مكانة المرأة في الحضارة السومرية
#مهدي كاكه يي#
الحوار المتمدن-العدد: 6697 - 2020-10-08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مكانة المرأة في الأديان الكوردية (2)
كانت إلهة العصر البايوليثي ومطلع العصر النيوليثي التي عُرِفت في كوردستان ب(شاووشكا) أو (نانا) أو (خيبات) في مطلع العصر التاريخي، تتربع وحيدة على عرش الكون لآلاف السنين، لكن مع نضوج الثقافة النيوليثية وإكتمال الشكل الاقتصادي الجديد وتزايد الدور الاجتماعي للرجل، بعد أن كان المجتمع حتى ذلك الوقت أمومياً في جوهره، نجد الى جانب الإلهة الكبرى إبنها الذي دعته عصور الكتابة ب(دموزي) في بلاد سومر، بينما عُرف بِكنية (بيل) في شمال ميزوپوتاميا (جنوب كوردستان)، حيث تمركزت عبادته في مدينة (Ur. Bîl. um) مدينة بيل التي هي مدينة أربيل الحالية (4)، حيث تمت تسمية مدينة أربيل بإسم هذا الإله.
هكذا تزعزعت الأنظمة الدينية النيوليثية في مرتفعات زاگرۆس مع بزوغ عصر الكتابة وظهور المدن الكبيرة في وادي الرافدَين ذات التنظيمات المدنية والسياسية والإقتصادية المعقدة التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. مع إنتقال السلطة في المجتمع الى الرجل وتكوين دولة المدينة القوية، ذات النظام المركزي والهرم السلطوي والطبقي الذي أقيم على أنقاض النظام الزراعي البسيط، ظهر الآلهة الذكور وتمَ تشكيل مجمع الآلهة برئاسة الإله الذكوري الأكبر، ذلك المجمع الذي يعكس تشعب الإختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة في يد الملِك. هنا تجد الإلهة الكبرى للعصر النيوليثي نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع الديني، بعد أن كانت الإلهة الواحدة التي لم يشاركها في السلطات سوى إبنها الذي نشأ منها، وكان مقدمةً لظهور بقية الآلهة الذكور، إلا أنّ هذا التحوّل في مكانة الأم الكبرى لم يتم إلا على النطاق الرسمي، حيث بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس عامةً، ممن لم يتوجهوا إلا إليها عند الخوف واليأس و أزمنة الشدة وكانت تشتهر في كوردستان بِ(شاووشكا) أي (إينانا) السومرية، إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية و في بابل نجد (ننخرساگ) الأم – الأرض و في الهند (كالي) (5).
رغم هذا التغيير في مكانة المرأة في بلاد سومر، إلا أن المرأة حظيت في الحضارة السومرية بمقام رفيع في مجتمعها، حيث كفلت لها القوانين السومرية حقوقها في كل المجالات الإجتماعية. كما أنّ شريعة (أوركاجينا) حفظت حقوق النساء المتزوجات والأرامل والأيتام، وحمت النساء من جشع الطامعين بهنّ من أُسَرِهنّ أو مجتمعاتهن وأبرز ما إحتوته هذه الشريعة هو منع النساء من الزواج بأكثر من رجل واحد. كما أنّ عقد الزواج كان يتم حفظه كَلوح من الطين عند الرجل والمرأة ومدوّن في محكمة وبحضور شهود، وبإشهار علني وبمعرفة الجميع وترعاه الآلهة والدولة.
يذكر المؤرخ الدانماركي (Thorkild Jacobsen) أن النظام السياسي السومري كان ديمقراطياً، وكان ثمّة مجلسان: مجلس الشيوخ (الوجهاء)، ومجلس المواطنين بما في ذلك النساء، وكانا يجتمعان لاتخاذ القرارات الضرورية، وكان لكل مواطن حقُّ الكلام في هذين المجلسين(a). كما أنّ قصة الخلق السومرية ليس فيه أي ذكر عن التمييز الجنسي بين الرجل والمرأة، حيث أنّ كلا الجنسَين تمّ خلقهما من جبلة طين واحدة.
كان الطابع الديمقراطي سائداً في الفكر الديني السومري، حيث أنّ السومريين كانوا يعتقدون أن أعضاء مَجْمَع الآلهة (پانثيون Pantheon) كانوا يتألفون من الإناث والذكور، وأنهم كائنات شبيهة بالبشر، لكنهم يمتازون بالقدرة الخارقة وبالخلود ولم يكن يدركهم الهرم، وكلُّ إله مسؤول عن جزء أو ظاهرة من الكون، مثل السماء، الأرض، الشمس، القمر، الريح وغيرها مما هو موجود في الكون والطبيعة ومن الظواهر الطبيعية وكان لأعضاء الپانثيون دورٌ فعّال في اتخاذ القرارات.
هنا أشير الى عدد من الآلِهات التي حفظت لنا السجلات التاريخية التي تعود الى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، أسماءها واللواتي عبدهنّ سكان كوردستان القدماء السومريون الى جانب الآلهة الذكور والتي تُبرز مكانة ونفوذ المرأة في الحضارة السومرية رغم فقدانها للسلطة المطلقة وشراكة الرجل لها في السلطة. من هذه الآلهة النسائية هي كما يلي (6):
1 – الإلهة نامّو: كانت البحر الأوّل وأمّ الخليقة، وكان السومريون يتصوّرون أنها خالقة السماء (آن) والأرض (جي).
2. الإلهة نينني (Ninni) (إينانا): إلهة إيالمان (حلوان) (مدينة سەرپێڵ زەهاو) الحالية في شرق كوردستان، التي وجد إسمها على لوحة (هورين شيخان) في نصٍّ تمّ تدوينه في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. هذه اللوحة موجودة في متحف لوفر في پاریس. في مدينة (أوروك) السومرية، إشتهرت الإلهة (نينني) بالقوة المنتجة المسؤولة عن عودة الحياة الى النباتات في فصل الربيع. كما أن الگوتیين إتخذوها كإلهة بلاد گوتیوم. أصبحت (نينني) الأم المنتجة للحياة في سومر وصار (دموزي) زوجاً لها. نظر السومريون الى (شولگی) ثاني ملِك لسلالة أور الثالثة كأخ لهذه الإلهة الذي حلّت به روح الإله (دموزي)، ثمّ صارت (نينني) ملِكة السماء وزوجة (آنو) التي ذهبت الى عالَم الموتى لتخليص حبيبها (تموز). كانت (نينني) تُقيم في معابدها وليس في السموات. لقد سُمّيت مدينة نينوى بإسم هذه الإلهة [7].
3. الإلهة نينوت: تسمّى (نينتو) و(مامي) أيضاً، إنها إحدى تجلّيات الإلهة الأمّ (جي)، وهي خالقة البشر. بعد أن عرف الإله (إنليل) سرّ تمرّد آلهة (إيجيجي)، طلب من الإلهة (نينتو Ninto) أن تخلق الإنسان، ليقوم بالأعمال المُتعِبة بدل الآلهة. مزج الإله (أنكي) الطينَ بِدم إله ذبيح يُدعى (كَنْجو)، فإنتزعت الإلهة (نينوت) (14) قطعة من الطين، وأخذ إله السحر والتعويذ (إيا) يطأ على القِطع الطينية، والإلهة (نينوت) تقرأ التعاويذ، ووضعتْ (7) قِطع على اليمين، و(7) قِطع على اليسار؛ وخُلق (14) إنساناً، (7) ذكور، و(7) إناث. وهكذا تمّ خلق أوّل سبعة أزواج من البشر. في اللغة السومرية ( لولو Lu Lu)، تعني (الإنسان) وباللغة العبرية يُسمّى الإنسان (آدما Adma)، وهذا الإسم العبري قد يكون مقتبساً من الكلمة الميزوپوتامية (آدامو Adamu)، التي تعني (رجل الأرض) أو (الأرضي) (8) (9)وأنّ إسم أبو البشر (آدم) مقتبس من الإسم العبري للإنسان. من جهة أخرى يذكر الدكتور جمال رشيد أحمد أنه ورد في نص طقسي سومري أن الإلهة الأم (نينتو) في كيش، صنعت كائناً بشرياً ذكراً بشكل (نينورتا) وكائناً أنثوياً يقابله [10]. خلق الإنسان من الطين الممزوج مع دم إله مذبوح، يشير الى قُدسية الإنسان في الحضارة السومرية.
4. الإلهة جي Gi: أمّ الآلهة، وزوجة الإله الأب (آنو)، وهي إلهة الأرض، حيث نرى أنّ كلمة (جي cî) السومرية لا تزال حيّة في اللغة الكوردية التي تعطي نفس المعنى (أرض ، مكان). إتّحدت (تزوّجت) الإلهة (جي) بالإله (آنو). عُرفت الإلهة (جي) أيضاً بإسم (نينتو) Ninto، وهذا الإسم يحمل معنى الأمومة(11) (12) .
5. الإلهة (ننخرساگ Ninhursag): كانت إلهة الأم. إسمها مركب مؤلف من كلمة (نين Nin) التي تعني باللغة السومرية (سيدة) والصيغة (هار. ساگ Harsag) التي تعني (الجبل المقدس) وبذلك إسمها يعني (سيدة الجبل المقدس) [b]. (الجبل المقدس) قد يكون إشارةً لِمعبدها (ي – كور E - Kur) في مدينة (إريدو Eridu). كانت لهذه الإلهة أسماء عديدة، منها (نينماه Ninmah) أي (الملِكة العظيمة) [b] و(نينتو Nintu) أي (سيدة الولادة) [b] و(ماما Mamma) أو (مامي Mami) [b] و (أرورو Aruru) [b]. حسب الأساطير السومرية، تمّ تغيير إسم هذه الإلهة من (نينماه Ninmah) الى (ننخرساگ Ninhursag) من قِبل إبنها للإحتفال بِذكرى خلقه للجبال [c]. الإلهة (ننخرساگ) تُشار إليها في نصوص معبد العبيد الى أنها كهنة إلهة المدنية وتمثل على هيئة بقرة.
كانت للسومريين آلهة نسائية كثيرة أخرى، منها الإلهة الحامية للفن والطب مثل (باو) و (ننسو) و (جولا) وكانت هذه الإلهة الاخيرة تسمى احياناً الطبيبة العظمى للسومريين [13]، والإلهة (نانشى Nanshe) إلهة مدينة لجش، وقد ورد في النصوص على أنها تخصصت لرعاية الصدق والعدل والرحمة (14)، و الإلهة (نينسار Ninsar) التي كانت سيدة النباتات الخضراء و الإلهة (نينكورا Ninkurra) التي كانت إلهة المراعي والإلهة (أوتو Uttu) التي كانت لها علاقة بالحياكة، مثل العنكبوت تصنع الأنسجة.
لإبراز المكانة المرموقة للمرأة السومرية، نتحدث بشئ من التفصيل عن الملِكة (پوآبي Puabi)، حيث لا تحظى المرأة الكوردية الآن بالمكانة التي كانت تتمتع بها هذه الملِكة السومرية المُدللة.
الملكة (پوآبي Puabi)
قام عالِم الآثار البريطاني(Sir Charles Leonard Woolley) في الأعوام 1922 - 1933 بالعمل في المقابر الملكية السومرية في مدينة أور التي فيها قبر هذه الملِكة. كانت (پوآبي) ملِكة (أور) من سلالة أور الأولى في حوالي سنة 2500 قبل الميلاد. كانت تختار الأدوات الدقيقة الصنع لِصياغة مجوهراتها والأحجار الثمينة التي كانت تتزين بها. كانت تختار بِنفسها أدوات المائدة الأنيقة المصنوعة من الذهب وكانت خرزات قلائدها من الذهب والفضة ومن مختلف الأحجار الكريمة التي تمّ العثور عليها في المقبرة. كذلك تمّ العثور في مقبرتها على شرائط ذهبية وزهور مستخدمة كَزينات الرأس وحتى أن علبة زينتها وملاقطها مصنوعة من الذهب. كانت تلبس إكليلاً للرأس، مصنوعاً من الذهب الخالص، ترتفع فوقه ثلاث زهور تبدأ من مؤخرة الإكليل الخلفية وتنحني حركة الخطوط الثلاثة بِرقة، مُشكلةً نصف أقواس تتطاول فيها الأدوار الثلاثة.
كانت (پوآبي) ترتدي فوق ملابسها ثوباً قصيراً لحد الخصر، والذي كان عبارة عن سلاسل من الخرز المصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وكانت هذه السلاسل تنتظم بخيوط وتتصل بِطوق حول العنق ثم تتدلى هذه الخيوط على الأكتاف. أما الأقراط التي كانت تلبسها في أذنيها، كانت أقراط هلالية الشكل، كبيرة الحجم. نظراً لِتمتعها بمركز رفيع ولكي لا تشعر بالوحدة في قبرها، تمّ دفن 59 شخصاً معها مع كميات كبيرة من الحاجيات الثمينة والعربات والأدوات. تمّ دفن (پوآبي) بِكامل زينتها وممددة على سرير خشبي مع وصيفتَين لها، الأولى قرب رأسها والثانية قرب قدميها ومعها ثلاث أختام أسطوانية لازوردية تحمل إسمها ولقبها (15).
النساء السومريات كنّ عازفات ومغنيّات ماهرات
كان السومريون مولعون بالموسيقى، وكان للنساء دور كبير في الغناء والعزف. كان المنشدون خاضعين لِإدارة المعبد وهي وظيفة يتوارثها الموسيقيون والمغنون الذين كانوا ينقسمون الى مجموعتين، في المجموعة الأولى، يُسمى الموسيقار او المغني (كالا) وهو المتخصص في الاغاني الدينية الحزينة، و في المجموعة الثانية يُسمى الموسيقار أو المغنّي (نار) الذي كان متخصصاً في إنشاد الاغاني الدنيوية وخاصة في حفلات الأفراح مثل أعياد (طقس الزواج المقدس)، حيث كانت هناك فرق موسيقية خاصة بالقصر الملكي، فيها نساء عازفات الى جانب الرجال الذين ينشدون الأغاني والترانيم. كانت هناك نساء عازفات ماهرات، حيث أنّ الوصيفات قد كُنّ ينتقلن الى هيكل الملِكة ومعهن القيثارات، وخاصة قيثارة اور الكبيرة والدقيقة الصنع التي كانت منتصبة في أرض المدفن بإرتفاع يبلغ حوالي 120 سنتيمتر وقد استخدم الفنان في عملها الذهب واللازورد وإستخدم مواد اخرى مختلفة مثل الفضة والصدف والعقيق.[1]