#محمد شيخو#…فنان بقامة ثورة
قامشلو/ عبد الرحمن محمد-
الفن ضمير الأمم، ومرارا كان صرخة الثوار، وفي مرات، ومرات كان مرآة المجتمعات، وسر ديمومة الفكر والتراث الأصيل، ووسيلة من وسائل بناء الحضارات، تجتمع في شموليته الإنسانية، وتتمايز في خصوصيته من شعب لآخر.
الفن الكردي اقتصر ولأزمنة طويلة على الفن الشفاهي، وفي النصف الثاني من القرن الماضي بدأ التوثيق والكتابة وتدوين الكثير من التاريخ والفن،
وبهذا حفظت الكثير من الفنون، فوُثِّق الأدب والفن بأساليب شتى، وحفظا في الذاكرة الكردية، المتمثلة بالغناء والموسيقا الكردية الخالدة.
أحد أبرز الفنانين الكرد، وأحد القامات المتفردة في الفن، وفي مجال الغناء والموسيقا كان الفنان الخالد محمد شيخو، ابن قرية “خجوكي” القريبة من قامشلو، والتي شهدت ولادته عام 1948، والذي فجر بحق ثورة بفنه المتمرد على الذل، والهوان، والاستبداد، وجال في أرجاء كردستان، وغنى للطبيعة، والحرية والثورة، والجمال، والثوار، وغنى للربيع وللأرض، ما جعله فنانا من الطراز الأول بفنه الأصيل، ومدرسة في الفن الثوري والالتزام الأخلاقي بالمبادئ، والمثل العليا، ليبقى وفنه خالدين في الضمائر حتى بعد رحيله، الذي فُجع به عشاق الحرية في التاسع من آذار عام 1989.
في ذكرى رحيله المر، كتبت عنه الشاعرة فيروز رشك من الحسكة تقول:
“كأغلب العباقرة، والموهوبين، وفناني العالم، خرج محمد شيخو من بيئة فقيرة، من عائلة، ك
ردية كادحة بسيطة، لم يكن طفلاً عاديا، كان موهوباً، أتجه نحو سماع الموسيقا، وعشق الغناء، وبقي هذا الشغف الموسيقي لديه، وهو ما جعله يكمل دراسته للموسيقا حينما سنحت له الفرصة ببيروت لاحقاً، من العاصمة اللبنانية، وعاصمة الفن آنذاك استطاع أن يعلن عن شخصيته الفنية، وأثبت وجوده الذاتي، وبأسلوبه المميز الخاص، وكيف لا يكون شخصية متميزة فنياً، وهو صاحب أغنيات (eman dilo – hebs û zindan- rabe ji xew) التي انطلقت كالنار في الهشيم بأسلوبها المميز، وبكلماتها المنتقاة بعناية وبصوته العذب، الذي استحق لاحقا لقب “البلبل الحزين”.
والبلابل تحب الحرية، والفنان الأصيل لابد له من التضحية بكل شيء من أجل رسالته الفنية، فسافر من قامشلو إلى لبنان، ثم إلى العراق فإقليم كردستان، ومنها إلى روجهلات كردستان، ومن مسارح بيروت إلى راديو بغداد، مرورا بحضوره الآسر في جبال كردستان وغنائه للبيشمركة.
هذه الرحلة الطويلة رغم سنوات عمره القصيرة لم تمنعه من الاهتمام بالأطفال، وتشكيله فرقة فنية للأطفال ليعلمهم الأناشيد الوطنية دلالة على وفائه، ومعرفته بأن الأجيال القادمة ستكمل بنيان مدرسته، وخلود فنه يأتي من تفاصيل حياته الفنية، وحرصه على خدمة الأغنية والموسيقا الكردية، وضخ الفكر القومي الوطني والإنساني؛ وهو ما يجعلنا إلى اليوم ننصت بكل هدوء وقدسية لصوته، الذي يحمل الكثير من ذاكراتنا الجمعية، فنه الملتزم بقضايا شعبه، والذي لاقى من أجله العذاب والسجن والنفي، وشخصيته الكردية الصلبة، مثال الكردي المتمسك بمبادئه، وقوميته، التي لم يساوم عليها قط.
يبقى الراحل الفنان محمد شيخو أسطورة الأغنية الكردية، أيقونة مضيئة في تاريخ النضال الوطني، ونغمة خالدة في تاريخ الفن الموسيقي.
ورغم مرور 34 عاما على رحيله، فإنه يعيش في تفاصيلنا اليومية ويرثي أحزاننا ويصدح حزيناً، ويحلق بلبلاً في فضاءات أحلام الكرد. الكرد الذين لم يعرفوا مقامات رجالاتهم ومبدعيهم، وربما كان تأثرنا جزءاً من تقصيرنا في حق شخصيات لها الكثير من الفضل علينا، وندين لها بالكثير من الاهتمام.
الكاتب والمخرج المسرحي محمد أشرف من قامشلو، يقول عن الخالد محمد شيخو:
لطالما ملك قلوب الملايين بصوته الشجي، والثائر في الوقت ذاته. ملأ آفاق وطنه الممزق بآلاف الآهات، تمايلت مع نغماته السنابل وتراقصت الورود شجناً، وتهافتت الأرواح سكرى على موسيقاه، ترتشف منها أعذب الألحان، إنه البلبل الحزين الفنان محمد شيخو. غنى بصوت عذب عذوبة مياه ينابيع، وجداول وطنه. تفرد عن غيره بهدوئه وحلاوة لسانه، وطيبة قلبه، وسعة صدره، وتميز باختيار وانتقاء كلمات، وقصائد أغانيه.
كان فنانا شاملا بالعزف، والكلمة، واللحن، والايقاع، وبنفسه الطويل والعميق، انتقى قصائد كبار الشعراء، وغنى ألحان كبار الملحنين، غنى في مرحلة عصيبة، حيث وجد وطنه ممزقاً الى أشلاء مبعثرة، وقسّمت الحدود وطنه دونما رحمة، وزادت في لوعته، وحرقة قلبه كثرة الأحزاب المتناحرة المتصارعة، التي تركت الوطن، والشعب، وقضاياه وهمومه، وبقيت أسيرة الصراعات البينية، وضحية الانشقاقات اللامتناهية.
غنى محمد شيخو في فترة كانت لغة شعبه ممنوعة، حيث لاقى شتى صنوف الحرمان، والتعذيب، وحتى النفي من مسقط رأسه.
لعبت أغانيه دورا عظيما في نمو الوعي الوطني، حيث كان يسمعه كل شعبه من النخبة، وحتى عامة الشعب، الفقير، والغني، والطفل، والمرأة، ويُعَدّ بحق أحد رواد الرمزية الغنائية في وطنه، غنى للورد، والحب، والعشق كما غنى للوطن، والجمال، والإنسانية، حتى وافته المنية في مدينة قامشلو، ودُفن فيها، كما وصَّى في أحد مواويله الحزينة.
محمد شيخو، الصوت الحزين الهادر، والماء الزلال، الذي روى سهول الحب، والوطنية الكردية، أيقظ بفنه الملتزم، وعطائه اللامتناهي، الكثيرين من سبات الغفلة، والاستسلام، فكان وسيبقى رمزا للفن الملتزم، والداعي للحرية، وللسلام.[1]