ترجمة وتقديم: صلاح سليم علي
جون فيليب نيومان حياته وسيرته:
ولد جون فيليب نيومان من أب الماني الأصل وأم فرنسية في نيويورك عام 1826 وتقبل المذهب الميثودي وفق رواية قال انه رأى شخصا غريبا قال له ان الله يريد منك قلبك ثم اختفى ليراه بعد أشهر ويدس في يده ورقة مكتوب عليها إن الله يريد منك قلبك..فرأى في ذلك إشارة لأعتناق المذهب البروتستاني الميثودي الذي اسسه البريطاني جون ويزلي والذي انتشر في اميركا على وقت جون فيليب نيومان..ودخل جون العمل الكنسي عام 1848 ..
ولم يكن مرتبه في السنة الأولى يتجاوز 100 دولار وكان يوفر جزءا من مرتبه بهدف بناء كنيسة أوميتم أوجامعة..وفي عامي 1857 و1858 لفتت مواعظه انتباه الناس فنقل الى نيويورك ..وكان جون فيليب نيومان مولعا بالسفر الى الخارج وبممارسة نشاط تبشيري خارج موطنه فأبحر الى اوربا عام 1860 وقام بجولة واسعة في بلدانها زار بعدها الشرق ليمضي سنة في مصر وجزيرة العرب وفلسطين وتمخضت زيارته تلك عن كتاب عنوانه [من دان الى بيرشيبا] و(دان هو الأبن الخامس ليعقوب واسم لقبيلة من قبائل اليهود اما بيرشيبا فهي التسمية اليهودية للمدينة الفلسطينية المحتلة بئرالسبع ..ويبدو من عنوان الكتاب ان جون فيليب نيومان أراد اختيار عنوان ديني توراتي لزيارته الشرق الأدنى الأولى بحكم دافعه الديني القوي وتأكيدا لزيارته الأراضي المقدسة التي يطلق عليها اسم اراضي الأنجيل إشارة الى مكان ميلاد السيد المسيح (ع) ومهد النبوات في الشرق الأدنى...
وعندما عاد من رحلته عين في نيويورك التي بقى فيها سنتين أرسله بعدها القس آميس عام 1864 لتأسيس كنيسة ميثودية في لويزيانيا في تكساس والمسيسيبي وكانت الكنيسة الميثودية فرع الشمال قد الغيت بعد الإنشقاق الأكليروسي عام 1844 مما دفع الميثوديين الى تنظيم الكنيسة الميثودية الأيبسكوبية [الأسقفية] فرع الجنوب فانطلق جون فيليب نيومان لبناء كنيسة في نيواوليانز بكلفة 50 ألف دولار الحق بها معهدا وملجأ للأيتام بمبان كاملة و[نثرية] مالية وافية..وتفرع عن هذه الكنيسة وملحقاتها اربعة مؤتمرات كنسية ميثودية في السنة الواحدة.. وفي عام 1869 عين نيومان راعيا للكنيسة الميثودية في واشنطن ولكنه تقاعد من هذا المنبر عام 1872 ليعود اليه عام 1875 وفي تلك الأثناء كان نيومان قسيسا اقدم [كاهنا] لمجلس شيوخ الولايات المتحدة للفترة من 1869 وحتى 1874..وفي عام 1873 عينه الرئيس يوليسيس كرانت مفتشا عاما لسفارات الولايات المتحدة في آسيا ..فقام بعبور المحيط الهادي الى الصين واليابان وانتقل منهما الى بحر العرب فعمان فالخليج العربي وصولا الى البصرة ومنها الى الحلة فبابل فبغداد فالموصل...
وكان جون فيليب نيومان يمارس عمله بإخلاص وحرص شديدين وقد تميز بدقة الملاحظة والوصف التفصيلي لكل مايراه فبلغت تقاريره الى الخارجية آنذاك أكثر من 200 صفحة مرفقة بأقتراحات حول العمل الدبلوماسي وضرورة تكييفه مع البيئات والحضارات المختلفة..وأنفق على مدى سنة ونصف من عمله مفتشا للسفارات الفين وثلاثمائة دولار..وكانت الصحف تكتب عن رحلته بانها [رحلة للمتعة] مما استجلب استدعاءه عند عودته للرد على اسألة لجنة من الكونجرس أذهل اعضاؤها بالمعلومات التي لديه عن العالم ..وقد تمخضت رحلته الأخيرة تلك عن كتاب عنوانه [عروش نينوى وبابل وقصورهما].
وطويت صفحة هذا الرحالة والدبلوماسي ورجل الدين في السنة الأخيرة من القرن التاسع عشر عام 1899 .. ولم يكن جون فيليب نيومان ليتمكن من انجاز مآثره وقطع المحيطات والمسافات الشاسعة وصولا الى الموصل لولا صداقته للرئيس يوليسيس كرانت الذي حارب العنصرية وكان ميثوديا بالولادة ..ويعد كتاب جون فيليب نيومان الأخير بما يوفره من صور نادرة عن العراق ووصف لمدنه واحواله عام 1875 مصدرا مهما للمعلومات عن تلك الفترة المتأخرة بعض الشيء من القرن التاسع عشر..وفيما يأتي ترجمتي لما يتعلق بزيارته للموصل.
الموصل عام 1875
قدم جون فيليب نيومان العراق بطريق البحر قادما من مسقط فبندرعباس فالبحرين فبوشهر فالفاو فالمحمرة فالبصرة فالناصرية فبغداد ثم اتخذ الطريق الغربي عبر ديالى فمر بقرة تبة فكفري فطوزخورماتو فكركوك فالتون كبري فاربيل وعبر الزاب بكلك ليواصل رحلته على ظهر الحصان فيمر بقرقوش والقرى شرقي الموصل فاطلال نينوى ومنها الى الموصل ...فيخبرنا عند وصوله قرقوش(في الساعة الثانية في صباح اليوم التالي كنا على الطريق وكانت الغيوم منتشرة على نحو متباعد بما يتيح للقمر إنارة الحقول الخضراء حول قراقوش وبسرعة وصلنا الى الطريق الرئيسي فمررنا بقرية خربة وكان الضوء يسقط على حقول القمح الوفيرة ناضجة السنابل.. ولكن انتابني شعور من الوحدة في مطلع الفجر وكان الجميع من المسافرين معي يتطلع الى بزوغ فجر الصباح... ووتتابعت الساعات ساعة اثر أخرى ببطء لحين انبلاج الفجر فتلاشت النجوم وبات القمر شاحبا بينما اشرقت الشمس..وصادف ذلك اليوم الجمعة العظيمة في بلاد آشور القديمة..كنا وسط خرائب الأمبراطوريات الدفينة..فعلى الجانبين تطالعنا التلال الكبيرة التي تحتضن بقايا عظمة الماضي ... ولوهلة شاهدنا قبب الموصل ومنائرها تطل علينا من الضفة الغربية لدجلة (الجانب الأيمن) من الموصل..فشعر الجميع بالإثارة التي بعثها ذلك المشهد. وكان اليوم هو الحادي عشر على مغادرتنا لبغداد..فقد قطعنا 300 ميل..ويتدفق امامنا النهر الذي كنا نأمل الوصول الى شاطئيه بأسرع وقت غير ان الفيضانات اضطرتنا على الدوران لمسافة طويلة بصبر يخامره ضنك الحفاظ على مطاولتنا بأمل الوصول..فسلكنا وديان عميقة وعبرنا جسور تهتز تحت ثقلنا ومررنا بقرى غادرتها مسحة الجمال وواجهنا قوافل تجار في طريقها الى بغداد..غير ان الهدف ليس ببعيد الآن..فلم تمض ساعة حتى ونحن عند بوابات نينوى القديمة..الى يميننا قصر سنحاريب والى يسارنا ضريح النبي يونس..ولم يبق غير ميل واحد حيث مرسى الزوارق التي ستقلنا الى الموصل..وكان نهر دجلة الذي انتفخ بأمطار الربيع ومياه الثلوج الذائبة في جبال الشمال يندفع بقوة جامحة..وتشاهد في وسط النهر جزيرات عديدة قد غمرتها او كادت مياه النهر..ويمتد من البر المقابل الى الشرق وحتى حافة أكبر القنوات العديدة للنهر وحيث يبدو التيار أكثر قوة وعنفوانا واكثر عمقا جسر حجري تدعمه القناطر كان قد انشيء منذ 200 سنة..وبسبب سرعة التيار وتراكم المياه تم ربط هذا الجسر بجسر من القوارب يبدأ من نهاية الجسر الحجري ويصل حتى الضفة الغربية لدجلة..وقد ربطت تلك الزوارق بسلاسل حديدية وغطيت بألواح خشبية مغطاة بالتراب..وعندما يرتفع مستوى المياه في دجلة يصار الى ازالة القوارب ووضع كلك بدلا منها لنقل العابرين..وكان الحال كذلك عندما وصلنا دجلة فشعرنا بخيبة امل مؤلمة لوجود العديد من الأكلاك التركية ..وكان الوقت وقت حصاد وكان اصحاب القوارب (الأكلاك) يصرخون بنا ويلوحون لنا بأعنف الحركات للحصول على اجور عبور باهضة..ولو كنا عربا لعبرونا بنصف المبلغ الذي طالبونا به..ولكننا دفعنا ضعف المبلغ بحبور لأمتيازنا بكوننا امريكان ..ويشبه الكلك الذي عبرنا به دجلة الكلك الذي عبرنا به الزاب ولكنه أكبر حجما..وعندما دخلنا في زخم التيار بلغت بنا الإثارة ذروتها فقد توسطنا جزرة على يميننا وركيزة صخرية للجسر على يسارنا كان التيار سيرطمنا بالجسر في ابة لحظة عندئذ بدت اللحظات كأنها ساعات..وصرنا نتطلع الى الشاطيء بأمل جموح..ولم يكن طعم الخلاص أحلى إطلاقا من لحظة ارتطام قاربنا بضفة النهر..ولكن موضع رسونا لم يكن مريحا باية حال وذلك لأرتفاع الجرف وانحداره الشديد..ولجريان دماء الأغنام المذبوحة وتلون المياه بسبب تدفق مياه المدبغة المجاورة للشاطيء..وكنا بحاجة لمساعدة العديد من العرب للخروج من الممرات الزلقة بالأوحال..ولم يكن المتطوعون لتقديم يد العون قليل من الرجال والصبيان فقد اندفع الكثير لمساعدتنا لتيقنهم بمكافاة قليل من البياسترات (البياستر وحدة نقدية فضية ايطالية وفرنسية كانت تستخدم في دول الهلال الخصيب ومصر والسودان في القرن التاسع عشر تعادل واحد بالمئة من الباون الأنكليزي).
وبعد وصولنا البر أمنت رسالة تعريفية لنا سكنا مؤقتا في بيت السيد ابو جزراوي المترجم الموصلي في القنصلية الفرنسية..وهو شخص ضخم حسن المنظر يرتدي ملابس أنيقة..وكان مرحا سريع الحركة وكثير الكلام لاحدود لكرمه .. معروفا في المدينة..وكان وجهه المنبسط يتلألأ بالإبتسامات..أما ضحكته فمدوية وفريدة من نوعها..وقد أدى ارتباطه بالقنصلية الى معرفته بعادات الأجانب..وكان يعد نفسه على جانب من التكريم والخصوصية في استضافته لثلاثة من الرحالة الأميركان..وكان بيته كبيرا ومريحا وكانت افضل مافي البيت غرفة الضيوف..ولم تتردد زوجته الجميلة بالإهتمام بسيدتنا المنتخبة [في إشارة الى ألأنجيل]..وكان الجناح المخصص لنا من البيت مجهز بالأثات الشرقي وكان هناك ديوان يستخدم كاسرة للنوم والأرضية مفروشة بالبسط وتزين الحيطان مصفوفات من الخناجر الأنيقة والبنادق.. وسرعان ما إنتشر في الموصل خبر وصول اميركان الى المدينة...وقد اوصلنا رسالة تعريف للخواجا ميخا فجاء ذلك المسيحي الممتاز الى مسكننا ..والسيد ميخا هو أقدم ممثلي كنيسة البعثة التبشيرية البريسبيترية [ المشيخية] الأميركية في الموصل..وهو موضع احترام الجميع لذكائه وتقواه..فبادر بدافع الكرم الى دعوة السيد كولنز [رفيق جون فيليب نيومان في رحلته] لينزل ضيفا عليه..وكان يتحدث الأنكليزية بطلاقة، وكان واسع الإطلاع بالأوضاع الدينية في المدينة ... غير أن اعظم حبور كان في انتظارنا..فقد كان السيد هرمز رسام في الموصل فاسرع لتشريفنا بزيارة ..والسيد هرمز رسام من أهالي الموصل، ويعد من العلماء المتخصصين بالدراسات الشرقية..وقد اختار سيدة انكليزية زوجة له فاصبح بذلك مواطنا بريطانيا..وكان يعمل مع لايرد وراولنسون في التنقيبات الآشورية..وقد جاء كلاهما على ذكره فكالا له أرقى آيات الثناء..ويعود له الفخر في اكتشاف قصر آشوربانيبال الذي يحتضن المكتبة الحجرية [الفخارية] لذلك الملك..والمكتبة محفوظة حاليا في المتحف البريطاني..وقد عاد الى الموصل لحسم ممتلكات اخيه المتوفي (كريستيان رسام) الذي شغل لسنوات عديدة منصب نائب القنصل الأنكليزي في هذه المدينة..
وبكرم لا يمكن نسيانه أبدا قام السيد رسام بدعوتنا لنكون ضيوفه في البيت الأنيق لشقيقه الراحل ..ولم يوفر اصحاب هذا البيت مالا ولا جهدا في جعله مقاما مريحا بما لايقاس..وتركيب بيت رسام على شكل مربع بفناء [حوش] في الوسط تتوسطه حديقة جميلة..وفي الطابق الأرضي في صدر البيت هنالك صالة مفتوحة على الفناء[أيوان] يتوسط غرفتين أحدهما صالة [غرفة] الطعام، والأخرى غرفة الجلوس المزينة بأجمل اشكال الزينة [مقتنيات الأسرة من الزجاجيات والأعمال الفنية] موضوعة في تجاويف في داخل هذه الغرفة التي تستخدم لأستقبال الضيوف [أودة القعدي] ونلاحظ ان سقف غرفة الضيوف بيضوي [مقبب] مطلي باللون الأزرق تزينه زخارف ذهبية من اوراق العنب [العريش] والأزهار والنجوم. وهناك ثلاثة أقواس [عقود] ذات قبب مقعرة تمثل السماء المزدانة بالنجوم. وفي الطابق الثاني وحول الفناء بالكونات [شرفات] رخامية الألواح تمثل واجهات غرف النوم ...وهنالك في البيت ملاذ من حرارة الصيف الاشوري القاسية يقع تحت الفناء [السرداب] مشيد من رخام الموصل [المرمر] ..ويتألف من اقواس عريضة مستقرة على اعمدة منحوتة بزخارف زينية..وقد أقمنا في هذا القصر بهناء على مدى أسبوع مستمتعين بضيافة لايوازي اناقتها غير وفرتها .. فليس ثمة مضيف يهيء لراحة ضيوفه وسعادتهم بمثل ما رأينا في أسرة رسام..وكانوا يقدمون لنا في كل يوم طبقا [أكلة] جديدة خاصة بالشرق لأختبار شهيتنا التي لم تتواهن لحظة واحدة..وكان اكثر طبق يتردد هو كريم حليب الجاموس [القيمر] الذي يؤكل مع العسل السوري الصلب (جبلي المنشأ).
وتحتل الموصل أجزاءا من الأراضي المشارفة على نينوى القديمة غير ان جانبا كبيرا من تاريخها المبكر مازال طي المجهول..فقد تطرق زينوفون الى وصف قلعة كانت قائمة هنا وتعرف في الوقت الحاضر بخربة يارمجة بينما وصف موقع نينوى بأسم ميسبيلسا أي البوابة او المعبر الوسطي..اي الى مكان غير معروف على نهر دجلة ولكنه لم يشر أبدا الى وجود مدينة..وكذلك لم تتطرق المصادر بأسهاب الى مدينة الموصل على عهود الخلفاء..مع ذلك فعندما أحرز الترك السلطة، أصبحت الموصل مقرا لأمراء مستقلين وتعود المباني االشرقية [السور وباشطابيا وقرة سراي وغيرها] التي مابرحت قائمة في الموصل الى عصرهم..وفي أثناء حكم سليم الأول،أصبحت الموصل جزءا من الأمبراطورية العثمانية .. وكان سليمان القانوني قد عقد اتفاقية سلام مع ملك بلاد فارس اصبحت بموجبها مدينة الموصل حدا فاصلا بين اراضي الفرس والراضي العثمانية..ومنذئذ توالى على حكم الموصل الباشوات الذين عرفوا بجشعهم واستبدادهم.. ويتالف سكانها الحاليين من خمسين الف يضمون الكلدان والسريان والعرب، فضلا عن الأتراك والكرد وأقليات أخرى.. وسور الموصل الدائري أقل من ثلاثة أميال في طوله يحتضن حدائق واسعة والعديد من الخرائب..والمباني من الخور بسقوف مقببة وتتوسطها فناءات تغطيها ألواح من الرخام المنحوت..اما شوارعها فضيقة ومتعرجة وليست نظيفة بالمرة.. وقليل من المدن لاقى مالاقت الموصل من ويلات: ففي عام 1825 انتشرت فيها مجاعة استمرت ثلاث سنوات أعقبها وباء الطاعون الذي حصد 18 الف شخص..وفي عام 1832 اجتاحت مياه الفيضان المدينة بأكملها على مدى أشهر مما تسبب لأهلها بمعاناة غير عادية..وكانت التجارة في الموصل في العهود المبكرة واسعة ومزدهرة ولكنها انحطت تحت الحكم الإضطهادي للترك..فقد تلاشت ولم يبق منها اي شيء...وأسواق الموصل عامرة بالأعناب والرقي والرمان والخوخ والخيار والكماء [الكمي] التي تستخدم للأستهلاك اليومي وكذلك بالمكسرات والبلوط [الشاهبلوط] الذي يرد من جبال كردستان ويصدر ..وقد حل محل قماش الموصل الشهير المعروف بالموسولين [الموصلي] قماش قطني أزرق من نوعية متدنية..ولكن الموصل تتفوق بأنتجاج الجلود الحمراء والصفراء والخضراء التي تستخدم في صناعة الأحذية الأنيقة التي يلبسها سكان المدينة..وإذا ما ترتب على زائر غريب أن يثمن الوضع الديني للمدينة من عدد أماكن العبادة فيها، فأنه سيستنتج طبعا ان الموصليين أناس ورعين[دينين].. وكان الأتراك قد درجوا على إجراء إحصاء السكان في ولاياتهم بالإعتماد على عدد الأسر وليس على عدد الأفراد..كما كانوا يصنفون فئات الناس على أساس معتقداتهم الدينية وليس على اساس القومية..[مما يدل على ان فكرة القومية بمعناها السياسي، كانت غائبة]..ومن بين ثلاثة آلاف وثلاث مائة أسرة في الموصل هناك 200 أسرة يهودية وألف ومائة أسرة مسيحية وألفين وخمسين أسرة محمدية [مسلمة]..وللمسلمين عشرين جامع كبير ومائتين وخمسين مسجد في الموصل ..وتقف الى جانب جامع نور الدين القديم منارة جليلة طولها 90 قدم تزينها زخارف من الطابوق الناتيء والمنخفض على الطراز العربي ولاندري أكان بقصد او بصدفة ميلان تلك المنارة على نحو يماثل برج بيزا..والمسيحيون في الموصل ليسوا بكثرة المسلمين غير أنهم أفضل منهم بالثروة والذكاء..وهم [اي المسيحيون] يخفون ميولهم الطائفية على الجميع يدفعهم لذلك حماس تطلعهم لقضية عليا..ويعرفون بالنسطوريين واليعقوبيين والبابويين [كاثوليك] والبريسبيتاريين [المشيخيين البروتستانتيين] .. ونلاحظ أن كنيسة الرومان الكاثوليك الفرنسية ذات هيكل بارز..فقد شيدت من الرخام الموصلي وتعلوها قبتان تستندان على اعمدة رخامية..وتزين دواخلها الصور ويقف على هيكل صخري مرتفع تمثال بحجم طبيعي يمثل مريم [ع]..وكنت حاضرا في قداس الساعة الثامنة لعيد قيام المسيح [احدالقيامة]..وكان هناك قسيسان فرنسيان يديران القداس..وهناك سبع راهبات فرنسيات يتولين الإهتمام بأيتام من مدينة الموصل ويجلسن في مقصورة الى يمين الممر الرئسي للكنيسة [جانسل]..وكان جمهور القداس كبيرا فقد جلس الرجال في المقاعد الأمامية وتحت أقدامهم بسط تغطي الأرضية وجلست النساء في المقاعد الخلفية..وفي يوم الجمعة العظيمة قبل يومين قام الرهبان بتصوير مشهد الصلب على نحو درامي وفي ذكرى القيامة قدموا للمشاهدين المذهولين القبر الفارغ المعطر بالورد والمضاء بالأنوار الساطعة..ثم غادرت روما الى كالديا [ متهكما بالإشارة الى الكنيسة الكاثوليكية الى كنيسة الكلدان] وحضرت طقوس النسطوريين الذين يعدون كلدانا بالولادة..ولم تختلف طقوسهم عن طقوس البابويين [الكاثوليك] ولكنهم يضمرون احدهم للآخر أعمق اشكال العداء الودي..وتنبثق جذور العداوة المرة بينهما بسبب تشابههما فهما متجاوران الى درجة تجعل معيشتهما متجاوريين سببا للتوتر..
وكان من محاسن الصدف أن التقي بيوسف أدو بطريرك بابل ورئيس الجماعة المسيحية الكلدانية في بلاد الرافدين..حيث كان يسكن في الموصل ولكن القساوسة المتروميين [تصغيريا للرومان الكاثوليك] تآمروا على إبعاده بذريعة ان اثنان في صنف واحد لايمكن لهما ان يتفقان..وكان يوسف أدو رجلا جليل المظهر يدعو الى المهابة وكان الناس يجلون مقامه.. فهو الآن القس الكلداني لمالابار [الهند] وذلك بالإسم أكثر منه بالفعل..وقد عاد لمسكنه القديم في الموصل لأن ذلك يتفق مع مزاجه وذوقه حيث يمضي وقته بالصلاة والقراءة والتدخين..وكان حضور طقوس الساعة الحادية عشرة في كنيسة صغيرة لإعضاء البعثة البريسبيتيريانية الميركية يتفق كثيرا مع ميولي ومشاعري..وبغض النظر عن هبوب عاصفة حضر اربعون رجلا وعشر نساء الكنيسة حيث القى الراعي [القس] الموصلي كلمته بحماس ملفت للنظر..ويعد المنتمين لهذه الجماعة الصغيرة من بين أكثر الناس ذكاءا ونشاطا في مجال العمال في مدينة الموصل فهم اشبه بالضوء الساطع في مكان مظلم..ويتمثل اعظم مايحتاجون اليه بحضور مبشر أجنبي يتولى تعليمهم وتشجيعهم والدفاع عنهم..غير انهم محرومون من هذا الخير بسبب الأنطباع السائد بأن اي تبشيري أميركي لن يقدر على البقاء في الموصل، ومما عزز هذا الإنطباع عدد الوفيات بين الأميركان ممن حاول القيام بهذا العمل [ التبشيري]: ففي عام 1833 توفي التبشيريان السيد هينزديل والسيد ميشيل اللذان عينا تبشريان في الموصل ولحقت بهما زوجتيهما ..فقد توفي السيد ميشيل في طريقه الى الموصل وماتت زوجته بعد عشرة ايام من بعده، ومات السيد هينزديل بعد اقامة سنة في الموصل ..وقد ارسلت الكنيسة الأميركية السيد لاوري غير أن زوجة الأخيرتوفيت خلال سنة من اقامتهما في الموصل ، وتبع ذلك موت الدكتور كرانت .. وفي وقت لاحق موت السيد مارش والسيد وليم وزوجتيهما..ثم في وقت لاحق موت السيد لوبدل والسيد هاسكل... ولكن الخواجا ميخا يعتقد أن هؤلاء الرجال الصالحين كانوا سيلقون حتفهم في أجلهم لو كانوا في القدس او ماردين او بيروت..وكان يرى ان الجماعة [البروستنتانية] الصغيرة ينبغي الا تهمل لأن العديد من التبشيريين رأوا الموصل بوابة الى السماء [العالم الآخر] ترتقي منها ارواحهم الى بارئها..
ويعد مسيحيو الموصل يومي الأثنين والثلاثاء بعد أحد القيامة يوما عطلة يكرسان لتبادل الزيارات والدعوات .وهي زيارات تختلف عن زياراتنا في اعياد نهاية السنة وبدء سنة جديدة..إذ تقام في كل بيت حفلة وتنتظر الزوار مأدبة حافلة ..وقد اقام السيد رسام لعدد كبير من ضيوفه مأدبة تليق بمقامه الرفيع وذائقته المتميزة..وقد وفرت تلك المناسبة لنا فرصة مشاهدة العادات الإجتماعية السائدة في هذه المدينة الآشورية النائية ولاسيما الأزياء الإجتماعية [الفولكلورية] الزاهية للنساء الكلدانيات..وكان الجو في الموصل ساحرا وظهرت السيدات بكل سمات الجمال الخاصة بالمشرق..وكان كل شيء يحدث في الفناء خاص بأهل البيت وحدهم وإن تظهر إحداهن على الباب، فإنها تظهر ملتفة بحجاب أزرق مدقق كبير وبحجاب من شعر ناصية الفرس يغطي وجهها بأكمله ولكنهن يطرحن الحجاب عندما يدخلن الفناء لنشاهد روعة مايرتدين من حلي وثياب..فغطاء الرأس المرتفع مزدان بالذهب واللؤلؤ..والقلائد التي تزين أعناقهن متقنة الصياغة اما الأقراط والخلاخيل والأساور فتراها تتلألأ بأثمن المجوهرات ونوادرالحجارة الكريمة..وتغطي أذرعهن وصدورهن فتغطيها أرقى انواع المخمل المزخرف والموشى بالذهب و ترى ثيابهن الحريرية الوفيرة زاهية الألوان مطرزة بخيوط من الفضة والذهب وبأشكال زخرفية متنوعة..وكانت زوجة الشقيق الأكبر لرسام الشابة مزينة كأبنة ملك [لعله يقصد زوجة شقيقه الأصغر نمرود لأن أرملة كريستيان الأنكليزية كما نفهم من السياق لم تكن حاضرة في تلك المناسبة] ولكن مظاهر الزينة الخارجية تلك كانت اقل ملامح الجمال إذا قورن بجمال ملامحهن ولطف شخصياتهن بما يذكرنا بأستير [وهي الزوجة اليهودية للملك الفارسي أحشويروش ورد ذكرها بالكتاب المقدس]..بما يتضمن [طيبة] القلب و[ذكاء] العقل..فحديثهن ينم عن تذوق وفهم للجمال والحقيقة..اما سلوكهن اللطيف فبرهان على تربيتهن في وسط متحضر يحتضن كل اسباب التمدن وىداب الحياة الإجتماعية .حتى لتشعر في ابتساماتهن البهيجة رقة مشاعر ترقى الى مستوى الملائكة.
ويختتم جون فيليب نيومان وصفه للموصل وماشاهده من صور الضيافة في بيت هرمز رسام برحلة نهرية الى النمرود:
وبينما نزلنا الى النهر اخذ المشهد يتنامى في الجمال حيث بلاد آشور الى يسارنا وإلى يميننا بلاد مابين النهرين..وكان المشهد يتنوع بين التلال الخضراء والوديان الثرية والجداول المتعرجة والأكواخ الصغيرة والبساتين النظرة حتى وصلنا عند الظهيرة السلامية التي يعتقد انها تخفي موقع مدينة ريزين التي ورد ذكرها بالكتاب المقدس والتي تعد مهمة بصفتها مركزا تجاريا بينما اصبحت اليوم مدينة عربية بائسةن ولكنها محاطة بالتلال مما يؤكد توغل هذا المكان في القدم..ولأن خيولنا لم تكن قد وصلت حيث رسونا بعد، قمنا بزيارة شيخ السلامية الذي عرض علينا بغالا تاخذنا الى النمرود التي تبعد ثلاثة أميال فحسب لقاء مبلغ باهض مما دعانا الى تفضيل السير على الاقدام على دفع المبلغ الذي طلبه..وفي الطريق لحق بنا فلاح ومعه اربعة حميرفوافق بمبلغ خمسة بياستر لنقلنا الى النمرود..وبعد ساعة رأيتني أقف فوق التل [زقورة النمرود] الذي كان زينوفون قد مر به ووصفه..وكان المشهد واسعا ومبهجا حيث تمتد سهول بلاد آشور الشاسعة والخصبة اميالا في كل اتجاه وهي سهول ثرية بما يكسوها من نباتات خضراء وحقول مزروعة بالحبوب تنتشر فيها هنا وهناك قرى والى جانبها تلال قديمة.[1]