أنا ولجنة التحديد والتحرير – 1 – محمود عباس
د. محمود عباس
لا شك حاضر شعبنا في غرب كوردستان هو المهم، والماضي تجارب لإنجاح الجاري وبناء المستقبل، وما سنأتي عليه تاريخ يجب أن يحفزنا لنعمل معا وبقوة أكبر وإيمان أقوى لتصويب أعمالنا الأن وإنقاذ مكتسبات الحاضر.
فمعرفة خلفيات اللجان التي سنتحدث عنها، وأسباب تكوينها، ولماذا كانت تؤم القرى الكوردية بعنجهية وسلطة فجة، يرهبون ويخلقون الفوضى بين الأهالي، ضرورة لإدراك ما بلغه شعبنا المعاني، وما يلاقيه اليوم من المصاعب، وهي اللجان التي تكونت لتنفيذ المخططات العنصرية في الجزيرة والمسماة جدلا بالجزيرة السورية.
طوال مراحل التاريخ منذ نشوء أول الإمبراطوريات والحضارات في المنطقة سكنها الإنسان الكوردي، سادتها عشائرهم كلما كانت تغيب هيمنة الإمبراطوريات، تؤكدها جميع المراجع الأركيولوجية وتاريخ هجرات الشعوب.
ملكية الشعب الكوردي للجزيرة كانت بأسماء متنوعة عكست العشيرة أو القبيلة أو الانتماء إلى العائلة الحاكمة، حدودهم كمراعي كانت مجرى نهر الفرات، وهي حدود كوردستان، بغض النظر عن النسبة السكانية القليلة حينها في المنطقة والعالم، واليوم على خلفية الهجرات الكارثية، ونحن هنا لسنا بصدد ترسيخها بالوثائق والمصادر، فقد كتب فيها الكثير ورسخت عنها مجلدات بلغات عدة وأساليب علمية.
ولتغيير هذه الجدلية، أي إزالة السمة الكوردستانية عنها كان لا بد من تحريف التاريخ، والقضاء على الديمغرافية الكوردية، أدركت السلطات السورية بأنها لن تتم بدون القضاء على الملكية، والسيادة على الأرض، والسيادة يكون بدفع الشعب الكوردي إلى الهجرة منها، والهجرة تتم بخلق الفوضى والفقر والتجويع والترهيب، ولتنفيذها كان لا بد من تكوين إدارات ولجان خاصة، بأسماء منطقية تعكس نوع من التطور العصري، كلجان الإصلاح الزراعي التي دعمت بإدارات أمنية، شكلها نظام جمال عبد الناصر ما بين أعوام 1958-1961، اللجان التي نشرت الرعب بين الكورد في الجزيرة، وبنت المستوطنات العربية بدأوها من على ضفاف دجلة، أحد أخصب مناطق الجزيرة الكوردستانية، سلمت لمجموعات نقلوا من منطقة السلمية وهي لا تزال قائمة، استولت تلك اللجان على أراض العشائر الكوردية وكان المشروع بأن يتم نقل آلاف العائلات من أبناء الداخل والعشائر العربية من البادية، في الوقت الذي كان الفلاح الكوردي بأمس الحاجة إليها.
تلاه مشروع الحزام العربي والذي بدء به حزب البعث من عام 1966، شكلوا لتنفيذها لجان خاصة، مهمتهم أخلاء الشريط الحدودي من الكورد ما بين جزئي كوردستان المقسم ما بين الشمال وامتداداته الجنوبية حيث الجزيرة، بالاستيلاء على أراضي القرى بعمق 10-15 كليو متر وعلى طول الحدود مع شمال كوردستان، وبعدما فضح المشروع دوليا، وانكشفت منهجيتها العنصرية، تم تسميتهم بلجان مزارع الدولة، دون أن يتغير الهدف والغاية، وهي تعريب منطقة الجزيرة وإزالة السمة الكوردستانية عنها، وقد تم تجنيد العديد من الكتاب وسخرت لها دعاية إعلامية واسعة، للتغطية على بشاعة غايات تلك اللجان.
ومع تصاعد سيادة البعث، أصبحت ضرب القضية الكوردية وتغيير السمات الجغرافية والديمغرافية لمنطقة عفرين وجبل الأكراد والجزيرة من أحد أهم مشاريعهم، فقاموا بتطوير نوعية اللجان، منها ما خصصت للتغيير الديمغرافي وهي التي أقدمت على سحب الجنسية من آلاف العائلات الكوردية، وأخرى للقضاء على تركيبة البنية الاجتماعية للشعب الكوردي، وبعضها كانت مهمتها القضاء على الشريحة الصناعية والرأسمالية الكوردية والتي كانت في طور التكوين وهي التي أصدرت قرار 49 المعروف بتدميره للاقتصاد في المنطقة الكوردية، أما اللجنة التي نحن بصددها، لجان التحديد والتحرير، والتي كانت من مهماتها القضاء على الملكية في القرى الكوردية، من تخفيض سقفها على مراحل، إلى مرحلة الطعن في ملكية الفلاحين الكورد، نجحوا في الكثير وكانوا في أطوارها الأخيرة لولا ما حصلت لسوريا.
فما فعلته أحدى هذه اللجان في قريتنا (نصران) الواقعة في شمال شرق الجزيرة وعلى بعد 23 كيلومتر شرق قامشلو، بينت ماهيتها وأهداف السلطة، ومخططاتها ضد الشعب الكوردي.
أدركت وبعد سنوات أسباب فجور اللجنة التي ظهرت فجأة، وعنجهية رئيسها وكيف كان مدربا للقيام بمهمته بخباثة بحيث لا تظهر الغاية الأساسية من أعمالها.
أتذكر عندما جاءت (لجنة التحديد والتحرير) في منتصف ليلة من ليالي أيار، عام 1972م والصخب الذي فعلوه من أمام ديوان قريتنا (نصران) ببوق أو ما يسمى ب زمور السيارة وبضجة، والقرية كانت نائمة، استيقظت مندهشا، أسرعت إليهم، أستفسر؟
ظهورهم الفج غير الطبيعي وفي منتصف الليل، عكست قمة الإهانة بالمجتمع الكوردي الريفي، من خلال إزعاج مخطط ليس فقط للعائلة، بل ولكل أبناء القرية، بل وربما للشعب الكوردي من خلالهم، كنا أمام إحدى أوجه التعامل الفاجر للسلطة مع الشعب الكوردي.
قالوا أنهم لجنة التحديد والتحرير، مع ذلك لم أعرف دورهم ولماذا جاؤوا في هذا الوقت؟ لكن رئيس اللجنة وبدون مقدمات طلب بأسلوب فج وصوت متثاقل فيه نوع من السكر؛ أن أؤمن لهم الفرش للنوم، وعشاء لليلة لأنهم جائعون، بعض الأخوة من أهل القرية الذين استيقظوا مثلي ساعدوني لنقل الفرش من الدار والوالدة المرحومة (عاليا) في تحضير العشاء، أتذكر منهم المرحومين إبراهيم وأخيه صالح حسين وربما سليمان عبدي.
في صباح اليوم التالي، ومن الساعة الثامنة بدأوا بالعمل، أقاموا طاولة كبيرة فرشت عليها أوراق واسعة خاصة لرسم الخرائط وكتابة التقارير مع سجلات رسمية فارغة لكنها مختومة، بعدها وفي نهاية الأسبوع علمت بأنها كانت لكتابة الحكم النهائي لملكية الأرض والقرية، بل ولنقل حكم كارثي على ملكية الشعب الكوردي لأرضه، فيما لو قبلنا جدلية أن نصران جزء من جغرافية وديمغرافية غربي كوردستان.
يتبع…
[1]