المنطقة، تركيا. تمنع الأحداث من الخروج عن السيطرة وتبقيها في الحدود التي لا تتعارض مع مصالحها.
من الواضح أن تركيا لعبت دورا في الأحداث التي حصلت في ليبيا، وهذا شيء متوقع ويتناسب مع السياسية التقليدية التركية التي تهدف الى التدخل في الشؤون الداخلية للغير بغرض فرض الهيمنة على المنطقة وإحياء العهد العثماني وإن كان بطرق أخرى. وتصريحات المسؤولين الليبيين التي تحدثت عن هذا الموضوع لم تأتي من فراغ. لأن حجم الاستثمارات التركية تزيد على 60 مليار دولار وهي من أجل حماية هذه الاستثمارات وزيادة حجمها تعمل على التأثير على القرار السياسي في البلاد وتشكيل شبكات مصالح تابعة لها هناك، ومن الواضح أن شبكة المصالح التابعة للاستخبارات التركية قد لعبت دورا في إثارة القلاقل في ليبيا في إطار قيامها بفعاليات الطابور الخامس. لأن الهدف هو فرض الهيمنة والتبعية على بلد غني بالثروة الباطنية وعدد سكان قليل إذا ما أخذنا المساحة الشاسعة من الأراضي بعين الاعتبار. والتدخل التركي هو عبارة عن موقف انتقامي من القيادية الليبية وخاصة شخص القذافي، تجاه مواقفه المؤيدة لحقوق الشعب الكردي ونضاله. وتركيا الآن تحاول استغلال الظرف المناسب في المنطقة لتتخلص من نظام عارض على الدوام سياسة الإذابة القسرية التي عانى منها الشعب الكردي وخاصة السياسة التي اتبعتها.
تركيا لا تمتلك أي حق في اعطاء الارشادات والنصائح للشعوب ودعوة الانظمة الى الاستماع الى صوت الشعوب والامتناع عن الاستخدام المفرط للقوة، في الوقت الذي تغلق هي آذانها على صوت الشعب الكردي المطالب بحق الوجود، وفي الوقت الذي يقوم رئيس الوزراء التركي كل يوم باعطاء الأمر لقوات الأمن التابعة له باستخدام القوة ضد النساء والأطفال الذين يطالبون وبشكل سلمي بحقوق شرعتها كل المواثيق الانسانية. كيف يمكن لها أن تعطي دروس في حقوق الانسان في الوقت الذي تدهس فيه على أبسط حقوق الانسان، حق التظاهر والتنظيم والتعليم بلغة الأم، تشهد كل المناطق الكردية يوميا حالات اعتقالات كيفية تفتقر الى أي مسند حقوقي، وتمتنع عن الاعتراف بوجود الشعب الكردي وحق المجموعات الدينية المختلفة بممارسة ما تستوجبه معتقداتهم وكذلك التهميش الذي يعاني من أبناء المذاهب والمذهب العلوي على وجه الخصوص. تركيا غير مؤهلة لأن تكون الموديل الذي من الممكن أن تقتدي به الشعوب في المنطقة، لأنها تعمل على فرض هيمنتها على المنطقة وليس كما تدعي بأنها تعمل على اقامة علاقات خالية من المشاكل مع شعوب ودول المنطقة، ولأنها تستخدم الدين الاسلامي كوسيلة لتحقيق غايتها في الهيمنة، ولأنها تمثل القيم الغربية الغريبة عن حقيقة الثقافة الاجتماعية الناتجة عن تراكم للقيم على مدار آلاف السنين، ولأنها تعمل على حماية مصالح الولايات المتحدة من خلال عضويتها لحلف شمال الاطلسي وكل الاحلاف والاتفاقيات التي تتعارض مع المصالح الحقيقية لشعوب المنطقة.
والقلق التركي ناتج عن ان الديمقراطية الحقيقية في المنطقة ستلهم الأمل في الشرائح الاجتماعية المهمشة فيها وينكشف زيف ادعائها بالديمقراطية. وأن التغيير في المنطقة من شأنه أن يوفر الارادة للنظام السياسي الجديد في المنطقة وخاصة في العالم العربي لإعادة صياغة السياسة تجاه قوى الهيمنة العالمية التي تلعب تركيا بالنسبة لها دور الوكالة في المنطقة. اعادة صياغة النظام العربي وتجاوز حالة التشرذم والتفكك وتبني مواقف جدية تضمن المصالح الوطنية تجاه قوى الهيمنة العالمية وامتداداتها الاقليمية، أن مثل هذا التطور من شأنه أن يعيد لمصر مثلا مكانتها الاقليمية الأمر الذي يعني في نفس الوقت معادلة النفوذ التركي ومنعها من تجاوز الخطوط الحمراء العربية كما تفعل الآن.
إيران تسعى الى الاستفادة من الأزمة، وتعمل قدر الإمكان على استخدام الأوراق التي قد تجعلها في منأى عن الخطر، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن العنصر الشيعي قد اخذ أبعادا جديدة بعد ان اجتاحت الاحتجاجات دول الخليج أيضا وخاصة دولة البحرين. لان الإستراتيجية الجديدة التي تبنتها الولايات المتحدة ضد إيران كانت ترتكز في إحدى جوانبها الى الدور الذي ستلعبه دول الخليج للتضييق عليها. وقد اتضح من خلال ما سربه موقع ويكيليكس من وثائق، انه هناك ثمة تفاهم وتناسق في المواقف بين دول الخليج وفي مقدمتها السعودية والولايات المتحدة تجاه إيران. والخطوات العملية التي جاءت على شكل تحديث اسلحة الجيوش الخليجية والتي كلفت ميزانيات دولها مليارات الدولارات بالإضافة إلى إقامة القواعد العسكرية الغربية في تلك المنطقة تأتي في هذا السياق.
ولكن الأحداث التي تجري في دول الخليج والمخاطر التي تتعرض لها العروش هناك، تجعل من النظام السياسي منهمكا في العمل على تجاوز أزمته أو الخروج منها باقل خسائر، أي أن حكومات الدول الخليجية منشغلة بشؤونها الداخلية أكثر من القضايا المتعلقة باحتواء النظام في إيران. إذاً، دعك من أن تشكل هذه الأنظمة خطرا على إيران نراها عاجزة اليوم عن تحقيق الاستقرار في دولها . فالأكثرية الشيعية في البحرين مصرة هذه المرة على عدم ترك الميدان دون ان تحقق مطالبها في احتلال مكانة سياسية في البلد يتناسب مع ثقلها الاجتماعي. والتحرك الجماهيري في اليمن الذي بات يهدد وجود النظام، والتعبير العلني عن الاستياء الشيعي في السعودية وما تشهده الكويت من تناقضات بين ممثلي الشرائح الاجتماعية المختلفة. كل هذه الأمور تكبل أيدي هذه الدول -إذا جاز التعبير- وتجعل من أولوية ممارسة الضغط على إيران أمراً قابلا للتأجيل ليتسنى لها التركيز على إيجاد طرق لحل مشاكلها الداخلية ومعالجة أزماتها، وهذا ما يجعل من ان يتوفر لإيران متسعا من الوقت ومجالا واسعا للحركة تكون من خلال ذلك أكثر قدرة على التعامل مع ما تتعرض له من مضايقات.
من الواضح بأن إيران تعمل على الاصطياد في المياه العكرة حيث تعمل مستفيدة من ما يتعرض له النظام القائم في المنطقة من اهتزازات، لإثارة المزيد من التناقضات وخاصة في المناطق المجاورة التي تعتبر ضمن اطار مناطق النفوذ الاميركي. هناك تأكيدات من جهات مختلفة وخاصة مصادر الحزب الديمقراطي الكردستاني على أن لإيران دور في الأحداث الأخيرة في جنوب كردستان وكذلك العراق. وهناك أيضا نشاطاتها على المحور السوري واللبناني وتحريضها ولو كان على المستوى الإعلامي، للقوى الإسلامية في الخليج وشمال إفريقيا ومصر وغيرها من التحركات التي تهدف إلى إيجاد وضع غير مستقر تكون على أساسه أكثر قدرة على التدخل أو على الأقل إضعاف الجبهة المعادية لها.
ولكن الشيء الذي لا يمكن فهمه والذي يعبر عن مفارقة عجيبة هو أنه وبالتوازي مع ما تمارسه من قمع واستخدام مفرط للقوة ضد ردود الأفعال الجماهيرية السلمية والتي تكون لها على الأغلب مطالب عادلة. والقمع الذي تمارسه ضد كل المجردين من الحقوق الدستورية في المجتمع الإيراني من قوميات غير فارسية ومجموعات دينية ومذاهب والنساء وأصحاب ميول سياسية معارضة، هذا القمع الذي ما انفكت أجهزة النظام تمارسه بشكل ممنهج ودون انقطاع منذ ان استحوذ على ما حققته ثورة الشعوب الإيرانية على الشاه من مكاسب عام 1979 والذي زاد بشكل لا يطاق بعد استيلاء القسم المتزمت من المحافظين على مقاليد السلطة من خلال انتخابات مشبوهة النتائج، وتنفيذ أحكام الاعدام الكيفية بحجج وادعاءات ليست لها أي سند حقوقي والممارسات العدائية ضد الشعب والكردي والقوى الديمقراطية، تسمح لنفسها بإعطاء دروس حقوق الإنسان للآخرين.
ان ما تقوم به إيران من تنديد بالحكومات العربية وتأييد مزعوم لمطالب الشعوب هو محاولات مزيفة ليست لها أي علاقة مع الحقيقة، والهدف منها هو خداع الشعوب وكسب دعمها. وهي تحلم بان ينشأ على أنقاض النظام الحالي نظام سياسي عربي يتبنى نفس القيم التي تتبناها إيران. ولذلك نجدها ومنذ بداية الأحداث وخاصة مصر -آخذة بعين الاعتبار مكانة مصر في العالم العربي والإسلامي- دأبت على إظهار انتفاضة الجماهير كما لو أنها إسلامية الطابع وبذلك كانت تدفع القوى الإسلامية هناك وبطريقة غير مباشرة الى القيام بدور قيادي في الأحداث. وهذا مفهوم، لأننا نعرف إن الجمهورية الإسلامية ومنذ انتصارها على نظام الشاه وتهميش القوى والشرائح الاجتماعية الأخرى التي لعبت الدور الأساسي في تحقيق الثورة، عملت على توجيه حركة التحرر العربية نحو تبني القيم الدينية التي تنشرها الثورة الإيرانية في صراعها ضد إسرائيل . ومن المعلوم أيضا ان آية الله الخميني حاول مرات عديدة ان يفرض على ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل، ترك الخط القومي والالتزام بالخط الديني، ولكنه رفض وظل متمسكا بالقضية من وجهة النظر القومية العربية. وبعد ان يأست إيران من ذلك قامت بتوفير الارضية المناسبة لتأسيس منظمات ترتبط بها بروابط عضوية وتتبنى نفس القيم. وكانت تلك المنظمات وما تزال الوسيلة الأساسية التي تعتمد عليها ايران لاختراق النظام العربي. واليوم تطمح الى أكثر من ذلك، ففي هذه اللحظة التاريخية التي تشهد فيها المنطقة انفجارات وزلازل تهز العروش، بل وتسقطها أحيانا، في هذه اللحظة تسعى ايران الى توجيه النشاطات والجهود التي تبذلها القوى المختلفة لبناء نظام جديد، توجهها صوب أهدافها، وخاصة أنها تدفع القوى التي تتقاسم معها المفاهيم والقيم، الى لعب دور قيادي أو أساسي في ما قد ينشأ من نظام على ركام هذا الانفجار. بإختصار تراهن على نجاح القوى الإسلامية في انتزاع زمام المبادرة. والسبب واضح وهو المخاوف الإيرانية من أن تتمكن الجماهير العربية من لم شملها بعد التخلص من الأنظمة الفاسدة التي كانت تعيق تقدمها. مخاوف من أن يتحول هذا النظام وعلى اساس ما يستند اليه من قوة مادية وبشرية، الى قوة إقليمية قادرة على تحقيق السلم الداخلي وعلى خوض غمار التنمية وتحقيق المساواة، والاهم من كل ذلك أن يكون قادرا على معادلة نفوذ القوى الإقليمية الأخرى وخاصة ايران وتركيا ومنعها عن القيام بما تقوم به من اختراق للنظام العربي.
أما موقف الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية من الأحداث في ليبيا كان موجها من الولايات المتحدة وجاء بالتزامن مع المناقشات الدائرة حول قيام حلف الاطلسي بعمليات عسكرية في ليبيا وتطبيق الحظر الجوي على سماءها. والحجة التي تقدمها دول الناتو لتبرير ضرباتها على الأهداف الليبية، هي طلب الحظر الجوي الذي تقدمت به الدول العربية وخاصة الخليجية. وبالتالي فأن مواقف الدول العربية لا تهدف الى مناصرة الشعب بقدر ما هي نتيجة املاءات غربية لإضفاء الشرعية على تدخلها في المنطقة. دائما كانت مواقف دول الخليج تأتي مبنية على أسس السياسة الخارجية للدول الامبريالية، وليس على اساس الحساسية تجاه القضايا المركزية للشعوب العربية. ولكن الازدواجية الفظة تظهر في موقفها من تعامل ليبيا مع المتمردين، فأنظمة الحكم هناك كانت دائما قوة احتياط في ايدي الامبريالية وتسير على اساس توجيهاتها. وظلت تمارس القمع الغير محدود ضد كافة أشكال المعارضة وتقوم بأعمال التصفية الجسدية ضدهم وبطرق وحشية، وتفرض الاذابة القسرية على الشرائح التي لها انتماءات مذهبية واثنية مختلفة. تمارس السلطة الوراثية المطلقة التي تعود في تقاليدها الى العصور الوسطى. ومع ذلك تسمح لنفسها بالتحدث عن تجاوزات في ليبيا وتدعو الدول الغربية الى التدخل. على أساس ما ورد أعلاه، نرى بأن المواقف الرسمية تجاه الحركة الشعبية في المنطقة تفتقر الى المصداقية وتهدف الى احتوائها والالتفاف على اهدافها في الديمقراطية الحقيقية.
إن ما حصل في المنطقة يشير الى فشل المشاريع الاميركية فيها وخاصة المشروع الذي يحمل اسم الشرق الاوسط الكبير أو الجديد في ما بعد، والقائم على القوى الحليفة معها كما هو الحال بالنسبة للاردن ومصر وتونس، لأن هذا المشروع بات يفتقر الآن الى دعائمه الأساسية الأمر الذي من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة الى تغيير أساليبها في التعامل مع المنطقة وما تهدف إليه من تغيير ليبرالي. وقد فضحت الأحداث زيف ما حاولت أن تقنع به الشعوب على أنها ستعمل على انشاء نظام ديمقراطي على الجغرافيا الممتدة من شمال أفريقيا الى الباكستان، ولكن ما يجري في العراق وأفغانستان من تجاوزات وممارسات لا تختلف أحيانا عما كان يجري في عهد الأنظمة السابقة، وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفساد الاداري ومشاهد القتل اليومي. وإتخاذها من الأنظمة الدكتاتورية حلفاء لها في اطار ما تسمى بالحرب ضد الارهاب، وخاصة أنظمة الحكم في شمال أفريقيا والخليج ومصر والاردن، وبالتالي فأن الثورة الشعبية ليست خطوة في اطار المشروع الاميركي بل على العكس من ذلك هي الدليل العملي على فشل هذا المشروع. الثورة الشعبية أظهرت عجز النظام القائم عن القدرة على احتواء غضب الجماهير، وأعلنت مرحلة جديدة هي بداية النهاية لهذه الانظمة. وأن تدابير القمع التي ظلت طوال العقود الماضية، الوسيلة الأساسية وحتى الوحيدة لبقاء الانظمة، لم تعد كافية لردع الجماهير، وأن الغنى في أساليب ووسائل النضال الجماهيري من شأنه أن يتوج هذا النضال بالنصر ويتجاوز العوائق التي تضعها الأنظمة.
المعارضة الكلاسيكية أيضا أظهرت عجزها عن التأثير على سير الاحداث. وظهر أنها أصيبت بالصدمة والذهول أمام هذا الزلزال الضخم، لأن الحركة التي تطورت بديناميكيات جديدة تجاوزت توقعاتها ورفعت من سقف المطالب الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة صيغ المعارضة الموجود على احتضان المشاركين في الثورة، إذا فأن الثورة تجاوزت في اتساعها ومستوى المشاركة الاجتماعية فيها حدود المعارضة التقليدية. فالمعارضة المنفية والمهمشة والمنقسمة كانت تفتقر الى الفعالية في المشهد السياسي بشكل عام. وظهر أن الأشكال التقليدية من المعارضة بأشكال نضالها والقوى الاجتماعية التي تستند اليها وصيغها التنظيمية ليس في المستوى الذي من شأنه أن تفرض الرقابة على النظام ودفعه إلى أن يكون أكثر احتراما وحساسية تجاه حاجات المجتمع الاساسية والديمقراطية. إذاً بالامكان القول بأنه يتم تجاوز أشكال المعارضة الكلاسكية وتظهر معارضة جديدة من حيث النوعية والحيوية الاجتماعية التي تمثلها والأشكال العملياتية الناجحة، سوف يكون من الصعوبة بمكان على النظام القائم السيطرة عليها، وعلى القوى الخارجية خداعها وإبعادها عن أهدافها الحقيقية.
إن الدم الذي يجري الآن في عروق شعوب المنطقة بعد أن كان جامدا اذا جاز التعبير، وظهور ملامح الحياة بأوضح أشكالها، وما تظهره من اندفاع وتحدي وأمل وكل ما يمكن ملاحظته من هذه الصفات في الحركة الجماهيرية لا يمكن وصفها إلا بربيع الشعوب وزمانها. من الواضح أن هذه الحركة سوف لن ترضى بأقل من الحرية والديمقراطية الحقيقية، من خلال مشروع نهضوي ديمقراطي جديد يتم فيه اقتران القيم الاجتماعية والثقافية الايجابية بالبعد العلمي والتقني الذي يشكل هوية عصرنا، قائم على المثل الجماعية والتضامن واحترام التعددية وتجاوز النتائج السلبية التي تركتها الدولة القومية القائمة على التنكر والاذابة القسرية. هذا هو هدف الشعوب وأن تحقيق أمل النصر مرتبط عن قرب بمستويات التنظيم والمعرفة
[1]