من الإسلام إلى التعريب - الجزء الرابع
#محمود عباس#
الحوار المتمدن-العدد: 4931 - #20-09-2015# - 22:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في هذا السياق يمكن ضم معظم القبائل العربية خارج مكة والمدينة إلى واقع التغيير اللغوي والسياسي، تلك التي لم تكن تتكلم لغة القريش، أو لهجة قريش.
كانت اللغات مختلفة بين شمال الجزيرة العربية وجنوبها أو اليمانيين ونجد وغيرهم، يذكر العديد من مؤرخي اللغة العربية أن قبائل عربية لم تكن تفهم بعضها، فقيل أن قصائد بعض الشعراء الجاهليين، كأمرؤ القيس، الذين نفى وجودهم طه حسين لم تكن مكتوبة أو محفوظة بلهجة قريش أو كما يذكر، لغة القرآن، وحتى أن المكتوب عند اليمانيين اختلفت كثيرا عن لغة القرآن، عرضت في هذا السياق تفسيرات مطعونة فيها، ويعرض الباحثون مخطوطات تبين عمق الخلاف اللغوي في الجزيرة العربية، ومن ثم دراسات حول مراحل سيادة لغة القريش عن طريق القرآن على أطراف الجزيرة العربية وظهور اللغة العربية الجامعة، من اللهجة القريشية، لتتطور مع القرون، وتنتشر بالشكل الذي جمع عليه القرآن، وهي التي دونت بها الدواوين والكتابات ولتنتقل من لهجة قريشية إلى لغة عربية، لتسود فيما بعد ليس على الجزيرة العربية فقط بل وبنفس الفترة على معظم المناطق التي تسمى الأن جدلاً بالوطن العربي، ولا شك الفضل للقرآن في سيادته وللإسلام في انتشاره وطغيانه، وفرضه على الشعوب المحتلة.
ولا يعني هذا بأن المعروض هنا هو انتقاص لمكانة اللغة العربية أو السوية التي بلغتها الأن، ولا بالشعب العربي، لكن عرضها بقدسية وتحويل الاحتلال إلى ملكية مطلقة، تتعارض والمنطق والعدالة والحكمة، فالسياق التاريخي محرف، كتب بيد قوى غير عادلة، وبأوامر مستبدين فرضوا عصبيتهم العربية مسخرين مفهوم الأمة الإسلامية، وفيما بعد طغاة عروبيون ألغوا الأخر أصحاب الأرض من الذاكرة التاريخية وشوهوا صفحاتها.
متناسين ولغاية، أنه قبل ظهور القبائل العربية تحت راية الإسلام في المنطقة، معظم الشعوب كانت لهم ثقافتهم ولغاتهم المميزة، وكانوا ممالك، ومعظمهم خلفاء حضارات، حتى ولو كانوا راضخين أو متلائمين مع ثقافة والنظام الاقتصادي للحضارة البيزنطية، والتي كانت إمبراطورية عسكرية، وقوة استعمارية أجنبية مستبدة وطاغية، مثلها مثل الاجتياح الإسلامي-العربي، غريبا عن الأرض والشعب، باستثناء الاختلاف الحضاري ووجود نظام الدولة، والقوانين المدنية عند الأول وغيابه عند الثاني.
فرغم احتلال قادة وجيوش الرومانيين أو البيزنطيين للمنطقة لفترة لا تقل عن الفترة التي يجثم فيها المحتل العربي-الإسلامي على المنطقة وشعوبها، دون إدراج فترة الاستعمار العثماني وغيرهم، لم تفرض على الشعوب السورية وشمال أفريقيا التخلي عن ثقافتهم ولغتهم، مثلما فعلها الاستعمار العربي، بسبب الفاصل الحضاري، والمدنية، بينهم وبين العصبية القبلية العربية الجاهلية الطاغية على مفاهيم الأمة الإسلامية وشبه الغائبة عند الأمة العربية حاضراً.
وبعودة إلى ما ذكر سابقاً، وللمقارنة، فقد استخدمت جيوش الطرفين، الرومانية والعربية، نفس الأدوات الفكرية، المسيحية والإسلام، بخلاف أن الإمبراطورية أتبعت ديانة المنطقة، وتبنتها ورعتها، وحكمت بمبادئها، وما فعلته في شمال أفريقيا مشابه لما فعلت القبائل العربية، وهيمنت بحكام على المنطقة من خارج شعوبها، وهو نفس النهج الذي أتبعه الحكام القادمون من القريش حصراً، ليسودوا على جميع المناطق التي أحتلت(فتحت) كشمال أفريقيا حيث الشعوب والقبائل التي لم تكن قد عرفت العرب سابقاً، ومثلهم مناطق الكرد والسريان أو الأراميون والأرمن، والفرس. والقبائل العربية بعكس البيزنطيون فرضوا الإملاءات الإسلامية باللغة العربية تحت منطق معرفة تعاليم القرآن وبلغتها حصراً، وحرف بطغيانها كل التاريخ السابق لتلك المناطق على مر القرون اللاحقة، أما المسيحية فقد عرضت بعدة لغات ومن ضمنها لغات المنطقة نفسها. وكمثال عن عمليات تشويه التاريخ، الخطبة العصماء لطارق بن زياد والذي لم يكن قد مر سنتين على إسلامه، أثناء دخوله الأندلس، فكتب في التاريخ إن الخطبة كانت باللغة العربية دون ذكر أمازيغيته ولغتهم التي خطب بها، فلا يعقل، إتقانه للغة العربية وبتلك الرصانة خلال سنتين، فالمذكور في كتب التاريخ، والمدروس في جميع مدارس العالم الإسلامي، تبين أن الخطبة التي تحدث بها قائد الجيش هذا لجنوده الأمازيغ المسلمين، وبأمر من موسى بن نصير، كانت باللغة العربية القريشية وبتلك الفصاحة، ناكرين بها الأمازيغية شعباً ولغة. فتلك الفوقية والتعتيم على الشعوب الداخلة إلى الإسلام، والتي فرزت تحت أسم الموالي، كانت لخلفية طغيان العصبية العربية الجاهلية على مفهوم الأمة الإسلامية، وبينت على أن الاحتلال كان عربياً قبل أن يكون اعتناق للإسلام.
تحت سيادة القتل وبعباءة الرهبة الإلهية، توسعت الخلافة الأموية على مساحة جغرافية واسعة، وإلى أن قضيت عليها، لم ترفع صرحا حضاريا واحدا، ولم يدرك قادتها مفاهيم الدولة المدنية رغم احتلالهم لها، وكانت غائبة لسابقيهم من الخلفاء الراشدين، فكل ما فعلوه فتوحات في الجغرافيات، وتغييراً سلبيا للمعالم الحضارية السابقة وأصباغها بالصبغة العربية الإسلامية، فغيروا في معالم كنيسة يوحنا المعمدان، والمتحولة أصلاً من معبد حدد الآراني أو معبد جوبيتر فيما بعد، ليصبح الجامع الأموي، وكذلك معبد سليمان والذي كان سابقا معبد حيرود، ليبنى مكانه المسجد الأقصى، وغيرها من المعالم التي كانت موجودة في فترة الحضارات السابقة. وفعلها مثلهم الخلفاء العباسيين، في كل المناطق التي اجتاحوها، وما ظهر لاحقا في بعض المناطق كالأندلس والمناطق الإسلامية الأخرى، تتبين أنه في الأولى لشعوب شمال أفريقيا الدور الرئيسي، وفي الثانية للفقهاء والعلماء من شعوب تلك المناطق المحتلة، وبتتبع تاريخ معظم العلماء المسلمون، يظهر شبه غياب للعنصر العربي بينهم، وذلك لاستمرارية طغيان ثقافة العصبية الجاهلية والتي كانت تقلل من قيمة القلم والمعرفة.
وفي هذا السياق لا بد من ألقاء نظرة مستعجلة على التغيير الديمغرافي للقبائل العربية ما قبل الإسلام وما بعده وحاضراً. فلم تكن نسبة سكان الجزيرة العربية في بداية الإسلام أكثر من سكان الشعب المصري الأقباط والنوبيون، أو الأمازيغ، أو الكرد، ولا من السريان أو الأراميون والفينيقيون، أو الفرس، ولكن ومع مرور القرون، وانتشار الإسلام وهيمنة اللغة العربية، تعربت نسبة كبيرة من هذه الشعوب مع تقبلهم الإسلام دينا، وقد كان الانتماءين مترابطين للعديد من الشعوب، فتناقصت ديمغرافيتهم، وتزايدت نسبة العرب بسبب عاملي الدين ولغة القرآن، لتتجاوز أعدادهم اليوم 300 مئة مليون نسمة، دون أن ينظر أي دارس أو مؤرخ لخلفيات هذا التغيير الديمغرافي غير المنطقي، لتشمل كل الذين يتكلمون اللغة العربية في شمال أفريقيا ومصر وسوريا الكبرى.
ومع تفاقم الثقافة العروبية، منعت السلطات الشمولية في القرن الماضي كاستمرار لتاريخ جائر، الأخرين من التحدث أو معرفة أن سوريا الكبرى مثلها مثل شمال إفريقيا وإيران وخراسان والدول الإسلامية الأخرى، لا علاقة لها بالعرب، وهو عنصر محتل مثله مثل الذين سبقوه، فتاريخ سوريا غارق في القدم، وعريق، أعرق من ظهور الإسلام والعرب، شعوب مرت عليها حضارات، ولغات عديدة، ولم تكن للغة العربية حضور بين تلك اللغات، قبل ظهور الاجتياح العربي-الإسلامي، أو ما يسمى بالفتوحات، وفي الأبعاد الفكرية والثقافية يحق للشعوب تبني الديانة الملائمة لكن احتلال الشعوب تحت غطائها مرفوض، وفي التاريخ أمثلة عديدة، حول زوال الاحتلال رغم رسوخه لقرون، فالاستعمار لا يدوم.
لا بد من ذكر هذه الحقائق ليس غبناً أو إجحافا بالإمبراطورية التي بنوها، بل بأساليب توسعها، فقد كانت إمبراطورية دموية مثلها مثل الإمبراطوريات التي سبقوها، لكنها بعكسهم كانت خالية من عناصر الحضارة، لشح المعارف عند القبائل العربية أو عدمها عند الأغلبية منهم، ولانشغالهم بالسيادة وطغيان العصبية العربية. والسلطات الشمولية العربية الجارية في المنطقة هم ورثة تلك الثقافات، فقط الاختلاف بينهم هو التغيير من راية الأمة الإسلامية إلى راية الوطن العربي، والاستعمار هو نفسه، والمنظمات التكفيرية الإرهابية مع الحكام الطغاة يعكسون الماضي السياسي العربي الإسلامي في كثيره...
يتبع...
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
[1]